ثمار

تمجيد الزجاج والجدران

 

حشرت أغلظ أصابع قدمي في فجوة الجدار باسطاً ذراعيّ كي أتشبث بالحافة، ورفعت رأسي بالتدريج حتى حاذت عيناي أعلى الجدار، ورأيته تحت ضوء النجوم يقف في فناء بيتهم الخلفي قرب الحمام بفانلته نصف الكم وسرواله الضيق الملتصق بفخذيه الضامرين، يلصق مقدمة وجهه الطفولي بزجاج النافذة المستطيل المشع بنور أصفر رائع الكثافة، يغري بالانبساط والتوهج، رأيته يتلفت ثم يصعد بساق واحدة على ماسورة الحمام الغليظة، وسمعت لهاثه المبهور، رأيته بسرواله اللاصق مفتوح السوستة مكبّاً على صبيانيته.

تراخت ذراعاي المتشبثتان بالحافة وسقطتُ.

عدنا مبكرين قبل الظهر، وجدنا جوار بابهم لاندكروزر الولد الحلبي، وآثار أقدام نسوانية ورجالية، والولد الشغّال منهمك في تنظيف المنزل، وهم داخل الصالة بعد أن أغلقوا أبوابها الثلاثة، باب المطبخ، باب الحديقة وباب الهول، أخبرني هو – أنهم كما الأفلام – يربطون طرحة حول خصر بنت تصعد حافية القدمين على سطح السفرة الخشبية التي نلعب عليها – أنا وهو – تنس الطاولة.

تحسست ظلام الممر بيديّ، جذبت الباب الخشبي وصعدت السلالم منفعلاً، انحنيت تحت مستوى سور السطح حتى لبدت في الركن مكتوم الأنفاس، ملتصقاً بقشرة الحائط الخشنة، رافعاً رأسي إلى بيتهم حيث تضحك شقيقتاه مع صديقاتهن على كراسي الحديقة وسط دائرة من نور النيون الأبيض، تذوب حدودها في العتمة، وفي النجيل الأخضر، وبينما كنت أرفع رأسي بسرعة وأخفضه مصعوقاً خيل إليّ أن إحداهن لمحتني وابتسمت.

لمّا فتحت لها الباب ودخلت أمسكتني من معصمي بيدها الطرية الدافئة ونحن نمشي معاً نحو الفرندة، حيث نهضت أمي لتصافحها وتسألها عن حالها مع الكلية ومع الداخلية.

صوت مسجل جيراننا الخلفيين يقتحم عليّ غرفتي في آخر البيت، إنها غرفة الشغّال المنزلي، لكن أبي أعرض عن جميع توسلات أمي كي يحضر لها ولداً شغّالاً أو بنتاً صغيرة تساعدها في الأعمال المنزلية، وظلت الغرفة فارغة فمنحوها لي، لكن صوت الأغنيات الصاخبة التي تصدح من مسجل الجيران يزعجني دائماً، فتحت نافذتي المطلّة على حديقتهم لتداهمني رائحة شجرة الجوافة الضخمة التي تلتصق أوراقها وإفرازات طيورها بقضبان نافذتي.

وعبر فرجة مصراع النافذة المفتوح قليلاً رحت أراقب البنات الثلاث اللائي تجمعن حول المسجل الموضوع على عشب الحديقة مهتاجات بأصداء الأنغام الصارخة وأجسادهن تتقافز في الهواء بملابسها القطنية التي يحضرها والدهن من سويسرا.

الجوافة الكبيرة ملساء الساق تغطي سقف غرفتي الزنك بفروعها الطويلة، كثيراً ما أتسلق إلى السقف حيث أمد يدي وأقطف حبات الجوّافة المدورة نقية الخضرة قبل عودة أبي، دون أن أهتم بتهديدات أمي المنبعثة من المطبخ:

“يا ولد انزل تحت.. بتقع في رقبتك دي بتكسرا.. يا ولد أحسن ليك تنزل.. ما تقع وتحير الناس”.

فوق سقف غرفتي المغطى بأوراق الجوافة المصفرّة، أقابل أحياناً إحدى بنات جارنا الثلاث اللائي يتسلقن الأشجار والجدران بمهارة كالأولاد، تماماً كالأولاد، نقطف ثمار الجوافة المخضرّة نصف ناضجة، ونقضم لحمها النيئ حريف المذاق ثرياً بحبيباته الصغيرة الصلبة، أو يمسك أحدنا بوسط الآخر محاولاً رفعه فيفشل ونسقط معا متمرغين فوق أوراق الجوافة، وحين أسمع صليل باب الشارع الذي يدفعه أبي بعنف، وصرير المزاليج وهو يخلخلها فاتحاً مصراعيّ الباب كي يدخل سيارته الحمراء، أندفع من السقف إلى الحائط مذعوراً ومنه إلى الأرض بقفزة واحدة.

من موقعي أمام الثلاجة حاملاً كوب الماء، ملتفتاً يميني، وعبر خط مستقيم يمر فوق كراسي الاستقبال في الصالة، ويخترق عتمة الهول إلى الممر الذي تفتح عليه أبواب السطح وغرفة أمي والحمام، رأيتها تخطو بالقميص البيتيّ المريح، والمنشفة مطروحة على كتفها، خرجت ودرت حول البيت ماشياً بحذر فوق الحصى المنثورة في الفناء، تلفّت حولي واقتربت من نافذة الحمام، وصعدت مكتوم الأنفاس فوق ماسورة الحمام الغليظة المعوّجة، ولامست بكفيّ الجدار والخوف اللذيذ يطغى عليّ، بينما أحسست به – هو – يراقبني من الجانب الآخر للجدار ضاحكاً مني وأنا أمد عنقي وألصق أنفي وجبيني بزجاج النافذة.

 

* قاص من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى