غوايات

كِيمِياء المَدِينَة ومَا

 

دُونَ إذْنٍ من ذَاتِي التي غُصْتُ فِيهَا، تَأخُذُنِي الجِّهَات إلى مَرفأ التِّيه، مَأرَبُ اللا شيء، غَوصاً حَد التّفكُكِ مُتَنَاقِضاً في هَذه الكِيْمِياء..
كَمَا الغَرِيب الذي وَجَدَ نَفْسه مُحَاطاً بِالجَحِيم عَلَى الأرضْ..!.
الخُرْطُوم.. هَذِهِ المَدِينَة الجَّمِيلة قَد جَرَف الغَوغَاء بُيُوتَهَا وَحَفَرتْ فِيهَا الأزِقة بِقَلوِيةِ الصَّمْت وهُلام الفِسْفُور. وَجَدتُنِي بِمُنْتَصَفِ الطَّريق حَامِلاً نَفْسِي إلى الحَّجِيمِ بَاحِثاً عَن الذي يَغِيبُ عَني بِصَدرِ الهَوَاجِس وَاللاوعي. طِفْلةٌ تُقَابِلُنِي بَصَوتِها البَعِيد كالمَسَاءَات السَابِقة حِينَ تَكوِيِني الأول..
طفلةٌ تَعْبَثُ بِضَفِيرَتِهَا، تَلهُو، تُغَنِي، تُلامِسُ السَّمَاءَ بِأصَابِعِهَا، تَضْحَكُ من أقَاصِي مُشاطَها، تُعْزف لَهَا البَراءة لحْنِية (المِطِيرة ~ الله) .. وامْرَأةٌ بقُربِها جَالِسَة والخِضَابُ يُمَارِس رسْماً عَلَى الكَوبِ الزَّاهَي، أقْتَرِبُ من المَشْهَد أكْثَرَ عَبْرَ الزُّقَاقْ، يَقْتَرِبُ الضُّوءُ يَقْتَرِبُ إلى أعْمَق تَفَاصِيلِي، يَقْتَرِبُنِي بِهَالةٍ من الوُجُودِ السَّعِيدْ، يُغَنِي صَوتِي بابْتِسام، تَعبُرُنِي كَثِيفات التَشَّقفْ بِالجَّمَالِ الآتِي عَبَر المَسَامْ.. أُفَاجأ بغرغرةٍ تشُد أعْصَابِي يَعْتَلِي النُبَاح تَصرُخ البِنَيَّة، ويَنْزَوِي المَشْهَد بِدَهْسَاتِ أحْذِيةٍ سَودَاء واسْتِلابات عَنِيفَة زَرْقَاءَ قَاتِمَة وأخرى بَاهِتَة الأورَاق عَلى مَلابِسِهم تَكثُر الأصْوَات، الضَجَّةُ عَالِية، أتَنَاوَى الوُقُوف تَتَنَاوَانِي الهَوَاجِسُ بِالرجُوع، أقدَامِي تَتَمَرَّدُ عَلى هذه الإسْتِرَاتِيِجِيةِ العَنيِفَة، تُمَاثِل العَودَة بِالتَنَاقُضْ تَدْفَعُنِي إلى قَسَوَة الطَّريقْ عَلَى أن أُكْمِل خُطوَاتِي.
.. عَقْلِي يُصَارِعُني بِعُنْف الظهِيرة، النَّاس النَّاسُ يَمْشُونَ عَابِرِينَ بَينَ حَرِيقِ الدِّيزِلِ وَالشَّجَرِ المُهْتَرَئ، بَحر الإسْفَلت القَاتِمِ المَوج، صَخْبُ الزُّجَاج.. الشَّاهِقَات، كُتُب تُنَاوِشُ نَفْسَهَا عَلَى الرَّصِيفِ تَقْلِبَهَا ذَرَّاتِ الغُبَارِ بِالضَّيَاعِ بَينَ أرجُلِ العَابِرِيِنَ.. وَالصِغَارِ يَركُضُونَ بِأنْفَاسِ الكَرْبونِ يَصْرُخُونَ عَلَى الدُمَى وَالفَارِهَات بِكُل أشْكَالِ الوَعي نَاوِينَ بِهَا وَمِنها حَصَاد الرَّغِيف الغَائِب عَنْ سَنَابِل الأطْرافِ هُنَاك…  . سِينِفيا لسُحُب الألُومِينيَمْ وَسَيَارَات تَلُفُ نَوَافِذَهَا الظلامِية، تَعْتَلي زُجَاجَاتِها كُلمَّا لاحَ ضَرِير عَلَى عَجَلةٍ بِلا قَدَمَين، تَأخُذُنِي جِهَات الوَاقِفِينَ بِلَمْحَةٍ لزَخمِ الحِرَاكِ العَنِيف.
بؤسٌ على الوُجوه؛ تَقِفُ أقْدَامِي المُتَهَالِكة أُحَدَّقُنِيأُحَدَّقُنِيهُم، حَائِراً، حَائِرِينَ خَلفَ قُضْباَنِهِم، تَائِهِينَ بَينَ أكْوَامِ الخُضَارِ البَاهت الباَهِظ، والمَعَاجِينْ وَالصُودَا التَالِفة، تَتَشَابَك كُل أصَاَبِعِي فَوقَ رَأسِي، ضَاعَت أحْلامٌ كَثِيرة إلى مَيَادِين العِلاجَات الفَوقِية الكَاذِبة، وهَزِيز الأرقَام المُمَّيزَة، ذَاهِبِينَ ذَاهِبِينَ عَابِرينَ إلى اللا مُدَرَك المَصِير إلى الغِيَاب،هَكَذَا دُونَ زَيف المَرَايا..
اِقْتَلعَتْهُم الغَيَاهِب عَبر الزَّمان، غَادَرتْهُم المَنَاجِل وَالحَصَاد، غَادَرتْهُم الطُيُورُ حتّى الأوكْسِجِين.. .
صَادِمِينَ عَبر الزَّمانِ، هَذِه التِرَاجِيدِيَا أصَادِمُنِيهُم السَايكولوجِيا العَنِيفَة لجُرحِ المَدِينة بأعمقِ مِنْهَا عَلى الهَاوِيةِ، هَكَذَا كُلُنَا، هِي المَدِينَة ذَاتَها بِمَا عَلَيْهَا تُعلِنُ الآنِيَّةَ في الِانْهِيار مَرةً أُخْرَى تَحْتَ غَمَامِ المَجْهُولِ المَجْهُول والذُّهَان.. سلاماً أيَّتُها المَتَاهاتِ، سَلَاماً أيُهَّا الذّاهِبِونَ وأيّانَ المَدِينَةُ وَمَا هِيَ..؟!

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى