ثمار

سلمى.. وأديان أخرى

الناير
من أعمال طلال الناير

 

البنت الدقيقة كحبَّات السُّكْسُك الملتفة حول وقاية جَبَنَة جدتي، الماكرة كقطة أكلت للتو مخزون اللحم ثم خامرها الظن أن لن تلحقها الشبهات، اللطيفة كأمطار الليل التي تستمر حتى ظهر اليوم التالي، والقوية كحبال البلاستيك.

التي أيقظتني، ولكن السبات كان أقوى.

1

حين بدأ الصديق الغريب يحنو عليّ، راودني الظن المتشكك نحو نواياه. لم أكن أرغب أن أشبع حاجة أحدهم النفسية لأن يكون نبياً. بيدٍ من غربة، كنت أفتح نافذة في جدار من الشمع المتصلب، فأرى أطفالاً يلهون بعيداً عن الموت، ويتعثرون على سنواتهم الرمادية القليلة.

قال الصديق الغريب إن عليَّ أن أكون قوياً. لحظتها بدأ كل شيء يشبه مسلسلاً رديئاً على شاشة عقلي التي تتقن القفزات إلى نبوءات طلسمية.

قال عليّ أن أكون قوياً.

قال عقلي إن عليّ أن أتفاءل؛ فقال لي إن عليّ أن أتفاءل.

أغلقتُ النافذة وأنا أتمنى أن أرى برتقالاً يشبه برتقال جنَّة المؤمنين السعداء.

في زاوية عيني، كنت لا أزال أرى الصديق الغريب يسبح منتهكاً بحر جدراني التي تحميني، كنت أريد أن أجعله يذهب، لكنَّ رجلاً صغيراً في عقلي كان يخاف الوحدة.

قلت له أن يذهب، لأستطيع أن أقول للصديق الغريب أن يذهب، فيذهب الصديق الغريب وأفتح نافذتي بيد الغربة ذاتها علَّ أرى زخارف خضراء صغيرة على قميص الخواء الأزرق الذي يرتديني، علَّ أبدأ النظر إلى وجهي المشطور إلى قسمين، أحدهما ذو عينٍ تحدق بتحديد مرعب في نقاط التقاء المفاصل وفي الأعين وفي المناطق السرية المعلنة.

قال الرجل الصغير في عقلي إن النهار الذي أتمنَّاه لن يأتي قريباً، طالما أنني على حافة أن يغلقني السكوت.

بدأ الصديق الغريب يقترب، بدأت جدران الشمع تضيق، بدأت حواف الهواء ترتعب، بدأ النوم يحمي عقلي من نصف وجهي الآخر، نصف وجهي التائه في كل شيء.

2

قالت سلمى إنها ستتركني. (كانت تريدني أن أنفعل، أن أخاف، وربما أن أتوسل بطريقة غير مكشوفة لأشعرها بقيمتها في الكون).

قالت سلمى إنها ستتركني الآن. (كانت تريدني أن أتمسك بها، تريدني أن أتعبدها، أن أقترب أكثر، أن أضيع من ذاتي وأن أمنحها خيوطي كدمية مطيعة لأعوض عليها النقص الذي حقنها به الله).

قالت سلمى إنها تركتني. (كانت تريدني أن أتلوى، أن أحس بالألم، أن أبدو ضائعاً، أن أترنح لأريها كيف كانت تزن حياتي كلها).

قالت سلمي وداعاً، فقلت وداعاً. وقال الرجل الصغير في عقلي إنني لستُ كفؤاً لمقارعة الصديق الغريب. قال إنني صنعت ثغرة سيدخل منها الصديق الغريب والبكاء والضمور، كذلك قد تدخل منها إليّ الطبيعة.

3

وراء النافذة، كان البرتقال. لم يكن كما ظننته، برتقالاً جَنِّيَّاً خالداً في المذاق. الأطفال كانوا يتبعون الأثر، بعضهم انحرف ناحيتي، نظر إلى عينيّ فلم يرني. قال الصديق الغريب إن عليّ القفز خارج النافذة. قالت الأفكار الشريرة المتسكعة في طرف عيني، إن عليّ إلقاء الصديق الغريب من النافذة.

بيدين من غربة، تحسست الشمع على الجدران، تساءلتُ هل أهذي الآن؟ على السقف علّق أحدهم عنكبوتاً مشنوقاً، كانت قوائمه الثماني تشير إلى النافذة. قال الرجل الصغير في عقلي: “إنه بوذا”.

قلت للصديق الغريب أن يغترب عني قليلاً لأنظر سلمى في النافذة.

قال الصديق الغريب أن أنام.

4

قالت سلمى إنها بعيدة الآن. (كانت تريدني أن أظل متذكراً).

قالت سلمى إنها صديقتي. (كانت تريد أن تراقبني قليلاً بعد).

قالت سلمى إنها بخير. (كانت تريدني ألا أكون بخير).

قالت سلمى إنني قاسٍ. (كانت تريدني أن أكون قاسياً).

قال الرجل الصغير الجديد في عقلي أن أتنفس، فثمة هواء آخر في الجوار الغامض. (كان يريدني أن أنسى الرجل الصغير في عقلي).

قال الصديق الغريب إنه سيغادر. (كان يريد أن يخيف الرجل الصغير في عقلي).

قال طفلٌ يتلصص من النافذة، إنه سيعطيني برتقالاً إن تركته يأخذ العنكبوت المشنوق على السقف. (كان يريد أن يشنقني.. ود الحرام).

5

وأنا أغلق النافذة بيدين من ضجر، قال الرجل الصغير الجديد في عقلي إن السماء ليست سيئة جداً. كنت أقترب من طريقٍ يراوغني أو أراوغه أو يراوغنا طريقٌ فضولي عابث. بدأت الملامح التي لم أرها، تتحول وكأنما عليها ماء. بدأت خطواتي على الأرض أكثر وقاحة مما اعتادته، وبدأ يقين غامض يعتريني بأن الله تسلل إلى روحي؛ فماتت.

 

*كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى