ثمار

سجدة

 

سجدت..

صرت قريبة من الأرض، ومن السماء، يداي لا تلمسان المصلاة بإحساس مادي، خلاياي تعمل بشكل أقوى، كأن ما يسري بها ليس بماء، و ليس بروح قديمة، قلبي ينتفض، لم يعتد الزاوية الجديدة للميلان، ثقلي الخفيف على الإصبعيْن الكبيريْن أرْتَجِف، (يداي المسطحتان على مقربة من وجهي و صدري على مقربة من ساقي، و جسدي كأنه في سقوط لا ينتهي).

إحساس متصاعد كالقلق، من أصابع قدمي؟ لا، من أسفل السلسلة الفقرية؟ لا، من معدتي؟ لا، كما ليس من قلبي المتخبط، إحساس كالإشعاع، يتصاعد من أجزائي لأجزائي، ثم لعيني، أخذني في عرض إجباري لإحداث فعلته، وأنكرها على نفسي أو أستنكرها، إحساس ليس كشيء جديد أو قديم، هو حالة من الصفاء والمجاوزة تفوق ما تحتمله روحي وجسدي وعيناي اللتان صارتا تضربان وتضربان إيذاناً بموعد حلم جديد.

ساجدة، و البكاء صار يخرج، لماذا البكاء؟ تعبير جسديٌّ عن الخوف والضعف، أنا لا أبكي في العادة، إنه الملح المتراكم سيخرج للأرض، ليطهرني أنا أولاً، بكاء لا ينزل، بل يتصاعد لأعلى، لحاجبي، لجبهتي. لشعري، للأرض، للسماء، لله، المصلاة ابتلّت، وما تحتها صار لينا لا يحتملني فبدأت أغور، هنا خرج صوتي: يا الله، فجأة انطلقت الظلمة من حولي بصفير متواصل، كانت موسيقى تصعد وتهبط بالمكان.

(يداي المسطحتان كمربع مفتوح السقف، تحددان وجهي، و تحملان رأسي افتراضياً، والذي التصق بالقوس الذي يشكله التصاق ركبتي، وصدري انطبق على ساقي، جسدي صار كتلة واحدة).

الدمع يخرج ويخرج، كان دافئاً ومحباً، كان دافئاً بحق..

ماذا يقولون في هذه الوضعية يا ترى،؟ لم أستطع غير كلمة الله، أحسست أنني ضعيفة جداً.

وكرهت تلك اللحظات عندما أتأنق، وأضع أحمر الشفاه، أنشغل بنفسي أكثر، أنسى الجمال الذي حولي، وأبدأ مغازلة الشارع والمباني، وأبدأ التعالي على الحشرات و الفراشات و الطيور، (شوقي) هو من يدفعني لهذا، مرة قلت له بعد أن رفعت القرطين لأذني: ما رأيك؟ أتذكر نظرته، و كلامه ذاك، شوقي أنا لست كاملة، الآن تأكدت من هذا، الكامل لا يضعف، ولا يبكي، يكون أي شيء، أنا مجرد إنسان،وأحتاج الآن إلى مفهوم أكبر من (الرحمة) ليحتويني، مفهوم لم يعرفه إنسان بعد، ليستطيع النظر لي بحالتي هذه دون أن يستنكر.

(وضعي الآن ليس بسجدة، أنا نقطة ببداية خط لا نهائي بين ذاتي وذات الله، أنا من الله)

أنا من الله..

يا رب..

عندما ذهبت هناك لم أنوِ شراً بوصاياك، لم أستبن الطريقيْن، كلاهما صارا جميليْن، وما أراه كان بلا علامات واضحة، أو ربما لأنني انتهازية ومكابرة تناسيت علاماتك، يوم أن كان شوقي مريضاً حملت له البرتقال ومسحوق النيم، تحاشيت ما عدا ذلك، لكن عندما فتح هو الكيس كان التفاح هناك، أحمر وأخضر.

ليتني أعود كما كنت..

في و ضعي هذا وأحاول أن أجتمع بروحي ولا نجتمع، خائفة هي من الله وتترك أطرافي للحظات ثم تعود، تماما كيومذاك مع شوقي.

لا وقت الآن، لا حركة، لا كلمة إلا الله، والغرفة الضيقة المظلمة ليس بها سوانا، و أخطائي، و مفاهيمه التي تخصه ولم يفهمها أحد.

عندما خلقني بهذا الشكل مهّد لأخطائي، بإمكانه أن يبعدني عنها ولكنه لا يفعل، هل أنا مخيرة فيها؟، عندما جعلني من هذين الرجل و المرأة، وبهذا الشكل واللون، عندما ختم علي سعيدة أو شقية، هل أحياني في دنيا أخرى مشابهة عشت فيها لأفعل ما يحدد ذلك مسبقا، وجعلني بلا ذاكرة، ثم جاء بي ههنا لأفعلها مجدداً بذاكرتي التي سأحاسب عليها وأدافع بها عن نفسي؟ وثم أستجدي بها رحمته؟ أو الأرقى من ذلك،. ثم سيدخلني الجنة.

أو لماذا يعذبني أبداً في النار؟

يا رب، هل ما حدث بيننا – أنا و شوقي – يستحق النار؟

أذكر في مهرجان النطف العظيم، عندما اصطففنا خلف بعض، وآدم كان في المنتصف، الصفوف كانت دائرية موجية، مهلاً.

هل قلت (أذكر)؟ نعم، ذاكرتي واحدة إذن، وحياتي واحدة، ومنذ أن قلت (بلى) لسؤال الله الكبير وأنا مقرة بالتوحيد، شوقي كان متكوّراً بروحه في الفقاعة التي بقربي، في نفس الدائرة، ولكن في الصفّ الذي عن يميني، أمي أمامي وخلفي فتاة أحس بها تنبض داخلي.

هنا اطمئننت، صرت قادرة على إمالة كتلتي تلك للجنب الأيمن، نمت طويلا وفي الصباح غسلت الملح عني واتجهت لمنزل شوقي.

 

* كاتبة من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى