ثمار

فصل من رواية: الأوهام

منذ ذلك اليوم الذي رأيت فيه السيد الهندي (جرهام كلوني شيتا)، وقد ساءت أموري جداً، كان ذلك الرجل نذير شؤم لسبب لا أفهمه. ليس بمقدورنا نحن البشر أن نفهم كل شيء. علينا فقط أن نطيع المقادير كيفما جاءت وتشكلت. ومضت عدة أسابيع، كان مبين يعاملني بطريقة جيدة ويصرّ على أن العام الجديد سوف يكون فأل خير بالنسبة لي، حيث أن السيد شيتا سيكون قد وفر لي الوظيفة المناسبة، ومع شعوري بالقلق، كان رده يأتيني:
– الشجاع لا يعرف اليأس.. ثمة توقعات جميلة تنتظرك فلا تفكر في الأشياء السلبية حتى تدمرك ظنونك الطيبة.
كنت أقضي المساء في العمل مع مبين بالمطعم السوداني داخل النادي، وكنت قليل الاحتكاك ببني جلدتي وساعدني تعلم بعض الكلمات والعبارات الهندية على التملص من المشاغبين والمتلصصين على قصتي.. فهناك من يكتشف أنني سوداني ويكون قد قرر أن يخاطبني “يا زول”، فأهرب منه لأنني لا أرغب في الكلام، فقد نصحني مبين بألا أثرثر، يجب أن أكون متزناً وأركز مع عملي.
تأخر رد السيد شيتا.. وذات يوم في أحد المساءات كان قد أعلنوا حفلاً لمطرب سوداني شاب جاءوا به من البلد، كانت الملصقات تملأ المسرح القديم والبوابة الخارجية، وكان علينا إعداد وجبات الطعام للحضور. ووصل المطرب وغنى وبقيت أنا بعيداً لا أحفل بما يجري، فقد كنت أعمل بوصية مبين في انتظار لحظة الفرج على يد شيتا.. وأنا أجلس في ركن قصي لمحت الفتاة ذات التنورة، معياري الشهواني والجمالي.. كانت تلبس النظارة الشفافة نفسها، شعرت وأنا أراها بقنابل ملغومة تتحرك في صدري تكاد تنفجر لتحولني إلى أشلاء. ولم يكن من أحد يقف بجوارها. كانت تتمايل طرباً وحدها، يبدو أنها ثملة، وهي تسمع للغناء المنبعث من مكبر الصوت في المسرح. وبعد أن قررت أن أقترب منها، غفلت عن الأمر وانتظرت أن أكبت مشاعري، إلى أن رأتني، وتأكدت مني، والغريب أنها جاءت باتجاهي، فقد عرفتني، ثم مدت يدها تسلم علي:
– مليم أين أنت يا شقي.. عرفت أنهم طردوك من البيت.. أخبرني مبارك.
كانت مؤدبة وجادة في الكلام، لا تبدو مبتذلة ولا قاسية القلب. وراءها حزن عميق يسكن في مكان مجهول من روحها. ووجدت أنني أثرثر معها، أفضفض، فتحت لي قلبها، وفتحت لها قلبي.. أخبرتها أنني انتظر عملاً في بنك وأن مبين الهندي هو واسطتي لهذا الحظ المرتقب، وأنني أعاني أوجاعاً في كياني الداخلي وغير قادر على الصبر، لكنني أعمل بوصايا صديقي الهندي ولهذا أتمسك بالأمل. لا أدري لم اندفعت أقول كل ذلك، مثلما هي الأخرى كانت تروي لي أن مبارك وقح بحق، لقد حاول أن يغتصبها أكثر من مرة، لكنها ليست كذلك.. قالت لي إنهم يروجون ضدها قصصاً كثيرة مفتراة وليست صحيحة أبداً:
– لقد استغلوا طيبتي وحاجتي للمال لكنني يشهد الله يا مليم لست قحبة.. لست تلك المرأة التي تبيع شرفها.. أنا جدي رجل دين وصوفي كبير وله قبيلة من الأتباع.. لكن الدنيا دوارة كما يقولون.. نحن اليوم نعاني أشد المعاناة.
أردت أن أسألها مباشرة:
– المهم أنك سعيدة مع حالك؟
– لا أعرف.. لست متأكدة.. لكنني أشعر بانجذاب إليك لا أعرف سره.. قد يكون ثقيلاً على امرأة أن تواجه رجلاً بشكل صريح كهذا، لكنني لم أكن كاذبة ذات يوم.. لا تصدق ما تقوله تلك الشلة.
– أنا أصلاً لا أصدق أحداً.. حياتي كلها ومنذ سنوات بعيدة ليس فيها سوى التخيلات.. يخال لي أن العالم بلا حقائق أبداً.
ابتسمت وقالت:
– ليس لهذه الدرجة، هناك حقائق.. أنت نفسك حقيقة وأنا حقيقة ووو..
لا أدري.. الإحساس الذي غمرني فجأة كأنني أرى نوراً يضيء أمامي.. لأول مرة في حياتي أرى امرأة تحدثني عن الحب، إنها تشعر بي كرجل.. وإنها ترغب في.. حتى لو أن ذلك الحديث كان شديد الوضوح والصراحة.. هذه الصوفية المتوحدة تريدني أن أكون معها هذه الليلة.. ماذا سأقرر.. قبل قليل كانت القنابل سوف تنفجر والآن أعجز عن التقرير بشجاعة.. وصوتها يأتيني:
– عندي غرفة أسكن فيها وحدي في بناية ليست بعيدة من هنا.
كانت جريئة لكنها صادقة.. وهي ليست مبتذلة كما تقول.. وكان عليَّ أن أقرر.. الآن أبدو خائفاً، أنا الذي طالما حلمت بأن أنام مع امرأة في حياتي.. اليوم تأتيني الفرصة على طبق من ألماس وليس أمامي سوف الموافقة.. وأومأت لها بعيني ما يدل على رغبتي فيها وجموحي الذي طاردتها به من قبل.. واسترجعت في رأسي يوم وصفت بالمقرف.. أين ذهب ذلك القرف؟ وخطر لي أن أسألها، ولم يكن الوقت مناسباً.
لم أستأذن مبين وخرجنا سوياً، أنا وهي.. وصلنا إلى غرفتها. كان سكناً بائساً غير مرتب، ليس مريحاً بأي مستوى كان، لا أدري كيف تعيش هنا في هذه المزبلة، قلت لدماغي الذي بدأ يتصدع، وجاملتها قولاً:
– غرفتك جميلة يا حَسونة.
اسمها حسونة.. لأول مرة أعرفه قبل قليل ونحن نصعد السلم القديم في البناية المتهالكة، شرحت لي أن الإيجارات باتت غالية وهي فضلت أن تبقى هنا لتوفر المال من أجل أناس ينتظرونها هناك.. وهناك أفهمها جيداً تعنى البلد.. وهي بهذا الشكل توجعني ساعة تذكرني بأمي وأختي.. لكن لا بأس ليس الوقت مناسباً لهذا النوع من النوستالجيا – الحنين – يجب أن أقوم بالواجب مع نفسي وأطهرها من تلك الغرائز القديمة ساعة كنت أخاف من ظلي.
قضيت ليلتي معها، فعلت ما بوسعي. كانت هي سعيدة جداً، وليس بمقدوري أن أتفهم تماماً الأسباب التي جعلتها تراني وتجبرني على هذا الحب المباغت.. هذا الفعل الذي أخوض معركته لأول مرة في حياتي القاحلة. وفي الصباح كان عليَّ أن أذهب، فقالت لي الخبر المحزن:
– سأراك مرة أخرى قبل أن أسافر نهائياً بعد أسبوعين يمكن أو شهر على الأكثر.. ممكن طبعاً.
لم أتردد في القول، رغم احتراقي وجعاً:
– نعم سوف نرى بعضنا.. لكنني سأظل أتذكرك.
كنت أكذب ولم أكن أدري.. المهم بالنسبة لي أن تلك اللحظة كانت صادقة وكنت فيها لا أكذب على نفسي حتى لو أتضح العكس لاحقاً. وخلال أيام جئتها مرة ثانية وثالثة.. ثم سافرت ولكن ليس إلى السودان، فقد جاءها الخير كما قالت لي، الاتجاه غرباً إلى بلاد العم سام بعد أن فازت في اللوتري:
– سنين ظللت أنتظر أن أفوز بها.. وتأخر ذلك.. لكنني لم أيأس أبداً.. طالما كان لك هدف لا تحزن كن مؤمناً به.
جاءتني فكرة غريبة ولم يكن ثمة منطق لها وليس بإمكاني أن أعرف رد الفعل.. أن أطلب الزواج منها.. وأنا أصلاً لا أعرف إن كانت متزوجة أم لا. ثم تجاهلت الأمر لأن ذلك في منظوري عبط، فليس هذا مشروعي الراهن.. أمامي أمور يجب أن تنجز ضمن خطتي الجديدة التي بدأت في هزيمتها منذ يومين بأن أدخل في هذه العلاقة، أنا الذي قررت مع مغادرتي لبيت الشلة أن أصبح إنساناً آخر.. يحدث ذلك دون قدرة على التحكم في الذات.. أحياناً لأنك تكون مسكوناً باللعنة لا تمتلك حق التصرف في أفعالك.
قبل أن تمضي وحالها.. كانت قد عرفتني على العائلة التي كانت سبباً في دخولي السجن.. أسرة أخيها لأمها.. نعم. لأول مرة أيضا تخبرني بذلك.. لكنها قالت لي:
– هو لا يهتم بشأن أسرتنا بالسودان.. أنا التي تقوم بالواجب.
– ولكن كيف شكل علاقتكما؟
– جيدة.. وهو إنسان جيد وخدوم إلا مع أهله وأقاربه.. المهم هو يعرف ناساً كثيرين، يمكن أن يساعدك في الحصول على عمل أفضل من وضعك الحالي بالنادي.
– …..
– هذا لن يكون لك مستقبلاً.. أنت ما شاء الله عليك مثقف وعالم.
وضحكت، أتذكر تلك الضحكة الآن، وأقارن بينها وضحكة أخيها، كأنهما من عجينة واحدة.. الفرق بينهما أنه نزيه وساذج.. ولا أظن أنه سوف يحصل لي على عمل.. في تلك الفترة كان الأمل في السيد شيتا لا يزال قائماً، ولم يكن مبين وجماعته قد فروا من النادي ذات ليل ولسبب مجهول. لأستيقظ في الصباح وأجد نفسي وحيداً ويكون عليّ أن أغادر المكان بعدها، بعد أن رتب لي صديقي الجديد حبيب الله سكناً مؤقتاً ولكن مع هنود آخرين من زملائه في العمل بالمطار، كنت أرقد على الأرض لا سرير لي ولم أكن أدفع شيئاً، ولم يكونوا ليتدخلوا في شؤوني كثيراً، لأنني أقضي أغلب الوقت خارج الغرفة وفي النهار بات ذلك البيت، أي بيت حبيب الله سكني، ولم يكن ليخجل من وجودي. هل كان يحس بشيء؟ هل كان يعرف زوجته جيداً؟ ليست عندي فكرة.
في البداية، ذات يوم وكنت أستحي أن أقترب من زوجة رجل صار صديقاً ويقدم لي خدمات جليلة رغم وضعه المادي المتواضع، قالت لي:
– سنكون أصدقاء.. سأكون صديقة.
صديقة.. كان التعبير غريباً عليّ بعض الشيء.. أنا لم أعتد على فكرة صداقات الرجال والنساء.. فتاريخي الذاتي لم يعرف ذلك.. في الزمان السالف كان الرجال يجلسون في صف والنساء في صف آخر بعيد.. وكان شيخنا الكبير يلقي علينا خطبه وهو يلهمنا بأن نكون شهداء ذات يوم.. ومع الأيام تحولت فكرة الصداقة مع تلك السمراء ذات الصوت المبحوح وخصلات الشعر المتهدلة، إلى ما عشناه سوياً.. كانت لها رائحة كتلك التي اشتممتها في حسونة الأمريكية بعد أن سافرت واتصلت بي مرة واحدة ثم انقطعت.. لم يكن معي هاتف، كان اتصالها بي في هاتف زوجة أخيها.. وبعدها لا أدري إن كانت قد اتصلت أم لا. ولم يرد ذكرها سواء من صديقي الذي خنته أو زوجته الخائنة.
كنا قد دخلنا البيت ذات مساء قبل سفر حسونة، وسلمنا على صديقي الجديد وزوجته التي قضت وقتاً طويلاً في المطبخ تعد أطباقاً من الحلوى في ذلك اليوم، كانت لها مهارات مميزة في الطبخ وصناعة الحلويات بالذات. أسمع صوتها وهي تثرثر مع حسونة وكأنني سمعتها تقول لها اهتموا به.. توصيها عليّ. ويوم كان الاتصال الهاتفي فهمت أمراً كان غائباً عني، فقد سألتني حسونة سؤالاً غامضاً:
– كيف هي معك؟
ومن ثم كان صوتها يتباعد في الهاتف وهي تضحك بطريقة مزعجة لي. وشككت هل تعرف خواص زوجة أخيها؟
مرة تجرأت وسألتها ساعة تعمقت العلاقة لكل المستويات طبعاً، فقالت لي:
– هل كنت تجهل السبب الذي جاءت به بك إلى هنا؟
– أي سبب؟
– لا تكن مغفلاً… لا ينقصك الذكاء.
وسط تلك الأجواء كان علي أن أتمسك بالصديق حتى تسير الأمور طبيعية.. كنت رجلاً في حاجة إلى أن يعوض عن سنوات التيه والابتعاد عن حواء.. بأن يبذل جهده الآن في ما يرضي ويشبع ذاته المنهوبة منذ عقدين.
صرت أحياناً أخرج ليلاً أمرّ على المطار لنتمشى أنا وحبيب الله في المدينة.. كان يحب عمله في المطار.. لا يمتلك شهادة جامعية ولا ثانوية.. لكنه ذكي ولماح حتى لو لم يلتفت لشأن زوجته التي تخونه مع الرجال. لا أظن أنني أولهم، في كلامها هي نفسها، ما يشير إلى ذلك، غير أنه يصب جل ذكائه في العمل.. في توليد المال حتى لو بشكل سلحفائي. ولم يكن يرغب في أكثر مما يقوم به.. يؤمن بالرضا والتوكل على الله وعدم التعلق بالنهم. وكانت تمر أيام أقول لنفسي إنني أظلمه.. ثم أتراجع عن ذلك.. فإذا كان ثمة صديق غبي فماذا سأفعل لأجله لكي يصبح ذكياً في أمور لا يهتم بها.. وكانت شفقتي تتعاظم مرات مع رؤيتي لابنته.. أما زوجته فقد كانت لا تبالي بشيء سوى متعتها.. إنسانة غريبة ليس لها هم سوى تلك البلاوي.. إلى أن جاءت الصاخة وكان ذلك النهار المشؤوم.

*روائي من السودان

عماد البليك

كاتب وروائي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى