ثمار

عوض الله

 

في البدء كان عوض، وبعد عشرين حزناً صار عوض الله.

ضاجع امرأة الجيران على عجل ثم لاذ بالسكون إلى أشعاره.

كتبت له حبيبته (عندما أتصل بك يكون شوقي قد وصل مرحلة من الجنون فلا تستخف بجنوني معك).

طوى الورقة برفق وواصل احتفالات انفصال الجنوب في التلفزيون.

كانت في هوائها الأزرق مزركش لونها، تنظر من فتحات نفسها كأنها ملاك ضبط متلبساً بحب آلهة غير التي صار لها ملاكاً، وأعطته الأجنحة.

كغزالة برية التصقت بنفسها من عيوني، كانت على أهبة الاستعداد للهروب داخل نفسها، لم أع شكل نظرتي، تخيلت يدي امتدت.

اختفت حبيبتي في نفسها.

يا أيتها الفتاة التي لا أصدق، صيري واقعاً ألمسه، لا تتطيّفي بألوان، وتتسربي بين نظرتي، غنجة، نزقة، مشاكسة، ثم تهربين إليك.

إني أخاف عليك من الشك المرتد من عيني إليك، وأعشقك لحظات الكفر المرتد منك، إليك.

يا امرأة، يا كوناً خرافياً، إني أخاف عليك مني، وأعشقك، يا طفلة، يا أنثى، يا كل النساء فيّ، إني أعلم أنني أعشقك وأعشق عشقي لك، كيف لا وهذا طعمك، تثيرني رائحة اللبن في ثدييك، وأنتصب واقفاً كلما رأيت انسدال خصلتك في الصيف.

كتب لها عوض: (الكتابة هي وصيتي لك إن مت أو فرقتنا الحياة).

وفرقتنا الحياة قبل أن تموت، ولم أكتب بعدها إلا بعد حين، أصبحت أسطري ملاذاً لقاطعي الطرق، الجيدين وغيرهم، وما زلت أكتب.

وأنا أكتب أول نص عنك وجدتني أكتب عن نفسي، فمن أنا؟

مجرد ورق شفاف تآكلت أطرافه، ورق، شجر، ماء، أم بعض تراب أنا؟

الله! من بعد المسافة، كلما قطعتها في خاطري أجدها في واقعي أقوى. وكلما قلت وداعاً، كلما مات جزء مني ببطء عميق.

عوض،

عندما ذهبت لم أبك، لم أحزن، فقط خفت، خفت من كونك غير موجود، أحسست كم أنا عارية، كم أنا غير موجودة، كم أنا غير أنا، وأحببت الموت، وغرت منه، هل رأيت إنساناً يغار من الموت؟ أنا.

قلت إنه ينعم بصحبتك، بقربك، برائحتك، واشتقت إليك، كان ذلك مؤلماً، يؤلم ببطء خارق، هل أحسست يوماً بشيء يؤلمك ببطء خارق؟

لم يعد لدرويش، وبلزاك، وفيروز؛ معنى، ولم أعد أحتاج إلى أبي العتاهية، وغيره من صعاليك الإنسانية لأرى كم هي قبيحة هذه الدنيا وما آلت إليه بأفعالنا وليس غيرنا، التاريخ نحن من نصنعه، وليس آخرون، وأذية الإنسان نحن من نفعلها وليس آخرون، عشقت التفاصيل، تفاصيل الأدب، الذي عشقته قبلك

معك

بعدك.

تفاصيل الصغار، كيف يكبرون، كيف يفرحون، كيف يرون ما لا نراه،

تفاصيل الشارع، الشارع يا عوض، تهشم، كما تهشم داخلنا.

في البدء كان عوض وبعد عشرين حزناً صار عوض الله.

عشق عوض الله، الله، والنساء، والألوان، وأمه.

كان يعشق الألوان، كان ممتلئاً بالألوان، وبالنساء الصغيرات، منذ صغره وهو يرى أباه يمتطي أمه مرة، ومرتين، ومنذ ذلك الوقت غرق في امتطاء النساء.

ويصلي، يصلي، ركعتين، ركعة لربه، وركعة لها.

وذات ارتواء، أخبرها بأن ميعاد ذهابه قد حان.

(تكرفست في الأرض باكية، حتى اختلط دمعي ببولي، دفنت رأسي بين فخذي، وشممت رائحته).

الآن علمت أن الرب خالق الألم، وأن الألم هو الشر الذي نهرب منه جميعنا، ولا نستطيع. وأن الألم هو النداء الأول للموت، والموت لحظة من الاستدعاء، نحن من نستدعيه، بإرادتنا، بكامل قوانا، وشغفنا، نراه وهو قادم إلينا، نفسح له الطريق، نعطيه تلك الإشارة الداخلية التي تقول مرحباً، في تلك اللحظة، فقط، أحسست بذلك الإحساس.

وأنا أحتضنه بين حنائي تاركة له روحي يمرجحها في هواء طلق، تقاذفت عيونهم حولي، عيون من أحب، ومن أحبوني، كانت عيونهم تتطاير حولي كبالونات، تخاف الانفجار، ارتبك الموت في حضني، ارتبكت أنا. سقطت شهوة الالتقاء، الالتقاء بالرب، بالآخر، شهوة أن تنتصر على الحياة، أليس الموت هو الانتصار الأكبر على الحياة؟

ارتبكت عجلة أحلامي في تلك اللحظة، تثاقل جسدي بعد أن كان خفيفاً، تثاقل، شممت رائحة بولي، شممت رائحة دمعي،

واشتقت إليك، علمت أن المسافة بيننا طويلة طويلة، والموت ما يقربها.

هناك صباح، وكان صباحاً ماطراً، نز عشقك مليئا من سقف منزلي، هذا الصباح، ارتديت ثوبي و(شبشبي) وخرجت، خرجت من نفسي أولاً، ثم من باب منزلي، تسكعت في شارع الله أكبر قليلاً قليلاً، تسكعت، تذكرت أين ذهبت أول مرة هاجمني فيها عشقك، ركبت، ثم نزلت، قبل فترة من الزمان أتيت إلى هناك لكي أسأل نفسي ماذا دهاني؟

الآن، آتي إلى ذات المكان، وأنا أعلم ماذا دهاني. قابلني صاحب المشتل، اقترب مني، اقتربت منه، كان وسيماً وحلواً، وطيب اللسان.

سألته وأجابني، سألته وأجابني، سألته وأجابني.

ولما أكثرت في سؤالي، برقت عيناه، هل رأى ما بحالي أم أن عيني تفضحانني، راوغته في تفاصيل الأسعار حتى لا يفتضح أمري، وكان بريئاً في إجابته لي، لم يعلم أنني به أراوغ حالي وأنني به أعيد لحظة كان قد مر عليها زمن من الفرح والحزن، هي المسافة بينك وعوض.

بعدها رجعت إلى تفاصيلي الباردة، عبثت بأوراقي، أضحكني نص لم يكتمل، كان بعنوان (كيف تبول الحمار في قارعة الطريق).

كيف تبول الحمار في قارعة الطريق؟

كيف لم يوقفه أحد؟ كيف أخرج ذكره أمام المارة ولم يخجل أحد؟ تمتم البعض أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

ولم يكن غيره في الشارع وبعض الحبشيات الوافدات على الخرطوم بوابة الثراء بالنسبة إليهن ومدخلهن إلى بلاد العم سام والدول المتخمة بالثروة. والخرطوم تغير جلدها بهن،

الدكاكين مفتوحة بخجل وريبة، بعضهم قال إنه ربما تحدث بعض الأحداث المؤسفة مثلما حدث في اثنين قرنق الأسود، وبعضهم توارى خجلاً، وبعضهم كسلاً من مهامه.

في ذلك الصباح، تبول الحمار في قارعة الطريق بمتعة متناهية، كاشفا عن ذكره بكل متعة وفجور، كان أولاد المدارس في منازلهم، فلم يسمع صوت ضحكهم وسخريتهم على ذكره الكبير، وكانت الأمهات يتململن من أعمال المنزل وصراخ الأطفال المتواصل من الجمعة إلى السبت. الموظفات، يقمن هذا اليوم بصبغ شعورهن وقلوبهن، وكي ما تبقى من ملابس، تتكاثر المشاوير العائلية، والزيارات الرسمية، يصبح السبت ثقيلاً، ثقيلاً، فحتى الآن لم يألفه الآخرون كيوم إجازة رسمي. وجدت النص بتاريخ 9/7/2011، أخذ مني زمناً غير قصير تذكر هذا التاريخ، كان شيئاً مثل لا شيء، كان شيئاً مثل لا شيء، كان مثل أن تنسى تاريخ ميلادك، أو تاريخ ميلاد أحد أبنائك، أو تاريخ وفاة أبيك، كان شيئاً مثل هذا، أن تنسى تاريخ وفاة أبيك، كان مثل هذا. وكتبت إليك، لكم نحن كاذبون عندما نعتلي شهوة الحزن المصنوع والصباح المسكون، وفي الكتابة نعمل على إفشاء الأسرار المميتة، ونعلم أنها مميتة لأن في ذكرها ذكر للموت.

الآن فقط، سألت نفسي هل ينهي الموت كل إجابات الأسئلة التي لم تسأل أم يبقى السؤال ما بقينا؟

عند إغماض جفننا للحظة من الزمن لا ندري كم مرة من الوقت عندها.

عند الله، يكون هذا زمناً كافياً لقبض روح، أو إخراج روح من روح، أو شق نهر، أو شرخ إنسان حتى.

لقد شرخت نفسي، في البدء كان عوض، وبعد عشرين حزناً صار عوض الله.

راهن عليها أصدقاؤه، كسب الرهان، خسرها.

يا الله يا عوض! لكم هي بسيطة تلك اللحظة التي يمكن فيها للشخص أن يخسر كل شيء ويكون لا شيء.

راهن عليها أصدقاؤه، في تلك اللحظة فقط أحس عوض الله بالخوف، هو الأسد في كل شيء، رغم أنها لم تكن بتلك القوة التي تحمي بها الأمهات الأطفال، ومع ذلك كانت قوسه، قوس قزحه، هو القوي الضعيف، الضعيف أمام نفسه وأمه، والقوي أمام الآخرين؛ الله والكون، الشر والخير.

اشتهاها. أحبته. تبعثرت هي، تمنى أن تتمنع عليه وأبت، قالت له أحبك، قال لها أشتهيك، برق سائل شهوته من عينه، انكسرت خجلاً وشوقاً، علمها كيف تكون المرأة أنثى، ثم أخمدها، أخمدها، أخمدها، ثم لم تكن.

في تلك اللحظة، مر شريط سريع تحت بصره، تعرى، تعرى، تعرى عوض الله من مخاوفه كرجل، من افتقاده للآخر الذي يمدنا بالقوة والأمان.

مظاهرات الثانوي، اعتقالات الجامعة، يد معشوقته، النساء اللائي صب فيهن جام غضبه، وأرقه، وارتجافات روحه، نساؤه الصغيرات اللائي يخاف ما يخاف عليهن.

منذ أمد لم يعد يميز ألوان قوس قزح، اختلطت رائحة حليبها برائحة حليب أمه، أزعجه هذا في بادئ الأمر، ثم أراحه بعد ذلك.

الآن فقط أحس بانكساره، انكساره تجاه بلاده، تمنى أن يهرول جارياً في مظاهرة كما كان يفعل أيام زمان، تمنى أن يجري، أن يصرخ، أن يسب العسكر، أن يرجمهم، تمنى، تمنى، تمنى،

وارتجف، ارتجف من اكتمال فعله، وصار غابة، صار عوض الله غابة في إنسان.

في البدء كان عوض، وبعد عشرين حزناً صار عوض الله.

كان يرتجف بين يدي عند ممارسة الفعل الجميل، وعادة لا يرتجف الرجل عند ممارسة الفعل الجميل إلا إن كان عاشقاً،

كان يئن أنين طفل لم تكتمل حاجته بعد، كان ملمسه كماء، ويلمسني كماء، كان ما بيننا ماء من العشق، فكيف أخرج منه وكيف أزيح هذا الغطاء؛ غطاء القلب، وأخمده وهذا الغطاء يلسعني ويلسعني؟

كيف لا أستطيع أن أكرهه وهو العابث بطين أنوثتي وبلدي؟

كان بين يدي، طفلاً أحبه، أحب كونه لي وكوني له.

الآن أحتاج أن أبكي تحت الشمس عارية لا لشيء سوى أن تغسل دموعي كل أحزاني.

قلت إن ما أحسه هو رجس من عمل الشيطان فيممت قلبي شطر الإيمان ونمت.

في الصباح وجدت مكان القلب أزهر، فعلمت أنه ملاك.

عندما نصاب بالجنون كيف نعلم بذلك؟ هل يخبرنا الإخوان أم نراه في أعينهم؟

كتب لها عوض: لا أخاف عليك إلا مني، وعقلك، صالحيه لأشدو يا حلوة، يا غنوة، يا عصرة جوة القلب، يا عقل واسع،

اللهفة جارية وراء رغيف العيش وأنا لهفان لرغيف عيونك.

فآه من أن تعرف ولا تستطيع، آه.

آه من أن تعرف أن تكون ولا تستطيع، آه.

آه من أن تعرف أن تكون وتسعى ولا يصيبك من مبتغاك إلا القليل.

تستدعي قوى إرادتك وجيوش المثابرة والجلد، تموج المشاعر والوجدان بالأمل، وتعمل من أجل مبتغاك ولا تصيب إلا القليل.

يقولون في العقيدة: الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات فاجتنبها.

أقول: الخير مثل الشمس وضوحاً، وأذية الإنسان مثل ليلة ظلماء ظلامها لا يختلف عليه اثنان.

أنا أعشقك، وأعشق الخير الذي يحمله عقلك وأنت تفكرين، تحمله عيناك الجميلتان وأنت تنظرين، أنت دليلي، أنا لست مجنوناً، أنت صوت داخلي يؤكد لي خراب هذا العالم الذي يحيط بي، صباحاً ومساء، وأنني لست غبياً عندما رفضته بعفانته وعطبه، أنت حزام إرادتي وجيوش مثابرتي، وتاج الأمل، أنا ما زلت وحيداً، أحمل كيسي الفارغ، أجمع ما تجود به مصادر المعارف وأعبد صنم الخير وحيداً، حي لا أحد يفهم مرماي، ضعيف، خائف من مجتمعي الذي خاصمته قبل أن يعلن خصامي، قلائل هم الذين يؤكدون أن المجتمع بأسره في مساره إلى الهاوية، إليهم أنتمي وبهم أكون.

كنت على قوقعتي، منكفئاً، زادي كتبي، زهدت الذي حولي، انبلجتِ في حياتي كشمس فجائية، خفت، أجهضتك، حتى لا أؤذيك بأفكاري المتطرفة وعجزي عن تحقيقها في زمن الفطريات والبسمات البلاستيك.

قبلك طلقت النساء إلا قليلاً، نما نبت حبك الشيطاني من موقع إجهاضه الأول؛ عقلي. نما، نما، نما، أحضرت دروعي وتمترست حتى لا يغزوني جمال عقلك أكثر وفشلت.

الآن أعلم أنني مفتون بك من الصفر إلى القلب، ولا أستطيع عناقك للأبد لذا، آه. أعلم أنني لا أريد أماً لأطفالي غيرك، ولا أستطيع، ليست كل المواد التي تحت جماجم البشر والوجوه الجميلة بعقول، بين آلاف الجماجم نجد عقلاً واحداً. وقد وجدت عقلاً له أعين براقة، ينهض كفراشة، يجلس كحلم، يقتلني، يقتلني، فهل علم السفاح لماذا من كل نساء العالم هو قاتلي؟

في البدء كان عوض، وبعد عشرين حزناً صار عوض الله.

يؤلمه ذلك الصداع الحاد، ذلك الصداع الذي يربكه من حين إلى آخر، يخرجه من تفاصيله اليومية، من تلك السطوة التي يمارسها على الكل، يصير صغيراً أمام حبة مهدئة أو حقنة للصداع.

منذ أمد لم يعد يمتلك تفاصيل السعادة، رغم ممارسته لها، تكرفس عوض الله داخل دخان سيجارته طويلاً، طويلاً.

كان الدخان كثيفاً، كثيفاً، رأى بلاده وهي قاب قوسين أو أدنى من الجحيم. رأى حبيبته، رأى عشيقته، سأل نفسه: ما الفرق بين الحب والعشق؟

في الحب نكون كأجمل ما نكون، وفي العشق نكون كما ولدتنا أمهاتنا. لا يدري لماذا كلما تذكر حبيبته، نكزته، تلك النكزة التي لا تصيبه إلا عند مروره في شارع بلاده.

اكتشف أن كل الأحلام التي ملكت لهم لم تكن سوى أحلام،

تسربلت الألوان بفعل الزمن، صارت باهتة، باهتة.

بكى عوض الله، منذ أن ولدته أمه بكى مرتين، مرة لا يريد ذكرها، ومرة الآن. من قال إن الرجال لا يبكون؟

بكى عوض الله، لم يكن يريد ما يريد، ولكنه حدث، وبكى عوض الله. بكى برفق، وهدوء، بكى بسكون، أصبحت الدموع تملأ نظارته الطبية، صار الماء أمامه جميلاً جميلاً، وتمايل تمايل، رأى قوس قزح على زجاج نظارته الطبية، رأى أمه، يعشق هو أمه، عادة يكتسب الفنانون أول عشقهم من عشقهم لأمهاتهم، وكان عوض الله يعشق أمه، يعشقها، كان بين يديها صغيراً ونحيفاً، كان هو.

وبكى، سألته لمَ تبكي؟

قال رأسه يؤلمه.

قال لها رأسي يؤلمني. هل تصدق أمه أنه يبكي من وجع في رأسه؟

احتضنته، احتنضنته، شم رائحة عرقها، رائحة لبنها، شمها، ضحكت هي وهي تمسح على رأسه برفق وتقول “بقيت كبير يا ولد”.

ضحك عوض الله، هو الذي أنشأ أولاداً ونساء صغيرات، في لحظة يكون ذلك الولد؟

مسحت أمه كل تلك السنوات برفق، برفق شديد، تمنى لو تمسح بيدها على بلاده بذلك الرفق والحنان، تمنى ذلك، تمنى.

ليت الأمهات يمسحن عن بلادي ما ألم بها، ليتهن يفعلن ذلك.

في تلك اللحظة تمنى أن يعود ذلك الصبي الصغير، كل لذاذاته في الدنيا اقتناء كتاب، أو اكتشاف لون، أو امتلاك ثمن سيجارة.

تفقد الأشياء دهشتها الأولى بفعل الزمن، إلا تلك التي تتعلق بالأمهات والأحلام.

فقد عوض الله دهشته الأولى، إلا أن بيدي أمه ما زال ذلك السر الإلهي يربطهما، ما زالت في داخله أقوى الألوان، يرى في تجاعيد وجهها وفمها الجميل كل الخطوط التي لم ترسم بعد.

لكم تمنى أن يرسم تجاعيد وخطوط أمه، لكل خط في وجهها حكاية وفرحة تعني له الكثير، تدهشه، تعجبه وكأنها خطت بيد فنان ماهر، لا يدري حتى لم كلما حاول رسم وجهها سالت الألوان؟

ربما خجلت الألوان من تعابير وجهها، وربما من حنانها، وربما وربما ربما.

عشقها، آمن بها كملاذ، وكانت.

طلع عوض الله أعلى سقف منزلهم وصرخ، قال إن المدينة اغتصبت.

فأغضب صراخه أهل المدينة المغتصب أهلها، واستغفر الباقون مما رواه عن اغتصاب المدينة، ورفع النداء لصلاة الاستغفار،

ولم يتب عوض الله من صراخه، ونداء المدينة.

قيل إن لونه تحول إلى الأزرق، ربما لأنه كان عاشقاً للألوان، ضحكت أمه وهي تعرفه، بكت حبيبته، خافت عشيقته، وصرخ، إلى أين ذاهب ثقب هذا الفضاء؟

من أين أتى؟

هل للفضاء مفتاح لأسرقه؟

هل للفضاء باب لأغلقه علينا؟

هل للفضاء نافذة لأفتحها للوطن؟

أم هذا الثقب أكذوبة؟

تؤرجح خفقة القلب على مهل، وتقتله على مهل، ولا أسرع، ولا قلبي على عجل، ولا أنت، عوض الله.

في البدء كان عوض وبعد عشرين حزناً صار عوض الله.

 

 

*كاتبة من السودان

mahaalrasheed11@hotmail.com

 

مها الرشيد

كاتبة من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى