غوايات

إبتسام بت الحسن

صغيراً جداً كنت كوعل مشاغب، لا أفارق أمي مطلقاً، حباً مبهماً لها وخوفاً من حصاني البلاستيكي المستعار، ومن أشياء أخرى لا أدركها ولا تدركني. أيان ذهبَت أتبعها مُمسكاً سبابتها بيدي كلها، وعندما تتعرق يدي وتنزلق أتشبث بثوبها مقاوماً الانفلات.
كنت صغيراً جداً لا أذكر كيف يمضي يومي وإلى أي المصائر أصير، فقط أصحو باكراً بلسعات برودة فِراشي المبتلّ، أصوب خطوي نحو المطبخ وفور وصولي تبادل أمي صب الحليب من كوب إلى كوب ليبرد، بينما أتابع حركة الحليب بلهفة.

بعد ارتوائي نذهب إلى برج الحمام الشاهق، تقف أمي بالإناء قريباً منه، يتدافع ليتأكد بعيونه الصغيرة الدائرية والملونة من حضورها اليومي الأكيد. تناديه بحميمية الصباح الباكر: “حَمْ حَمْ حَمْ”. يتنزل، وكعادتها تُخطئ الإناء؛ تدخل يدها بقلبها وتنثر له حفنات القمح كموزع أوركسترا، لتعزف المناقير إيقاع الحياة، الهديل، تصبح عليها حمامة حمامة، تطمئن لهبوط الجمع ثم تحلّق ساهمةً في مجرة الرضا بين الأنجم الصغيرة الدائرية والملونة.
الآن يا أمي، صرت كبيراً جداً، ولا كوب إضافي لنبرّد الأسئلة فيه، الأحصنة صهلت بالبارود. آه يا أمي، لقد كان خوفي مُحقاً والحمائم التي أطعمناها صارت جارحة، سرقت قمحنا بلؤم وحلقت بعيداً في البعيد.
مازلت يا أمي لا أدري كيف يمضي يومي وإلى أي المصائر أصير.

زر الذهاب إلى الأعلى