ثمار

مجنون فاطمة

عند اقتراب ثلث الرواية الأول من الختام، أمرت (فاطمة) أن تسجد لـ(خالد)، فلا يوجد اعتذار يوازي خيانتها الأخيرة سوى ذاك. ضحكت بغنج متهور، وحاججتني: “ألست من كتبني بعيون طفلة، وخصل حزن عتيق، ابتسامة فجر فاضح وجسد جارية أندلسية؟ كتبتني من نار، وكتبته من رهق، لا ينبغي للنار إلا أن تتوهج، تلهب قلوب المتدثرين بوهم الكرامة، ولا ينبغي للرهق إلا أن يزداد ذلاً على ذلٍّ”.
انكسرت سن قلمي أمام غرورها المعاند، سال حبري بلا هدى يبحث عن أخرى تسكن قلب ذلك المنفطر القلب بلا جدوى، خالد، كما جعلتها تخنقك بعبرة باردة، سأعطيك سكيناً ميتة كإحساسها بك، تمارس ذبحها حتى آخر مدارج الرواية.
وجد حبري الحل في (فاطمة) أخرى، بذات البهاء، يلتقيها (خالد) على شاطئ النيل حين غروب، تخرج من بين طيات الموج الخامل كحورية ناضجة، يناديها حلماً: “فاطمة” فتلتفت، يظن حلمه حقيقة، قبل أن يعي أن حلمه أجمل، (فاطمة) الأولى كانت تتلصص اتفاقي السري وقلمي على إبعادها عن أعطاف قلب عاشقها الأكبر، تضحك، ثم تهمس: “كتبته مهووساً بعشقي، حتى حينما أراد حبرك أن ينقذه من براثن فاطمة، رماه في حضن فاطمة”.
تمر السطور، وتلحظ فاطمة أن (خالد) خرج ولم يعد حتى الآن، مرت صفحات عدة منذ آخر مرة رأت فيها دموعه البائسة ترتمي عند قدميها، فتنبت توسلاً مرضياً لروحها التائهة، طافت بين الحروف تبحث عن اسمه خلسة، تساءلت عند الهامش: “هل حقاً أنسته تلك الـ فاطمة المزيفة هوسه بي؟”.
طرقت على رأسها بطرف قلمي بحنو كاتب على شخصيته، ادّعت عدم الاكتراث، ثم قالت: “أنا فقط أبحث عن تلك التي يبحث فيها عني، أشفق على هوسه بي، أتظنني بلا قلب كقلمك؟”.
تبسّمتُ بسخرية. أظنها نسيت أن قلمي هو من خط غيرتها القاتلة.
التقتها ما بين نقطة وفاصلة، أجالت بصرها فيها تحادث نفسها: “لكأنما أنظر في المرآة”.
أجابتها (فاطمة) الأخرى: “حديث القلب يكتبه القلم، تسمعه كل القلوب التائهة، لا مكان للسر بين طيات رواية”.
أطرقت بخفر، علمت أن دواخلها الحائرة مكشوفة لحورية الأمل، تمتمت بصدق: “أتعلمين أنه يبحث عني فيك؟ أتظنين أنك أنت من صنع عشقه؟ أنت مجرد دمية، اشتهى أن ينفخ فيها من روحي، ثم لم يستطع”.
صمتت فاطمة الأخرى، فأصاخت فاطمة الأولى لهفة روحها لحديث الصمت، فلم تلتقط حرفاً واحداً، سألت: “كيف تستطيعين سماع حمحمة خاطري ولا أسمعك؟”.
أجابتها الأخيرة: “فقط كي تدركي أنني أعلم أنه جاءني يبحث عنك فيّ، ما لا تعلمينه، أنه قد وجدك”.
ليست ابتسامة تشبهها، بل هي ذات الابتسامة البريئة التي تفتقد، تاهت (فاطمة) الخائنة بين السطور والحروف تبحث عن عودة إلى الفصل الأول، تشابهت عليها الكلمات، نظرت إليّ تستعطفني، تظاهرت باهتمامي بارتشاف بعض قطرات اختبارية لكوب الشاي بين يدي، نطقت هي حسرة: “لم أسجد له، ولن أسجد لقلمك يكتبني مرتين بذات البهاء، أجل هي أنا، حين كنت أنا”.
ثم عادت إلى حيث جنة (خالد) و(فاطمة)، توسوس لهما بشهوة الاكتشاف.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى