ثمار

فصل من رواية: (قبسٌ مِنْ مدارات الحنين)

 

رحيق الضفاف

 

 جاءت تسعى مِنْ رصيف المجادلة، والغبن والشتات. مريم بدر الدين رمحت في براري الاحتمال، حلمت بالدعاش، وشوق الحقول إلى الرشاش. وحين حملتها موجات الإياب إلى الضفاف، انتصبت عند حافة النهر، بين الطين والماء. ومن فوق صهوة النشوة عانقت الجذع، وسعف نخلة الشاطئ ينضحُ بالحنين. حينها رفرف الهدهد لثلاث مرات.. ابتسم ثمَّ طار إلى الجنوب، حيث العجوز عند حافة الماء، يقرأ على صفحة النهر، ما تيسر مِنْ نشيد الإخصاب.

   هل عانقت النخلة حقيقةً ولثمت اللقاح؟! أم أنَّه محض سراب؟ قالت الأرضُ، قال النهرُ، قالت غمامةٌ متسربلةٌ بنزيف الوداع، والشمسُ سابحةٌ على قوس الهمود: مريم الأميرة، مهرةٌ جسورة، عادت إلى الوكر القديم، حيث البراءة والنزيف صنوان، ضفتان لنهرٍ واعدٍ بثمار الكوثر، وأنغام الخلود.. قال العجوز والهدهد منصتٌ في خشوع: الروح الإلهي يسري في ذراري الوجود.. العشق قديمٌ، والرحيق يدبُّ في الجذور، يطلب الثمر الفريد، وحكمة الخلود.. صمت العجوز لبرهةٍ، داهمته أطيافٌ مِنْ الخوف حين جنح بخياله إلى تخوم الأبدية..

     مريم بدر الدين مضت أيامها بين العمل والابتسام، ثم العودة مساءً إلى حجرتها حيث تسكن مع زميلتها في شقةٍ بأحد أحياء وسط الخرطوم. تخلد إلى نفسها باحثةً بين طيات الذاكرة عن برقٍ أو احتمال. سادرةٌ في دياجير عشق خاثر.. استيقظت ليلاً لا تدري ما السبب. برقٌ غامضٌ عبر خيالها، وحيرةٌ ناوشت الفؤاد. هل عادت أطياف الحزن لتتسكع على دروبها مرةً أخرى؟! وهل بارحتها الأحزان أصلاً؟! على جمر الأرق تقلَّبت على فراشها، ومع نسمات الصباح وشوش بأذنيها سعف نخلة الديار. بعد ثلاثة أيامٍ مِنْ قلقٍ متواترٍ، خابرت خلالها أهلها أكثر مِنْ مرة، أبلغوها تحياتهم وطمأنوها على حالهم. بيد أنَّ جذباً لا يقاوم دفعها لحمل حقيبتها والسفر إلى البلدة.. لم تصدق عينيها حين دلفت إلى الشارع وخطواتها تتجه غرباً. هل يعقل أنَّها ربما ضلَّت الطريق؟! التفتت إلى منزل الحاج سعيد المهجور، ثمَّ إلى النادي الأهلي المنهار.. أين النخلة!؟ حين وصلت قرب الدار أحنت رأسها أمام الجذور الحزينة، عبرت بذهنها أطياف اللحظات الفواجع التي مخرت فؤادها إلى منابع الروح. تحسست بأناملها آثار الفؤوس على الجذور، ثمَّ رفعت رأسها وبعينيها غلالةٌ مِنْ الدمع، فأبصرت الجذع اليابس جوار حائط البئر المهجورة، كومةً مِنْ الذكريات والأنين..

     قيل إنها تهاوت على أعتاب الصباح، حينما هبت ريحٌ خفيفة مِنْ الجنوب، فخفق الجريد، ووشوش السعف. سكنت النخلة لتلملم ذكرياتها في الحياة، ثمَّ هوتْ إلى التراب. وقيل اجتثوها وقت القيلولة، نهشت الفؤوس جذعها الريان فتهاوتْ وفي الجذور بقيةٌ من أشواق.. وربما انهارتْ في الهزيع الأخير مِنْ الليل، حين اشتعلتْ البروق، وقصفت الرعود، والريح تعربد في الدروب.. وقيل إنَّ رجلاً حضر مِنْ قريةٍ مجاورة، أنجز المهمة وحده في ضرباتٍ مركزةٍ متتالية.. أكمل عمله ووضع فأسه على الجذور الدامية، وحولها شوكتان وثلاث سعفات..

     كانت الشوارعُ خاليةً مِنْ المارة والشمسُ تلهبُ الدروب.. حين بدأتْ الضربة الأولى تقاطر الأولاد، ثمَّ تبعهم الكبار وتحلَّقوا حول المكان. خمسة شبانٍ انهالوا بفؤوسهم على الجذع الريان، بدأ قائدهم الضربة الأولى ثمَّ توالت الضربات. كانوا سبعةً وربما تسعة، لم يشاهدهم أحدٌ مِنْ قبل في البلدة، الراجح أنَّه تمَّ استئجارهم مِنْ الجوار. عند الأصيل تجمَّع عددٌ مِنْ شباب البلدة، شمروا عن سواعدهم وحملوا الجذع مِنْ عرض الشارع إلى جوار حائط البئر المهجورة. بعض المارة استنشقوا عبير الطلع عند مرورهم مساءً قرب الجذور المغدورة. وزعمت امرأةٌ عجوز أنَّ رائحة الطلع انتشرت حول المكان لسبعة أيامٍ أو تزيد..

     تغير سكان البلدة، رحل معظم القدامى، وحلَّ آخرون. والداها رفضا الرحيل إلى العاصمة. قال بدر الدين إسماعيل: إنَّ مِنْ الخير له البقاء في داره. وقالت زينب المبارك: كيف نغادر ديارنا ونتركها لتصبح خرائب؟! مريم بدر الدين استمعت إلى والديها ولسان حالها يقول: ما جدوى أنْ يهجر الإنسان دياره في أخريات العمر؟! عند الأصيل غادرت الدار، وقفت بجانب جذور النخلة المقطوعة، تطلعت جنوباً إلى حلة فلاتة ثمَّ سارت شمالاً وسط خرائب السوق القديم. توقفت أمام ركائز دكان المبارك المتهالكة، باب الدكان الخشبي العتيق ما زال صامداً.. تذكرتْ يوم هرولت مِنْ الداخل إلى دكان الحلاق القريب، كان المحل خالياً وقت الضحى، تسللت إلى الداخل، وقفت أمام المرآة الكبيرة تتأمل جسدها الصبي.. عبرت بجانب بيت الساقية الذي أصبح خرائب خاوية. تهدمت الحيطان، واختفت الأبواب والشبابيك العتيقة. تنهدت في أسى ومضت في طريقها.. عصفت بوجدانها أشجان الصبا، ألحان الطفولة، وأطياف الجمال، والعشق والتمني. كيف انطمست تلك الأحاسيس الحميمة تجاه الدروب، والبيوت والشجر؟! هل تُبدِلُ الأمكنة إيقاعاتها؟ أم أنَّه الإنسان يتبدل مع الأيام والأحداث، فيتغير إحساسه بالأحياء والأشياء؟ حتى الذكريات تبدو أكثر هشاشةً، وفي طريقها للتلاشي ولنسيانٍ أخير!! وصلت خور دورة تدندن بنغمٍ حزين. حين صعدت الرصيف وتمدد بصرها شمالاً، أبصرت نخلة الشاطئ، رفَّ بوجدانها نداءٌ حميم، تذكرت ود العاقب يوم جلب اللقاح مِنْ نخلة الشاطئ، وقال إنها مِنْ أجود أنواع التمور، لقاحها مبروك وينتج محصولاً وفيراً. نزلت مِنْ الرصيف إلى رمال الضفة المنبسطة، تذكرتْ طارق ود الموية حين أودعها بقيةً مِنْ رحيق الأخوة، ثمَّ ودعها، ومضى في سبيله فارتجَّ صدرها بالشهيق الحامض. عند نخلة الشاطئ دفنت قدميها الحافيتين في الرمال الليِّنة، وأسندت ظهرها إلى جذع النخلة تشهد غروباً شاحباً حزيناً.. على الضفاف قبيل حلول الظلام، تواتر النداء صادحاً بالأنين، عابراً على صهوة الجموح، ليرتاد آفاق الحيرة والانتظار. تواتر نداء الحنين..

     كان الأملُ عظيماً في رحم الجمال. حين فاجأها النداء تزلزلت، لمعت بأحداقها شهوة السؤال الأبدي الناهض مِنْ كبد الاحتمال. تمرحُ الأسماك، ونقيق الضفادع على الضفاف. هل ثمة زفافٌ كي تحبل الأرض بشعلة الخلاص؟!.

     كان المساء يخيِّم فوق البيوت حين عادت مريم بدر الدين مِنْ نخلة الشاطئ إلى الدار. اندست في فراشها وسط الحوش تراودها الأطياف.. هل أخذتها سِنةٌ مِنْ نومٍ فغشيتها الأحلام؟ أم أنَّ الأطياف والرؤى تراقصتْ أمامها في لغة الحكاية، وصوتٌ غامضٌ ينسج مِنْ الكلمات الشائقة، حكاية عروس النهر، ونخلة الشاطئ.. حلَّقت بها أحلام اليقظة والأشواق الدفينة:

     ظلَّت لأربعين يوماً داخل الحجرات، حتى لا يتعرض جسدها للشمس. وقبل أسبوعٍ مِنْ الميقات المرصود، توالت عليها نساءٌ خبيرات، دلَّكن جسدها بعجين الذرة المخمر، والمعتق بالعطور المجلوبة مِنْ الهند. وعند المساء اشتعلت أعواد الطلح في حفرةٍ صغيرة. وحين عبق الدخان المعطر، جلست على برشٍ دائري مركزه دائرةٌ فارغةٌ موضوعةٌ فوق حفرة الدخان. أنزلت قدميها وساقيها في الحفرة، عاريةً، حاسرةَ الرأس، يغطي جسدها لحافٌ مِنْ الصوف. رشح الجسد العرق وتشبع بعطر الطلح. ومع الأيام اكتسى الجسد لوناً خمرياً، وعطراً قاهراً. خضبوا كفيها وقدميها. ونقشتْ الفتياتُ الماهرات زهور اللوتس بالحناء على ساقيها العبلتين. في اليوم الأربعين لفَّت حول وسطها إزاراً مِنْ قماشٍ ناعمٍ ومراوغ، خطوطه حمراء غانية، وسوداء لامعة، ثمَّ غطت رأسها وجسدها بثوبٍ أبيضٍ ناصع. حول عنقها خرزاتٌ بيضاء وسوداء. يزيِّن ساعدها الأيمن سوارٌ فضيٌ منقوش. وضعوا على رأسها الضريرة، وربطوا على جبينها هلالاً ذهبياً. ومن رسغيها تدلى حريرٌ أحمرٌ وودعتان. كانت في أوج الأنوثة، يانعةً، تنضح عطراً، وبصدرها هديرُ الأشواق..

     لم تشرق الشمس في ذلك الصباح. الغيوم الرطبة خيَّمت فوق سماء البلدة منذ ليلة البارحة. رطنتْ الدلاليك ونزفتْ المزاميرُ الألحان الشجية. سار موكب الزفاف مِنْ الدار. النساء يضربن الدلوكة، الصبايا يغنين، والفتيان يتمايلون طرباً، ووسطهم عروس النهر تحفها الفتيات. عند وصول الموكب إلى غابة السنط استقبله غناء العصافير، وعبير الأزهار. كانت خضرة أوراق الغابة يانعة، بينما صغار الأسماك تمرح على الشاطئ، تلتهم ما تيسر لها من دقائق حياة النهر. أصداءُ طبولٍ وغناءٍ قادمةٌ مِنْ أعماق التاريخ والحكاية. مواويلٌ ومزاميرٌ وإيقاعُ حشودٍ راقصة.. تفجرت ينابيع الفرح في المكامن القصية، ثمَّ حملتها النسمات الرطبة إلى غابة السنط. فيضٌ مِنْ الغناء والمرح. فيضٌ مِنْ الأشواق والعطور. ثمَّ جاءت أسراب العصافير تغني نشيد الإخصاب. كانت الأنغامُ مترعةً بالنداء القديم، الكامن في الصدور، والهدهد الحميم يحلِّق مطارداً حكمةً هاربة، وربما أغنيةً منسيةً بين طيات الحنين. الغيوم ظللت الآفاق وتناثر رذاذ المطر. شذى الأزهار الصفراء، والفراشات الزاهية في موكب الندى. مِنْ بين أشجار السنط، امتشقت العروس جسدها كسهمٍ على قوس المجادلة. سارتْ بخطواتٍ رزينةٍ إلى زورق الزفاف، دفعته مِنْ الطين إلى المياه، ثمَّ صعدت فوقه. على برشٍ مصبوغٍ بالأحمر والأخضر والأزرق، جلستْ عند المؤخرة وأمسكتْ الدفة. تقدم الهدهد سرب العصافير، هفهف الشراع وزورق الزفاف يشق النهر شمالاً. الفراشات تحفُّ العروس، والصبايا على الضفاف يغنين أنغام الزفاف. كانت عيناها ناعستين، وعلى خيالها تلمع أطياف عاشق الرحيل. هفهف الشراع حين سرى ريحٌ مِنْ الجنوب، ونخلة الشاطئ شمال البلدة ترفل في حلل الزفاف.. حين عبر القارب قبالة منزل الودَّاعيَّة المهجور، تذكرتْ الحبوبة فاطمة بت أحمد، فسالتْ على خديها دمعتان حارقتان، فارتْ الأحزان بصدرها لريثما تغور في الوجدان. هفهف الشراع والزورق يمضي شمالاً وفوقه تحلق أسراب الفراشات الزاهية. ابتسمت في أسى والفراشات حولها تدور في أنساقٍ متعددة، حيناً في شكل القلب، وكجناحين حيناً آخر، ومرةً تتموج في أنصاف دوائر، بينما الهدهد يحلق عالياً يقود موكب الزفاف. قبالة الجميزات رنَّتْ الألحان الحالمة، ومِنْ أعالي الأغصان انهمر صوتٌ ناعمٌ حزين.. جِنِّي شاب صدح فوق الجميزات حين عبر زورق الأحلام. دوَّخه العطر فانطلقت أوتار صوته مترعةً بالأشجان.

     واصل سرب العصافير رحلته شمالاً، بينما انحرف الهدهد شرقاً، محلقاً فوق نخلة الشاطئ.. تسابقت الفراشات في موجاتٍ متلاحقة ودارت حول جذع النخلة.. ابتسمت العروس كأنها تؤوب مِنْ مجاهل النجيع إلى الوطن القديم، عند حافة الغربة والارتحال.. ظلَّتْ جالسةً عند مؤخرة الزورق، ممسكةً بالدفة، زائغة البصر، ترنو إلى أفقٍ مجهول. تململتْ تحت جلدها القشعريرة، والزورق يدنو مِنْ الضفة. قبل نزولها كشفت عن ساقيها، ثمَّ أنزلت قدميها إلى المياه الضحلة، بينما سعف النخلة يتراقص جزلاً. سارت خطواتٍ على الرمل حتى وقفت بقدميها العاريتين فوق الجذور. وضعتْ كفيها على الجذع ثمَّ استندت إليه يعربد بصدرها نداءٌ قديم، طوقته بساعديها ثمَّ تطلعت إلى أعلى، حيث اللقاح قابعٌ بين الأشواك. تشبثت بكفيها على الجذع، تأرجح جسدها بينما ضفائرها حائرةٌ وراء ظهرها. بقدمين حافيتين وكفين مرتعشتين تسلقت إلى أعلى. أمسكت اللقاح بكفيها، أدنته مِنْ شفتيها ولثمتهُ في شوقٍ عارمٍ، ولهفةٍ طاغية.. فاح بصدرها عبيرُ الأنوثة، وانبثقت الأشواق الكامنة في سويداء الفؤاد. خدشت شوكتان بارزتان حلمتي النهدين البتولين، ثمَّ انغرست في مكامن الأمومة والحنين. وحين لامست الشمس الأفق، لسعت خديها أطراف سعفةٍ فانتشتْ، عانقتْ النخلة والشفق الأرجواني يرشق السحب المنداحة في سماء الغروب. أفاقت مِنْ رعشة العناق، تفتش عن رحيق البذرة الأولى في شرايين الوجد القديم، بينما قبس الميلاد يلوح في البعيد.

     كان الليل قد انتصف حين راحت مريم بدر الدين في سُباتٍ عميق.. عند السحر أيقظتها نبضات الوعد والميقات. وبين الصحو والمنام تواترتْ بذهنها الأحلام.. كانت نخلة الشاطئ تميس في الأعالي، الرمال ناصعةٌ والقمرُ اكتمل بدراً في سماءٍ صافية. وكان أنين أوتار الربابة يداعب أمواج الليل..

     هل سمعتْ النداء؟

     هل حلمتْ؟

     مِنْ بين أقواس الحيرة، سرى بها الحنين وفيض الأمومة، إلى نخلة الشاطئ. فوق بيوت البلدة تسللتْ إلى أنفها رائحة الطين القديم. وحين حلَّقت فوق المسجد ارتعشتْ أطرافها، وتحفزتْ براعم الروح بين مسام الجسد، وسمعتْ صوت المؤذن الرخيم في ذلك الفجر البعيد. وحين لاحت نخلة الشاطئ تحت نور القمر، أبصرتْ عاصم بدر الدين في شحوب الوداع، يرنو إلى أفقٍ عنيد، ولم يلبث أنْ اختلج جسده ثم حلَّق صاهلاً في مدارات الخلود..

     هبطت عند نخلة الشاطئ، فوق الرمال الرطبة، عاريةً من اليقين والثياب. وقفتْ عند حافة الماء. داعب خيالها طيفُ أمها وأبيها على ضفاف نهرٍ شاسع، يتناجيان ويشيران إليها. ابتسمت والتفتت إلى يمينها فأبصرت الحبوبة فاطمة بت أحمد، جالسةً على فروتها، غائرةً في صمتٍ مهيب، بينما الأمهات الأول على سطح الماء يترنمن راقصات..

     جاءها النداء مِنْ النهر: اضطجعي على الرمال الرطبة حتى يرتوي جسدك، ومِنْ ثمَّ ينضح بالخصوبة والندى. واصبري حتى يفتق نور القمر براعم الروح، يا فتاة الجموح في نسق الجمال..

     حاولت أنْ ترفع بصرها إلى النخلة لكنها غضَّت الطرف. استدارت قليلاً وأرسلت بصرها إلى مياه النهر تحت نور القمر. وشوشتْ صدرها نغمات الربابة الساحرة. أنصتت لبرهةٍ ثمَّ اضطجعتْ على الرمال.. رويداً امتص الجسد اليانع عبير النهر، وفتق نور القمر براعم الروح. دندنتْ بنغمٍ حزين، باحثةً بين ثنايا الذاكرة عن ربيع الفصول. وحين انطلق صهيلُ الروحِ إلى العناق، نبتت شعيرات الشك بين مفاصل المعاني، رغم المحاولات العنيدة، لنقش اللغة الفريدة، في نسق الاشتعال. أنصتتْ عميقاً لهمسٍ يتسلل مِنْ منابع الأمومة. تسربلتْ بالحنين والنداء.. ارتعشت أطرافها فعقدت ساعديها على صدرها، ومع الشهيق والزفير خفق الفؤاد بالرجاء. التفتتْ وراءها، كانت الفروة سابحةً مع تيار النهر وعليها جلستْ الحبوبة غارقةً في الصمت، حائرةً بين سراديب النفس، تنبشُ مفاصل الحكاية، باحثةً عن منجم اليقين، حيث الحلم واقعٌ، والواقع ارتحال..

     على الضفاف وقفت وحيدةً. غابت الحبوبة وصمتت أنغام الربابة الساحرة، وعادت الأمهات الأول إلى أعماق النهر. كان عبير اللقاح عابقاً مع النسمات الندية. انبثق مِنْ قلب سعف النخلة شعاعٌ باهر، غمر الضفاف. اكتملت طقوس الزفاف، وثمة احتمال..

     في أتون الارتباك، وقفتْ حائرةً، واجفة الفؤاد.. أمامها خيطان مِنْ ضياءٍ شفيف، تولول وسطهما عطور الصندل، والمسك، والياسمين. وعندما تجلَّتْ الروح، وفاض الجسد بالأشواق الندية، نهضتْ إلى عناق الأبدية.. اختلج جسدها قبيل انزلاقها إلى حافة العناق، حيث رنينُ اللغةِ القديمةِ يداعبُ الصدور. وحينَ عجزتْ عن إدراك المعاني، شحذت بصيرتها وانتظرت على حافة التوقع..

غشيتها أنوارُ الحق

ارتعشتْ

حنَّ الفؤادُ

فتمَّ زواج القلب إلى القلب

وليس ثمة شهود

الله حيٌ معبود

وثمة ارتحال..

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى