ثمار

خاصرة الريح وبلاغة التركيب الشعري

صدر للشاعر حاتم الكناني ديوانه الشعري الأول “الينابيع تغسل أوزارها بيديك” عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر. وظل مشاركاً في العديد من المنتديات الثقافية، وهو أحد مؤسسي نادي الشعر السوداني ومنتدى حسن الزبير. ونشر عدداً من القصائد في الدوريات السودانية والعربية، وفاز بإحدى جوائز المسابقة الشعرية “سحر القوافي”. نشر نصه “خاصرة الريح باتجاه الإشارة” في مجلة الدوحة، العدد 59 سبتمبر 2012

لقد شغلني نصه حين اطلعت على العدد بعد عام من نشره، وذاك الانشغال دفعني إلى الكتابة عن النص بعد أن لاحظت تميزاً في التركيب الشعري داخل النص على المستويين ؛ الجزئي والمقطعي( البناء الهيكلي) حيث تكمن الفواعلُ الشعرية في النص، وفي ذلك أقدم هذه القراءة للنص الشعري ” خاصرة الريح “

في القراءة الأولى تأخذك دهشة المتعة في ملامح القصيدة ولا تعرف السبيل إلى القبض على بؤر التوتر الشعري في النص، فتلجأ إلى الحصافة النقدية لتحدد مسارات النص تمهيداً للقبض على المغري في قراءة النص ومتابعة تفاصيله وبعده الجمالي، وربما كشف أسرار الكتابة الشعرية في النص أو عند الشاعر.

  • إغواء المقطع الشعري في استكمال البناء الهيكلي :

تبدأ القصيدة بخطاب إلزامي للمتلقي يمنعه من مغادرة النص عبر المقطع الأول ” انتبه ” والمقطع الثاني ” تذكَّرْ ” وبعد المقطعين تكون تفاصيل النص قد هيمنتْ على المتلقي ومنعته من مغادرة عالم القصيدة لما نسجته الفواعل الشعرية من علاقة مع الذائقة الشعرية للمتلقي. ويمكن تلمّس ذلك بوضوح حين نعرف أن صيغة الأمر افتتحت المقطعين من دون أن تدع مجالا للمتلقي في التردد أو الحوار، بل هي دفعته للاستسلام للغة النص ومحاولة كشف أسرار اللغة الشعرية فيه.

بعد تلك الهيمنة على المتلقي تأتي المقاطع الأخرى لتمزج بين “السرد الشعري ” وتلوّنِ أساليب الخطاب الشعري الإنشائي حيث تكتمل صورة البوح لدى الشاعر كما ترتسم معالم انجذاب المتلقي والبقاء في حيثيات النص. السرد الشعري يهدّئ من لهف المتلقي لمتعة الاكتشاف بتقديم سردٍ يقوم على الوصف وتحرير الجزئيات من عقال اللغة الموحية، وهذا ما بدا في المقطعين: الثالث “داخلا / خارجاً / يتكثَّف هذا الفراغُ ” والرابع ” عندما / يُفرغُ الحزنُ ذاتيَّة الحزن في ذاته / ننحني / واحدا..واحداً “.

تعود لغة الشعر بأساليب التوجع والنداء والتعجب والتقرير في شأن العلاقة بين الشاعر ولغته إلى ارتكاب غواية الانزياح عن النسق السابق وتشكيل أنساق جديدة ثم تخريبها والانكفاء إليها، ضماناً مخفيَّاً لمتعة القراءة والهيمنة على المتلقي، وضماناً مباحاً للشاعر لاستكمال وجده الشعري في ختام النص. في تجلي ذلك تَحقَّقَ وجودُ المقاطع التالية : الخامس ” آه…/ سيدتي لغتي / لن أشذّبَ شعرَكِ ” والسادس ” سأحبُّكِ سيدتي حين تكونين ظامئة ً/ كنساء الشوارع..” والسابع ” يا لها من مصادفة ِ مُحكَمةٍ “

وفق ذلك التعجب والتوجع يمكن القول كان الشاعر محقَّاً في تنبيهه في المقطع الأول. وبين التنبيه والتعجب ( بداية النص ونهايته )، بغض النظر عن التنويعات الداخلية، روابط تشد النص إلى كثافته الشعرية وصورته البنائية المحكمة حيث تنتهي القصيدة بتفريغ طاقاتها الجمالية وينتهي الشاعر من عرض قدراته التركيبية وطاقاته الانفعالية ويتوقف المتلقي عن السؤال بعد مغامرة القراءة وإشباع متعه الجمالية.

وعليه يمكن قراءة مشاهد الكتابة في النص على الشكل الآتي :

ـ الفراغ الكثيف

ـ القصيدة المرهونة بالتحرر من سجن اللغة

ـ متن الكتابة وشكل تجلي القصيدة

ـ تفريغ الحزن عبر انفعالات الذات

ـ التأمل أو الاعتراف ” خاصرة الريح تحملني باتجاه الإشارة ” وهنا نذكِّر بعلاقة بنائية محكمة بين تلك الجملة الشعرية ـ عنوان القصيدة ـ والبنية الدلالية في النص

ـ بعد ذلك المخاض يأتي الصحو وانكشاف اللغة وانتهاء القصيدة وبلوغ المتعة والوصول إلى المعرفة ” يا لها من مصادفة مُحكَمة / كلما صادر الصَّحْو أحلامنا / تتنفَّسُ لغةٌ بحجم اختناقِ / المدى في مؤخِّرة الجُمْجُمة ِ”

  • كثافة التركيب وتمدد الدلالة :

إن كثافة التركيب في الجملة الشعرية في النص لا تسمح للمتلقي بقراءته قراءة سطحية سهلة المنال، بل تدفعه بعد لازمة المقطع الأول ” انتبه ” إلى شحذ الذهن لخوض مغامرة في القراءة سلاحها التأني وإيقاظ البصيرة ؛ لاكتشاف العلاقات اللغوية الاستبدالية الكثيفة في النص وإلا سيضطر إلى مغادرة النص خاوياً مربكاً من عجزه ومناعة اللغة الشعرية في النص على التماهي بلغة التواصل. يقول : ” انتبه / فالفراغُ الكثيف رمادُ الكتابة / عن نزوةٍ آنِفَة /والوقوفُ على هامة الجُرْحِ/ لم يتقمَّصْ بصيرتَها الحاصِفة “

غير أنّ العلاقة بين الفراغ الكثيف ورماد الكتابة تتفتح ملامحها ببطء، ومتعةٍ مرافقةٍ لاكتشاف ملامح القصيدة القادمة من لغة الانزياح بجماليَّةٍ عالية لا تدع مجالاً للنفور أو العلاقات الاستبدالية المبهمة، وذلك بسبب الاتكاء على التركيب المقطعي الذي يعطي لكثافة التركيب الجزئي استراحة بين المقطع والمقطع للملمت الروح واستيعاب تمدّد الدلالة المنتشرة على ضفاف المقاطع ” انتبه ـ تذكَّر ـ داخلاً خارجاً ـ عندما ـ آهٍ سيدتي ـ سأحبّكِ سيدتي ـ يا لها من مصادفة “

ومِن ضفافِ المقاطع تلك تبدأُ الغوايةُ باكتشاف المعنى وملاحقةِ التفاصيل ورسمِ نمنمات القصيدة في مسيرة البحث عن ذاتها وذات الشاعر في تفاصيل اللغة ” داخلاً / خارجاً / يتكثَّفُ هذا الفراغُ / متنُ الكتابة ِ، فِطرتُهَا، / ونِقاطٌ إلى آخرِ الليلِ تُعلِنُ/ شهوتَها لاحتشادِ السُّطور / لغةٌ من يَبَاسِ الحرير” وعندما يُفْرِغٌ الحُزنُ ذاتيَّة الحزن يبدأ بوح الشاعر بالتجلي فيعلن موقفه من اللغة العصية والفضيحةِ المعلنة في اللغة المباحة ” سيدتي لغتي / لن أشذِّبَ شعرَكِ/ لسْتُ الذي أرْتَوي / بظِلالِ عيونِكِ مُنْبَهِتاً/ بالحَريقِ الخُرَافي في شَفَتيكِ/ فَخَاصرةُ الريحِ تحْمِلُني / باتجاهِ الإشارة / تكفِي /الإشارةُ / كي نلتقِي / في الطَّريقِ المُعاكسِ للريحِ “

فالإشارة هي جوهر الفعل الشعري في نص ” خاصرة الريح ” والإشارة لا تتجلى بغير الطاقة المخزونة في التركيب الشعري الجزئي والمقطعي بتضافر كلٍ منهما، إذ يساعد في تشكيل الآخر فتكون القصيدةُ وحدةً كليّة لا يمكن كتابتها بغير لغتها الكثيفة، ولا يمكن قراءتها بغير القبض على بوحها المقطعي الجزئي والهيكلي، ولا يمكن الولوج إلى عالمها الجمالي بغير الكشف عن بنيتها الاستبدالية وتلاحمِ أجزائها المقطَّعةِ درسيَّاً والمتشابكةِ بناءً ودلالة.

 

*كاتب من سوريا

youssef.ism@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى