جَدَلٌ
1
كان بها ما بأهل الصحراء؛ الظمأ إلى كل شيء. وكان بي ما بأهل الخضرة؛ التشكك في كل شيء. التقينا؛ فأشبعنا بعضنا، إلى حين.
2
أوزع نظري بين أعلاها النحيل وأدناها الممتلئ. تعبر سيريالية مباغتة أمام عدستيْ بصري. تزداد نحولاً أعلاها، تزداد امتلاءً أدناها، أزداد قرباً من ملامسة النجمة التي لن ألمسها. تودعني وتذهب؛ لتمنحني فرصة التمعن في جهاتها كلها.
تقول ونحن نتسلق الكلمات الدائرية بخدر: “لستَ ملوثاً، ربما هي الأماكن التي لن أراها، وربما هو أنت”
أتلمظ مُداراتي، أحاول عمراً أكبر من حقيقتي، أقول باتزان: “ربما، وربما، أو ربما ربما تلك”.
يصيب القلق الكلمات التي ندور حولها لبرهات ثم ننكص، فتكاد تقول نفسها، نروضها قليلاً، نقترب من الفراغ الممتد في فضاء اللا شيء، يبدأ الرضا يحسر ثوبه، تتمطّق هي عبارة ذات دلالات بعيدة.
“ما الشيء اللذيذ؟”.
أقول: “الاقتراب”.
“والوصول؟”.
“موت”.
“اقترب إذن”.
“لا تقتليني”.
لم تكن الأماكن غير إحداثيات رياضية نائمة، لا زمن هناك لنصبح مرئيين داخل حيز، فقط السباحة البطيئة عبر لون وحيد ومحايد، نستطعمه كلانا، ولا يرد ذكره على لسان أي منا.
قالت: “من أشبه أنا؟”.
أحسستُ بفخٍّ ما.تعثرتُ مرات وكأنني أحاول شطرنجاً مبعثراً عليها. لم أنظر إلا لقدميَّ، قرأتْ نصرها جلياً حين قلت: “تشبهين شيئاً ما، لا يسمى”.
“أنت بريء”.
“أنا البريء”.
“أنت لا تراني”.
عندما ادَّعت السقوط أول مرة؛ كنت متحفزاً، وكأننا اتفقنا على سقوطها ذلك، مددت يدي فاتحاً كل صماماتي لسريان كهربائها، أغلقتُ كل مخارجي خوف أن تتسرب هي بعيداً، لكنها لحظة لامستني؛ ارتَعَشَتْ؛ فأحسست بي أُسحَبُ إليها مني.
بتنهيدة خفيفة تجيدها؛ أغلقت عليَّ. مدهوشاً انتصبت أذناي. قالت: “اهدأ”؛ فهدأتُ. قالت: “فلنقعد”. تذكرت عبارة متأدبة صادفتني: “قعد منها مقعد الرجل من المرأة”. أحالتني العبارة إلى أخرى: “فمكنته من نفسها”. التفتُّ إليها، رأت البريق في عينيَّ؛ قالت: “مرحباً بك”.
3
لم نكن غير عبورٍ ضاجٍّ يكنس أمامه المسلمات والثوابت، هادئين داخل اللون المحايد الذي يلفنا. كنتُ سجيناً لوقتٍ كافٍ كي أدرك من أنا، كانت ظمئة بما يكفي لأربط نفسي فيها. كدنا مرات نتجاوز لذة الاقتراب، لكنَّ رقيباً صنعناه من خوفنا من بعضنا؛ ظلّ يقظاً، يهشنا عن تلك الشجرة. لم نقترب من غيرها، لكننا لم نقربها.
لجانب وجهها عينان مسحوبتان بالكحل، ضيقتان كالمحبس، تخترقان المسافات اللامرئية بيسرٍ وكأنهما تسبحان. كانت تراني وأنا أحاول أن أراها، تغالب ابتسامة، زمَّة شفتيها توقظ قلقاً يسكن عندي. أشعر بأطرافي ساخنة.
“إلامَ تنظر؟”.
“إليك”.
ضحكت من سذاجة ردي. أعادت السؤال؛ أجبتها: “إليك”. بدت راضية عن الإجابة الثانية.
قالت: “أنت تعرف أني لن أكون لك”.
قلت: “وأعرف أنك لستِ لي”.
قبل أن يستطيل الصمت؛ أنجدتها بسؤالي: “أترغبين فيَّ؟”.
حين ترتبك؛ تفوح رائحة الرغبة، أتنشق ما تحتمله رئة الفضول لديّ. تفوّت ما يقربنا من النهاية، أفوّت ما يقتل ارتباكها، تصبح المسافة بيننا ملساء من أي نتوءات نتشبث بها، نصبح عاريين يسقطان إلى ارتطام وشيك، عندها فقط؛ ينقذنا وعي دفين بقصر الرحلة.
قالت: “أترغب أنت فيك؟”.
مرت بذاكرتي لحظة أن تعثرت متعمدة، فسرت كهربائي إليها، صار اللون المحايد قاتماً، لا نهائياً أكثر.
قلت: “أرجعيني إليَّ”.
قالت: “خذك مني إن أردت”.
لم أكن أحب التحدي، لم أكن أحب أن أركض في مضمار لا أرى نهايته.
قلت: “لا أريدني”.
4
قالت: “الفتيات يحببن الرجل الخطير، لكنهن يتزوجن الرجل المسالم. صادفتني هذه المقولة في فيلم أمريكي”.
قلتُ: “الرجال يحبون الفتاة الهادئة، لكنهم يتزوجون الجامحة. ستصادفني هذه المقولة في فيلم هندي”.
قالت: “أنا لا أحترم الرجل الخطير الذي يصير مسالماً من أجلي”.
قلت: “وأنا كذلك”.
بدا عليها أنها لم تُفاجأ، تقدمتني بخطوات، منحتني فرصة التمعن فيها، تقدمتُ حتى حاذيتها، ثم تأخرتُ عمداً لأتمعنها، توقفَتْ، لم تبدُ راضية.
وهي إلى تلاشٍ؛ لم تلتفت، تحسستُ ذاتي، وجدتني أعود، وجدتُ صوتها. بتنهيدة تجيدها أطلقتني، عرفت أنها قرب النهاية، عرفتُ أنني قرب أن أراها أخيراً.
5
قالت: “لن تراني”.
قلتُ: “إذن سأراك”.
* كاتب من السودان