محمد الصادق الحاج.. يتنفس الكلمات وتراه
![](/wp-content/uploads/2014/04/msadig-1.jpg)
سألني الصديق الذي كنت إلى جواره، بعد أن عرّفتهما إلى بعضهما، وقدّمته له: محمد الصادق الحاج. وكان قد غادرنا؛ سألني الصديق: هل هذا هو محمد الصادق الحاج؟! قد يبدو السؤال غريبا ومدهشا، لكني أجبته دون توجس: نعم، إنه هو. قال: لماذا هو هادئ هكذا؟ ثم أردف بإجابة ضمنية: إن كتاباته شرسة وعنيفة!
هكذا تدمغك ملامحه المحايدة والودودة – في آن – بطمأنينة،قد يباغتك بعدها نصه الشعري سواء استمعت للنص أو قرأته في مواجهة على الورق أو على شاشة الكمبيوتر.
ويطلع في ذلك مطبوعته الأولى، ديوان (جناين الهندسة)، (هكذا؛ بقلب الهمزة ياءً؛ كما يفعلها السودانيون)؛ وهو نص طويل مقسم إلى 159 فقرة،صدر- باحتفاء كبير من الوسط الثقافي السوداني – عن مطبوعات مبادرة (برانا) الثقافية في الخرطوم في العام 2007م.ويتحرك في الديوان ضميران، “الأول هو ضمير الكاتب أما الضمير الثاني فهو لعنكبوت تتجول داخل الكتاب، تتكلم، حينها يبدو وكأنه ضمير الأنثى. ليست الأنثى الأنثى، ليس وراء ذلك فلسفة أو مسائل معقدة، هي مُجرد عنكبوت تتكلم كمتلبسة مع الكاتب نفسه”! بهذه البساطة المفرطة في فداحة الخيال يصف (جناين الهندسة) ويقدم نفسه بلاقصدية محترفة.
ولد في عام 1976م بإحدى قرى النيل الأبيض وتلقى تعليمه في أمدرمان، وقاده عبث ما إلى كلية العلوم الإدارية بالجامعة الأهلية في العام 1996م لكنه تركها منذ السنة الدراسية الأولى منحازا لمشروعه الكتابي، وكان قد دشن النشر في العام 1993م بمجلة (عزة)، ثم توالى النشر لنصوص قصصية وشعرية، في صحف ودرويات مختلفة، سودانية وعربية،ومنذ نهاية عقد التسعينات تركزت النصوص المنجزة والمنشورة على الشعر والمقالات، ففي الوقت الذي تنضح فيه النصوص الشعرية بلونية حادة التفرد،تجيء مقالاته بما ادّعي – أنا – أنه خلفية فكرية وتقعيد نظري لجُلّ مشروعه الكتابي، الذي اعتبره البعض تأسيسا لرد الاعتبار للعلاقة المتشابكة بين الشعر، وبين الفكر المحض في قوالبه الموروثة، وهي العلاقة التي أصابها ما أصابها من التباس؛ وأيضا هي في سبيل منح قراءة مبتكرة للعلاقة بين الشعر والعلم؛ يقول “أرى الشِّعْر والعِلْم يعملان بذات الغَيْـرِيَّة المتضايفة التي تنتهجها سلالة الـ”محمد”، فهو إذاً حلف تكافلي بين وحدتين طيفيتين؛ قل أختين، مدرجتين في السطح البيني نفسه”؛ذلك بما لا ينزع عنالمشروع نموه على فسيفساء الراهن؛ إذ يقول “إنَّ (الراهن، في مستوياته الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والإنسانية) لا يوجد (خارجـ)نا؛ بل هو جزء من صميم الداخل. واللحظةُ، محتكمةً إلى مجموع محتوياتها الكونية العاملة طَيَّها باعتبارها وحدة زمانية وجودية حاوية، تمثِّل (عِبَارَةَ الخارج) عن الداخل”.
جَمَع المقالات في مخطوطتين هما (ذرائعية مضادَّة)، و(في إشراق السِّيَان)؛بالتوازي مع ذلك أنجز ثلاث روايات كتبها على دورات زمنية متداخلة منذ العام 1998م وحتى 2010م، هي (هيسبرا) في العام 1998م؛و(الباب المتعدِّد) بين عامي 1999م، و2003م؛ و(جمعة المسبوق) بين عامي 2003م، و2005م،خلال الثلاث السنوات الأخيرة من إقامته في القاهرة، التي ذهب إليها في العام 2001م طامحا في فضاء حضاري أبعد، وعاد منها في العام 2005م مضمخا بأفكار وتأملات أكثر نضجا وبذخيرة معرفية أكبر حيث قضى الثلاث السنوات الأخيرة، شبه معتكف،في مكتبة (أصول الثقافة)، ما بين قراءة ما حوته من مؤلفات، وكتابة (جمعة المسبوق)، إحدى الروايات الثلاث التي تداولت في نطاق ثلة أصدقاء من الكتاب السودانيين، عمّدته – إلى جانب أعماله الأخرى – كواحد من أهم الكتاب المعاصرين في السودان – إن لم يكن الأهم والأكثر إنجازا على الإطلاق – وكواحد من أهم الكتاب المعاصرين في العالم، رغم قصور المؤسسات المعنية عن طباعة مخطوطاته وتناولها بالنقد، فكما يقول، محمد الربيع محمد صالح، الناقد، والمحرر الثقافي بصحيفة (الدوحة)، “محمد الصادق الحاج. أقول عن تجربته بمنتهى المسؤولية إنه أحد أعظم الكتاب المعاصرين وأعلن استعدادي للمنافحة عن هذه التجربة والدفاع عنها وتبريرها نقدياً، محمد الصادق الحاج كاتب جسور ومقاوم كبير تقصر قامة المؤسسات الثقافية عن نشر إبداعه الكبير بما يحويه من كشوف معرفية، هو كاتب رفيع بالمستوى المحلي والإقليمي والعالمي”. وهي شهادة استشهد بها من قبل نصّار الصادق الحاج، شقيقه الأكبر، والشاعر هو الآخر، المعروف، ضمن المشهد العربي؛وهي الشهادة التي تتضافر مع شهادات أخرى مكتوبة، لجابر حسين وميرغني ديشاب والأصمعي باشري، وشهادات أخرى – حين حضور محمد الصادق أو حضور كتاباته – تلمع في أعين الصادق الرضي وبابكر الوسيلة وعبد الله الزين، أو باحتفاء من الجيل اللاحق، عند حاتم الكناني والطيب عبد السلام وحسام الكتيابي؛ وغيرهم بالطبع؛ ليس للاعتراف بمحمد الصادق ككاتب رفيع فحسب بل بوصفه الأكثر تميزا والأعمق اختلافا؛ وهو ما برز لهم في نصوصه الشعرية المنشورة على مدى العشرين عاما الماضية، التي جمعها في أربعة دواوين؛ فإلى جانب (جناين الهندسة)، أنجز (حيث النمور) وهي ثلاثة نصوص طويلة كتبت على فترات متباعدة ما بين عامي 1998م، و2003م، و(تناوُل المفعول)، وهي نصوص متعددة، كتبت ما بين عامي 2003م، و2004م، كما صدر له في العام 2009م عن دار (الشركة العالمية للطباعة والنشر) في القاهرة (أخوات ميم:؟؟؟) وهو نص طويل مقسم إلى فقرات بمسميات مختلفة؛ باشتغال كبير على الرموز اللغوية، و– ربما – بشغف خفي بالرياضيات. يقول محمد الصادق الحاج “أرجِّح أن آلية التفكير عندي لا تملك ذلك الشيء العجائبي المعجز الموضوع في عداد الحقائق العِلْمية، الذي لا أتمناه”. ويصف آلية التفكير تلك بأنها “الفخامةَ المنطقيةَ الشنيعةَ للتماسك العضوي”، ويعلل “دَأَبْنَا كقارِئَةٍ أُحْسِنَ تأديبهم على استجداء (الفخامة المنطقية) من النصوص بقصد تطبيقها على هيكل النموذج الاعتباري للأمثولة الرمزية (عدد (+) (-) (×) (÷)… عدد (=) عدد)، وهي التبسيط الأقصى لمُرَكَّبات وجودية لا تُحصَى زاخرةٍ بالتعقيدات والإغماءات والتَعْمِيَات أمْكَنَ استدراجُها تربوياً من جذورها إلى صيدلية المعنى”.وهو بذلك يسعى إلى تأسيس (صيدلية معنى) أقدر على التجدد،وأكثر؛ استيعابا للخيال، والتصاقا بمعطيات الكون؛وهي صيدلية عمل شعريا لبرهنة ضرورتها بقوالب مختلفة، فهو يفهم أن “الشِّعْر غريزة، كتابة الشِّعْر هي فن إدارة هذه الغريزة”؛ حيث كتب وصور وأخرج فيلم (Habit) الشعري القصير في العام 2006م؛عن مشاركة ضمن ورشة بالنيل الأزرق، لكلية الموسيقى والدراما بعنوان (أصوات السودان)؛ وهو فيلم ذو لقطة طويلة واحدة على مدى 3 دقائق ودون مونتاج، وبلا حوار وبلا مؤثرات صوتية سوى خلفية لأصوات متباعدة؛ أثناء دورة حصان من الطين في (حوش) منزل؛ينطلق الحصان من منضدة عليها كوبَي ماء وقهوة، إذ يطل على أبواب مختلفة، يبدو أنه سيدخل عبرها ثم يغير وجهته، منها الباب الرئيسي للمنزل، أثناءها تتضح ملامح الحصان وما حوله، حتى يتكشّف للمشاهد أنه حصان صغير من طين.
وفي اتجاه تدعيم المشروع الكتابي، أسس مع الصادق الرضي ومأمون التلب، في العام 2007م مجلة (سودانيز إنك) sudneseinkالمجلة الثقافية السودانية الإلكترونية – الوحيدة حينها – مع عمله محررا بمجلة (أوراق جديدة) منذ العام 2006م وحتى 2010م، ثم دبّر مع رندا محجوب إصدارة (إكسير) وهي كراسة لنصوص كتابية وتشكيلية، وصدر العدد الأول في أغسطس 2012م والثاني في مارس 2013م؛ وهو يحرر (سودانيز إنك) و(إكسير) كعمل طوعي، إلى جانب عضويته في (جماعة عمل الثقافية)، بينما يعمل بشكل احترافي، وبتعاقدات جزئية،كمراجع لغوي ومحرر ومصمِّم للمطبوعات؛وهو الأشهر في هذا العمل في السودان، يعرف عنه إجادته للغة العربية في الأبعاد التشكيلية لخطوطها وفي أسرارها البلاغية وتمثّلات النحو؛وبشغف لا يعلل مصدره بدأ بدراسة اللغة الفارسية في العام 2008م، وما زال يواصل، بالمستشارية الثقافية الإيرانية بالخرطوم،كما بدأ دراسة اللغة الإنكليزية بكلية آداب جامعة النيلين في العام 2011م؛ ذلك في بذله لاستملاك مفاتيح اللغة؛ رغمها، بثقة فاضحة، يقول “أتصفَّح ألوان المغيب، وليس في رأسي، بَعْدُ، أيّ تفسير. ما حاجتي إلى التفسير، والكلمات أراها تراني، تراني، وتصير”.
* كاتب من السودان