حكِّم ضميرك!
أن أتحدث عن أبو داؤود؟ ذاك مقام أنا دونه، وتتكاثف عليّ فيه الحجب، فيرتج علي. إلا أنني ما زلت أقارب وأسدد، عسى أن يمدني الله بفتح. فأنا في حضرة صوته، دون مقام الشهود والتحقيق، حالي كحال السالك ولم يصل.. منجذب ومجذوب.
لكني سأتحدث عن من سلك وشهد ورأى وحقَّق، عن الفنان عبد الله أميقو، ووردّه لأبي داؤود (حكِّم ضميرك)!. أميقو لا مثيل له في التنقيب عن الموسيقى السودانية، ومؤلف مقطوعات موسيقية بديعة (اسأل الله أن يسخر لها من هو أهل لها، فيخرجها من بئر التناسي والجحود)، وفي تنقيبه في أغاني داؤود كانت عدته: كلارينيت بالطبع، فلوت، جيتار، ساكسفون وآلات إيقاع إن لم يخُنِّي سمعي فهي البنقز)، وتخير من أغانيه (حكِّم ضميرك، سيبوني بس، لي زمن بنادي، البرهة القليلة، أم در، يا عيني، أو تذكرين صغيرتي) سبع أغانٍ.. سبع
أول ما لاحظه المنقب العبقري، هو أن صوت أبو داؤود فيه لمسة جاز، وكان هذا أكثر ما جذبني إليه. ليس فقط صوته الذي يذكر بأساطين الجاز كلويس آرمسترونج، أو نات كنج كول، وهم دون أبو داؤود؛ أقولها صدقاً ومحبةً لا تعصباً، ليس فقط في خامة الصوت، لكن ذلك المزاج المدهش، الذي لا تجده إلا عند مطربي الجاز: مزاج يجمع بين المتعة والحسية واللهو والشجن والحزن، وشيء من الثقة المفرطة؛ هكذا درجوا على وصفها في اللغة، الثقة المفرطة، وأظن أنها مجرد وصف لمن يقدر، فعلم أنه يقدر.
لذا استهلَّ أميقو أغنية (حكِّم ضميرك) بـ”فرشة” جاز. جيتار وإيقاع يمسكان الزمن ويعدان المزاج، ثم سيل من الكمنجات المرحة، يتخللها فلوت لطيف. لذا كلما استمعت إلى الأغنية تمثل لي داؤود بسترة داكنة وباهظة، يضع يده في جيبه ويطرقع اللحن بأصابع يده الأخرى.
وألطف ما في الأغنية هو أن اللحن يتوارى عندما يغني داؤود، فإن صمت ردت عليه الأوركسترا قوله. خذ مثلاً -يقول (بقيت أسيرك) فترد الكمنجات (حيناً.. أوشيء من هذا القبيل) ويقول (ما عرفت غيرك) فترد (ها..وبعد؟) شيء عجيب.
أما أغنية (سيبوني بس)، فلم يوطنها على لحن جاز وحسب؛ إنما لحن جاز بدائي وسوقي جميل. ليس كذلك الذي يولد في قاعات الموسيقى أو استديوهات التسجيل، إنما ذلك الذي يولد سفاحاً في خمارات متهالكة على بيانو متقطع الأوصال، غارق في الدخان والسعال. تنترررن تن ترن تن تن… لحن ينبع من فم المعدة.
أو تذكرين حبيبتي؟ في هذه الأغنية توجد تنغيمة جيتار بديعة عبقرية، أو هي ما درج الفرنجة على تسميته بالـ(رِف) بكسر الراء، وهو عندما يعمل الجيتار عمل آلة الإيقاع. وتجد التنغيمة متسارعة تحفز عند المستمع إحساس اللهفة و(الصربعة)، وخفقان القلب، وكل ما يصاحب أول الحب من مشاعر هوجاء. ويصيح داؤود (المنديل؟) وترد الآلات (ياتو؟) فيقول (المنقوش جانبه أو تذكرين وتذكرين) وهذه الأغاني من أغاني شيل الحال (أجارنا الله منها)، وهي ضريبة تدفعها المعشوقة من عاشقها المستهام.
أجمل تسجيل يمكن أن تستمعه لأغنيتي الأثيرة (لي زمن بنادي) هي من توزيع أميقو. فاللحن سريع وخفيف ولطيف. وممكن أن تتصور حقيقة كيف أن المحبوب نافر جعل من قلب المحب وادي، يبرطع فيه كيفما يشاء.
أما “الشغل” ما هذا يا عمنا أميقو يا عبقري.. رحمة الله عليك.. ففي أغنية البرهة القليلة، عندما استمع إلى جلسات “الجام” وهي جلسات تنساب فيها الآلات على سجيَّتها، درجت عليها بعض فرقنا الموسيقية بالفلوت والجيتار والإيقاع، أقول في سري عودوا إلى “فرشة” اللحن في أغنية البرهة القليلة، شيء بديع ما له مثيل. هنا يطلق أميقو الفلوت ليتخلل اللحن، مزاج رائق يدخلك إلى جو الأغنية، حيث تلك الجلسة على “تلك النجيلة” في داخل الخميلة.. والتي لم تكن سوى لبرهة قليلة.
هناك تجربة أخرى في التنقيب في صوت داؤود، ليس فيها براعة وحصافة أميقو، وهي تركيب صوت الفنانة عابدة الشيخ على صوت أبو داؤود. في رأيي الشخصي لم تكن محاولة موفقة، رغم أن الفكرة جميلة. لكن ليس هناك توافق في الأصوات، فصوت أبو داؤود يتميز بقدرة فائقة على التحكم في حسِّه، يضع فرامل هنا و”يهدن” هنا حرفنة جميلة، وصوت عابدة جميل وقوي، لكن ينساب ويتدفق دونما ضابط ولا رقيب.
* كاتبة من السودان