ثمار

عِقدُ الأَوْغَاد

وجيء برجلٍ ثالثٍ عندَ الفجرِ، أنيق، تَعْلُو وَجْهَه ابتسامةٌ ساخرة.

الشُّرطِي الذي دفعه من خلف قال:

– سيكتمل عِقدكم قريباً أيّها الأَوغَاد.

أَغلقَ باب الزنزانة بإحكامٍ ثم مضى. تابعتُ خطواته وهي تبتعد حتى اختفت تماماً.. بعدها سألتُ الرجُل الأَنيق:

– أَينَ وجدُوك؟

-في حانةٍ بأطرافِ المدينة.

– ولِماذا جيء بكَ إلى هُنا؟

-تباً للنساءِ.

قَالَ مِنْ وراءِ ابتسامتِه السّاخِرة، قَبلَ أَنْ يختار مجلسه في الزنزانة.

– وما علاقة النساء بوجودِك هنا؟

اعتدلَ الرجُل الأنيق في جلسته.. طلب سيجارة – مع أنه يدرك تماماً عدم وجودها – ولما لم يستجب أحد لمزاحه، أخرج قلماً وضعه بين إصبعيه كأنّه يدخن ثم قَالَ:

– لا أدري على وجه الدقة لماذا قبضوا عليّ. لكن.. ثمة أنثى لها علاقة بوجودي هنا. كنت أنتظر ندمائي في تلك الحانة، أشغل وقتي بالتدخين والتفكير في أشياء كثيرة. بعضها مصيري والبعض الآخر مجرد نزوات وأمانٍ لا تخرج من إشباع الرغبات الدنيا. مثل أن تفكر في أنثى تعتقد أنها ترمم ذاتك، وتنتشلك من ضياع تحسه.. كنت أرسمها من دخان سجائري المتصاعد.. أنثى تفيض بالاشتهاء مثل التي انتصبت أمامي في تلك اللحظة، لا أدري من أين جاءت. نعم، كنت أفكر في أنثى.. والتفكير خيال.. لكن التي وقفت أمامي كأنها انبثقت من دخان سجائري، كانت حقيقة.. أنثى بلون سنابل قمح كاد يُحصَد، ناهد، ضامرة الخصر، لم تنبس ببنت شفة.. لكنها أشارت إلى سيجارتها غير المشتعلة. مددتُ لها سيجارتي المشتعلة كي تُشعل منها.. هزّت رأسها بالرفض، ناولتها القداحة.. وحين أوقدتها، بانت تقاطيع وجهها الجميل، وجه بديع تتراقص عليه ظلال لهب القداحة فيبدو كوجه قديسة في معبد. استيقظتْ شياطين الرغبة في داخلي. نسيتُ أمر أصحابي ودعوتها للجلوس. شربنا حتى الثمالة.. تكلمنا في مواضيع شتى. سببنا الحكومة وشتمنا العسكر.لم أسألها عن اسمها.. ولكنني سميتها فينوس.. بدأتُ أنسجُ خيوط نزقي حولها.. استدرجها إلى عوالم أحبكها بمهارة.. أنسجها من بنات أفكاري، ومن فرط سحر تلك العوالم حتى كدتُ أصدقها. أردتُ أن أدعوها لمرافقتي إلا أنها استأذَنَتْ وخَرَجَتْ من الحانة لقضاء حاجة. شغلتُ وقتي بطيفها ريثما تعود.جاء اثنان. أخبرني أحدهما بأن الأنثى التي كانت تجلس معي، تتقيأ بالخارج.على الرغم من الخبر الصادم.. إلا أنني فكرت في استثماره لصالح نزوتي الجامحة.. سأستغل مهنتي كطبيب واصطحبها.. لا يهم إلى أين.. لكنها سانحة يجب انتهازها. تحاملتُ على نفسي وتحركتُ في اتجاه الباب المؤدي إلى الخارج حيث الأنثى تتقيأ.لم أشعر بنفسي إلا وأنا أُحمَل من الأرضِ، وأُقذف داخل سيارة مؤخرتها مفتوحة على باب الحانة مباشرة.

***

في فجرِ اليومِ التالي، جيء بالشخصِ الرابع. عابس الوجه.. غزير الشعر.يرتدي نظارة سميكة.قال الشرطي بعد أن زج به إلى داخل الزنزانة:

– كاد العقد يكتمل يا خَوَنة.

حيانا باقتضاب وظل واقفاً. وقبل أن يجلس في الحيز الذي أُفسِح له، قال:

– الموت للنساء.

– وما دخل النساء فيما أنت فيه؟

سألته دون مقدمات.من خلف عبوسه قال إنه كان يسكر في حانةٍ بأطرافِ المدينة. كان وحده ينادم نفسه. وصل مرحلة من السُكر جعلته في حالة ما بين الصحو والمنام.. كانت الأشياء تتراقص أمامه فتصير لها قراءات أُخر. يصحو ليصب كأساً.. يدلقها في جوفه ويسافر بعدها مع أوهامه العجيبة.. كان مترعاً بالشجن والحنين. وحين استبدت به النشوة صار يغني. يعزف ويترنم بأغاني الحنين والشجن.ثمة صوت كان يردد معه الأغنيات. صوتٌ شجيٌ كأنه لغجرية تعبت من كثرة الارتحال والتنقل بين الديار، فحَنَّتْ إلى وطنٍ يسكن خيالها. وثمة صوت من ركنِ الحانةِ صاح:

– غنِّ للثَّورةِ والثُّوار.غنّ للثورةِ والثوار.

ردّد معه الصوت الأنثوي الباذخ أغاني الثورة والثوار. قال إنه وضع المعزف وصب لنفسه كأساً.. بدأ يفكر في صاحبة الصوت التي تردد معه الأغنيات، يتخيلها ولكن ليست كالتي انتصبت أمامه، أنثى تنضح فتنة وإثارة. باذخة كأميرات العصور الوسطى، وقفت أمامه شامخة.. حيته بابتسامة. أخذت المِعزف وغنت لوحدها. غناؤها أطرب كل الحانة.كأنّ نداءً خفياً دعاها.. وضعت المعزف وهرولت إلي الخارج.جاءه اثنان. قال أحدهما:

– الأنثى التي كانت تعزف وتغني قبل قليل، تَنزِف بالخارج.

مترنحاً اتجه صوب الباب. استقبلته مؤخرة سيارة مفتوحة على بابِ الحانةِ مباشرةً.

***

قذفه مثل كرة وقال:

– الآن اكتمل العقد يا أوباش.. غداً سترون.

أغلق باب الزنزانة ومضى.

***

صرنا خمسة. خامسنا لم يتكلم بالرغم من محاولاتنا المتكررة في استدراجه إلى النطق، لكنه استعصم بصمته. خمسة رجال محشورون في غرفة ضاقت بوجودهم.ينتظرون المجهول. حديث الشرطي الأخير فتح خيالنا على احتمالات شتى..احتمالات حتماً ليست طيبة.. كنت ثاني الحاضرين إلى هذا المكان.. بيد أن تفاصيل قدومي تختلف عن البقية.. لم آت من الحانة.. الأنثى بأوصافها تلك لم ألتقِ بها هنالك.. قذفها القدر في طريقي أثناء حفل أقمناه لوداع صديق اختار منفاه إلى بلاد بعيدة. لم يتسن لي وداعه بشكل يليق بعمق صداقتنا.. كانت هنالك بكامل حضورها الباذخ. انتشلتني قبل نهاية الحفل، بل استدرجتني إلى فخاخ نصبت بعناية فائقة. أعجبتني فكرتها في تقديم هدية لصديق مغادر وربما لن يعود. ذهبنا إلى حانوت يبيع الهدايا التذكارية لا يبعد كثيراً عن مكان الحفل. أردتُ النزول من العربة عندما توقفت أمام الحانوت، إلا أنها رَجَتْني بألاّ أفعل. قالت إن المرأة ذوقها أرفع من الرجل في اختيار الهدايا.. وإنها تريدني أن أبقى في السيارة لغرض ما.. أتبعت قولها بغمزة من عينها وابتسامة وضيئة لم تترك لي خياراً غير البقاء في السيارة. لم تمر لحظات حتى جاء شخص من داخل الحانوت. اتكأ على باب السيارة وقال بصوت أقرب للهمس بأن الأنثى تريدني بالداخل. تبعته عبر ممر طويل داخل الحانوت، أفضى بنا إلى باب كأنه لغرفة سرية. فَتَح الباب وقال: تفضل. طاف بي الخيال قبل أن أدلف.. بَنَيتُ خيالي على إشاراتها الموحية قبل قليل.. حشدتُ ذهني بمفردات غزلٍ ودلفت. الباب أفضى إلى مرآبٍ به سيارة بابها الخلفي مشرع وبجانبه شخصين لم أتبين ملامحهما جيداً. وضعا عصابة على وجهي وفمي قبل أن تتحرك العربة التي خرجت من المرآب وطافت بشوارع المدينة مدة قبل أن تصل إلى هذا المكان. حين نزعوا عن وجهي العُصابة، وجدتُ شرطياً في انتظاري، دفعني أمامه مثل سارق، وقبل أن يقذفني داخل الزنزانة، قال لمن بالداخل: جاءك أحد الأوغاد. يبدو أنه كان نائماً واستيقظ على صوت الشرطي. رد على تحيتي باقتضاب وقال إنه لا يريد الحديث. ظللنا مع الرجل الذي وجدته قبلي في الزنزانة ليلةً كاملة دون حديث قبل أن يأتي الآخرون تباعاً على مدى أربعة أيام.

***

-محكمة..

صاح الحاجب لحظة ظهور القضاة على المنصة.تباً للنساء.. هكذا صحنا بصوتٍ واحدٍ لحظة ظهور الأنثى تتقدم من كانا يقومان باستدراجنا إلى العربة.. وثمة شخص ثالث عرفته على الرغم من تغيير هيئته الرثة التي وجدته عليها في الزنزانة.الأنثى الباذخة تلت صحائف التُهم الموجهة إلينا:المتهم الأول: الاشتراك في تنظيم (ناقمون) لتقويض النظام، ومساعدة أفراد التنظيم للسفر إلي خارج البلاد.المتهم الثاني: سب الحكومة وشتم الجيش.المتهم الثالث: التحريض على الثورة ودعم الثوار معنوياً.المتهم الرابع: التحرش بموظفة تعمل في القطاع الأمني.رُفِعَتْ الجِلْسِة.

*كاتب من السودان

الهادي راضي

روائي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى