ثمار

الزخرف وبقية الكلمات

سيتم إلغاء السابق.. والبدء من هذه النقطة التي تلمع في عيني جندي أرسل للحرب دفاعاً عن جغرافية الوطن ومرّ بعينيه طيف وردي للوطن.. وذات الجندي الآخر أرسل للحرب أيضاً ليدافع عن جغرافية الوطن وعيناه تلتمعان بحب لذيذ الوطن.. الجنديان تم إرسالهما باسم الوطن.. هذان الجنديان لديهما أسرتين وأطفال تركوهم في الوطن وأتيا ليتقاتلان دفاعاً عن جغرافية الوطن.. هنا الوطن وهناك الوطن. الوطنان.. وطنا الجنديين يتقاتلان باسم الوطن الذي يعلو ولا يعلى عليه، هكذا نرى الوطن أو نتصور الوطن هكذا.. نتصوره أنه خلق ليقاتل وطناً آخر.. كلنا للوطن فداء. والوطن الآخر ليس وطنا إنه عدو الوطن.. لأي وطن علم ونشيد لهذا العلم .. أي هذا الوطن.. حروب الوطن لا تنتهي وقادة الوطن يولدون بكل يوم إما ليحاربوا باسم الوطن.. أو ليدافعوا باسم الوطن هذه حروب الوطن.. يخوضها جنود الوطن.

نحن ابناء الوطن.. وأبونا هذا الوطن يرسلنا لندافع عنه.. إن كان يريد تصفية حسابات قديمة مع شخص واحد فقط في وطن آخر .. أرسلنا لندافع عن الوطن.. بقتل أبناء الوطن الآخرين أعداء الوطن.. خيانة الوطن.. مكتسبات الوطن جغرافية الوطن مؤسسات الوطن…

آخر ما في هذا الوطن نحن بنات وأبناء الوطن.. أي شعب الوطن.. نموت نحن ليحيا الوطن.. يموت أبناء الوطن العدو ليحيا وطن العدو.. هكذا هو الوطن.. هذا أو وطن العدو.. يسمى في كل مكان بالوطن… الوطن هذا تتحدر منه أوطان صغيرة.. يمكن أن نقول عنها إنها أفرع صغيرة تتشعب من شجرته الأم.. هذه الشجرة يمكن أن يكون لها جذور عاتية ورسوخ كبير .. بما يمكنها من احتواء أوطان أم بداخلها.. ما يزيد عدد الأوطان الأم، ما ينعكس زيادة في عدد الأوطان الفروع.. ليصبح الوطن بمعنى وطن أم ووطن آخر فرع.. هذان الوطنان الفرع والأم هما جناحا الوطن.. هكذا دائما هو الوطن. ليس شخصاً، كما أنه ليس إنسان.. ليس فتاة جميلة تقف في وجه النهر لتتذكر لذة تقبع في مكان ما من هذا الوطن الذي بداخلها.. الوطن ليس ذلك الجندي الذي يخوض الوحل كما أمره قائده ليبحث عن عدو يتخفى تحت هذا الوحل.. الوطن أيضاً ليس تلك الأنجم البعيدة التي تلمع في سماء الوطن.. ليس ذلك النهر .. أو تلك الزجاجة التي سقطت في رمال الوطن ولم تتهشم.. وطن العدو أيضا ليس كذلك.. أصدقاء الوطن.. أعداء وطن آخر.. وأعداء الوطن الآخر هم أصدقاء الوطن الذي بين الوطنين.. بعد الوطنين هذين يوجد وطن يعادي وطنا مكانه بين الوطنين وصديق لوطن ما.

كانت هذه رسالة كتبتها للوطن. طلب مني أحدهم ذلك. جندي سابق. قتل كثيرين في الحرب وقُتل رفاقاً له كثر.. قال إن الذي يعرفه هو الوطن فاكتب لي رسالة له.. فسطرت رسالتي عاليه: نموت نحن ليحيا الوطن.. اعتقدت أنه مهما كان يحب الوطن بطريقته الخاصة.. اعتقدت في الوقت نفسه أن الوطن لن يحبه بهذه الطريقة الجنونية.. فسخرت نوعا ما من وطن الجندي السابق .. الوطن الأم..

رأيت آلاماً تتضح من بين ثنايا كلماته المقتضبة .. وأثراً لجرح دامٍ في صدره خلفته حروبات الوطن.. الجندي السابق كان لا يلبس قميصاً، صدره كان عارياً به نياشين الوطن.. لذا رأيت جرحه.. جندي آخر من جنود الوطن برتبة كبيرة لا أعرفه -لكن هذا- نياشينه متراصة في بذلته العسكرية وبشرته جميلة وناعمة منعمة بالغذاء الجيد والمتزن..

كنت بالطبع أعرف كلمة الوطن .. وأسمع عنها كثيراً .. يتحدثون عنها بحرص ولا أعتقد بأنها غابت يوما عن الجرائد .. رغم ذلك لم أتقصَ فيها إلا بعدما جاءني الجندي السابق طالباً مني كتابة رسالة إلى الوطن.. لم يطلب مني شيئا محددا .. ولم يحدد جملاً وكلماتٍ بعينها وقف أمامي وكان طلبه: أكتب لي رسالةً للوطن.. ثم انصرف وعاد غداً ليتسلم رسالة الوطن.. وكان صدره أيضاً عارياً به جروح الوطن..

اشتغلت في رسالة الجندي السابق للوطن، على معنى الوطن.. عند الجنود الذين يحمونه .. والجنود الآخرون الذين يحمون أوطانهم.. توصلت إلى أن الوطن أوله جنود.. مجروحون ومقتولون فدا الوطن.. يسافرون إلى الحروب البعيدة .. يتسامرون هناك عن جغرافية الوطن.. الأبناء، الزوجات، الآباء، الأمهات، الأنهار، دور السينما .. قبلة مضى عليها الزمن الماضي .. زمن قبل الحروب.. يتسامر جنود الوطن.. يقول جندي لديه من العمر 31 عاماً، وهو في الحرب البعيدة: انه ودع زوجته وابنتيه .. تاركا لهن محبة الوطن.. وانه ذاهب لحماية الوطن.. ابنتاه لا تعلمان الآن ما معنى الوطن.. زوجته تعلم أن الوطن جزء منه التضحيات.. وجزءا آخر تعلمه.. انه ربما لا يعود جندي الوطن.. يمكن أن يعود وبه جزء مبتور.. بتر في سبيل الوطن.. وربما يعود سالماً لم يقتل ولم يقتل.. يضيف الجندي ذي الـ31 عاماً، في مسامرة جنود الوطن: انه يشتاق الى جغرافية الوطن.. ومدنيي الوطن.. وأولهم زوجته وابنتيه.. جندي آخر، في وطن آخر أيضا كان يتحدث في ذات الشيء، هذا ما توقعه أحد جنود الوطن في حديثه لجندي الوطن زميليه ذي الـ31 عاما.

رسالة الوطن .. خاصة الجندي السابق انتهت.

***

لنبدأ مرةً أخرى من حيث لا ندري. ماذا إذا ركزنا على لحظة الفراغ التي قد تلف الكون حين غرة. هذا اقتراح. الاقتراح الآخر، أن نبدأ من لحظة امتلاء الكون وتكونه حين تم ذلك. لدينا كون تلاشى حين غرة ولدينا كون آخر لا وصف دقيق يعكس حالة ابتداء زمنه. لن أتمكن من قول ذلك بشكل دقيق.. (الأمر الجانبي الذي جرى، هو: انفصال سردي عن الجماعية فهاأنذا أتكلم لوحدي. الباقون لا أعرف ما الذي جرى لهم). بدأنا مرة أخرى لكن القلق ينتاب هذه الكتابة.. ضع في الاعتبار، أن أحدهم ميالٌ بطبعه إلى عدم الثبات على شيء.. يتحول إلى جماعة وفي لحظة يتحول إلى هو (أنا).. يعيش هكذا في ميادين عارية ومعزولة.. لديها القابلية للتحول والزوال.. الميادين العارية تعبير نشأ بالصدفة .. أو ولده الحدس.. أرجح هذا –الاحتمال الأخير-. هذا التعبير إلى الآن لا يدل على شيءء واضح.. أقصد بهذا الشيء الواضح (معنى). الميادين العارية أحس ان هذه الكتابة الأخيرة لهذا التعبير سوف تجلي الأمر: يبقى تعبيراً جميلاً على أية حال هكذا يحسم الأمر دماغي في إشارته الأخيرة قالها وكأن كل شيء يخص هذا التعبير قد انقضى من العالم. لا أعلم لماذا يتدخل دماغي بهذه الطريقة الفجة.. يتعامل كما لو أنه (….) قلتها مرة ولن أعيد كتابتها مرة أخرى.

يا للهول من هذه اللغة المتكررة .. أشعر بهذا منذ بدأتُ أو بدأ هذا الذي يقص. لا أسماء لكلينا سواء كان هو أو أنا. هنا في هذا المكان. (في الزمن الذي نحياه حقيقةً لدينا أسماؤنا وحياتنا.. هنا كل شيء دمية يحركنا هذا الذي يعلونا .. ربما في مرةٍ أو إثنتين نستطيع ذكر أسمينا.. إذا ما حسمنا أمرنا واخترنا الهو أو الأنا). لنمضِ خطوة في ذات الطريق .. مختبرين فيها هذا الاحتفاء بالتداخل وهذا المزج الذي يحول شيء ما الى شيء ما آخر.. لنتحدث صراحةً: القصة الرئيسة تضيع .. الراوي يسيطر يخنق قصة المحكي عنه في المبتدأ .. السارد يتخبط بلا أمل في ان يعود جدياً .. لم يترك لنا الآخر يمرح بقص حياته شخصياً.. كان سيكون أكثر حكمةً وصادقاً .. والأكثر من ذلك أهميةً أنه ليس مثل السارد لا مصلحة له في ان لا يبدو حقيقياً.. السارد هذا لا يتحلى بالصراحة ولا بسعة الذاكرة.. أهدافه مثل كل الرواة تقريباً –تزييف شيء ما يخافه .. وقول اشياء جانبية لا تقدم ولا تؤخر-. من يحكي لنا من دماغه مباشرةً يشعرنا بالحميمية تجاه ما يقول.. نستشعر دفء كل شيء يحيط به.. نتخيله هكذا انه موجود في الإمكان.. وموجود في الواقع.. نصدق بتجرد كامل وقائع ما يحدث عنده.. فهو يصور لأدمغتنا قصته .. لو قال لنا في لحظة مفاجئة أنه أدار مؤشر الراديو أو أنه أطفأه بلا هدف.. سوف نتخيل ذلك بكل دقة.. من ينجح في الوصول لأدمغتنا هو صاحب القضية وليس أحداً سواه.. السُّراد والرواة هم مأزق حقيقي يجابه أصحاب الحق الأصيلون.. يعبثون بالأصالة ليقدموا لنا أسوأ التصورات التي تخصهم. – لو أنهم كلهم قدروا جيداً صاحب الحق، لظهر لنا جيل من الأبطال الحقيقيين.. ولكنا ودعنا عهداً سيئاً من الوصاية-.

هذا في ما يخص الذي يقص أو اللذين يقصان.

الآن عدت –أنا- هذا الذي أقص عليكم. (أجهل تماماً أين أختفي ومن أين أعود، لكن هذا لا يمنعني من التخمين إذا واتتني الفرصة لبحث الأمر). مع ظهوري يختفي شكل ويبدأ في الظهور شكل آخر مختلف، وطابعاً ما مجهولاً لمهمتي أشعره حين أعود. ومن ثم أبدو مهتماً باللغة متخيراً أفضل الكلمات والجمل. حين أعود ابدأ بترتيب القصة وإتاحة الفرصة لشعوري الحقيقي كرجل تائه في مهام طابعها جمالي وتعيش في اللغة.

غداً غداة انهيار هذا البناء الذي اعتمدته أبقى غير مسؤول (أبريء ذمتي منذ الآن، فالغد ليس ببعيد). سأعود إلى حالي مكتفياً فقط بتأملات عميقة لمهني التي عملت بها ، مكتفياً أنا لوحدي بتخيلها ، فلا معنى إذا ما انهار هذا البناء للمواصلة معكم أنتم ، يكفي حينها الاستذكار في مخيلتي ، لا معنى حينها لهذا الورق الذي أكتب عليه ولا لهذا القلم الذي أستخدمه في رسم كلمات ومعان ، سأرسم في مخيلتي ما أحتاجه ومن دون عناء. سأدعها تعيد فك وتركيب القصص والمشاهد والمواقف ، سأكتب في مخيلتي ما بدا لي فالحق مطلق لي لاختار ما أشاء وقتما أشاء وفي المكان الذي أشاء. اخترت مخيلتي كحرز أمين لما يقلقني وما مر بي ، لطيف ان تعتني بالمخيلة حتى ما اذا احتجت لها وجدتها فضاء آمنا لتبثها ما لم تشأ رسمه في كلمات.

أنا ومخيلتي نمضي الآن مفارقين لهذا النص، ماضيان لما اتسع لنا من ذكرى نعيشها كما ينبغي لشيئين اتحدا في توسيع الفارق بين مسافتهما والوجود الذي يعيش إلى جوارهما. غير عابئين بما يصير من بعدنا فمصيرنا قد تحقق بالانشقاق ، الذي كان لا بد أن يكون.

الآن فقط نشعر بالفواصل وباللذة ، نشعر كما لو أننا بعيدين في عالمٍ لا تتحكم فيه الجاذبية ، نحن غمرتنا الثمالة التي تشي بالكمال. نمضي في هذا الكمال المتحقق ، كما لو أنه اتحاد قديم مثل الذي تعيش فيه الأنهار مع ذاتها ، وهكذا تجردنا من قيود التوابع والآلام الكبرى ، فالمخيلة الكبرى يجب أن تتحرر ؛ تستحق ان تعيش متحدة مع حميميتها.

لن أكرر أشياءَ ثانوية ، ولن أكتفي بترديد هذا الصوت الوحيد وكأن لا صدى آخر لقصتي ؛ سأجرب أن أفتعل أمرا ما؛ فقد يولد مع هذا الافتعال شيء له بريق، شيء لا يتعامل إلا مع الافتعال ، أو هو ولادة أخرى لشيء جدي، قافزاً الآن إلى هذا المستوى من الحكي غير المنسجم (لست محترفاً ولا أحمل في كلماتي معجزة جديدة، غائراً فقط في أعماق دماغي ، ململماً قصصاً شكلت وعيه لفترات طويلة). ما أنا عاجزاً عنه حتى الآن تجاوز هذه المرحلة التمهيدية الطويلة ، والدخول في عالمي الحقيقي حيث تتماوج أسنة أقلامي فوق الورق الصقيل لا تلوي على شيء سوى أن تقول ، ان هناك من يتوجع لسبب ما (وعليكم استشعار الأمر ، راسماً توقيعي والذي أبالغ في زخرفته، كأنني بذلك أزيح آلام المعنى عن رسومات كتاباتي. أنا جشع في أداء عملي بجدية ، لذا أبالغ في تقصي المعنى الحقيقي، لا أكتب رسالة ما لم اتأكد بنفسي من بلوغها بالقوة المطلوبة لدى الطرف الآخر “المستقبل”). ضحية تعيش في عالم الضحايا، الضحايا الذين شردتهم الأوجاع الإنسانية وقذفتهم في كل الأماكن الموجعة، أسهدتهم لأيام وليال طويلة، جعلت من فرشهم نيراناً لاهبة تلسع عجزهم وضعفهم الإنساني، الضحايا الحزينون ، بين خلجاتهم نما عجزي وضعفي ، متكونا أنا هذا الذي أحكي، والضحايا الذين خالطتهم ، صاروا أسطراً مكتوبة تفوح منها رائحة الحبر ، وغزتني آراؤهم التي تنضح ألماً. هم لا يكتبون بما أنني الذي أكتب ، لكن الضحايا يعتبرون الآلام روح الكتابة الحقيقية ومحفزها الذي يدفع نحو الاشتعال والتوهج، لا آلام بلا كتابة ولا كتابة بلا آلام، هكذا هي فلسفة الضحايا في الكتابة وفي اللغة ، نصب الفخاخ للاندياح وللتداعي، ولرسم الذي يجري في نهر الحياة. ضحية لا حول لها ولا قوة ، تمرد إزاءها الفرح واندس بعيدا عن شوارعها وتلك التأوهات والأنات ذات الدافعية ، توغلت في الداخل متوحدة مع الأنا ملتصقة بالفردانية، هذا هو العالم الذي أعمل به حيث لا جدوى من عمل آخر وإن كان شبيها، الآلام الإنسانية مهنتي، التي هي في الأصل خلاص عبر الكتابة. الأشياء تتداعى: (كل ما في الأمر أنها تريد ان تقول كما قال الآخرون، من غير الضحايا). ليس مفهوما هذا الكلام الأخير غير أنه يعيش لسبب ما إما أنه سيتضح أو أنه لن يتضح أبداً ، لكنه قد وجد. فللعبارات الخادعة حياة وتكوُّن، تولد لحكمة مجهولة ، تتوغل في هذه اللغة منتزعة معنى ما ، لديها حيز وجودي تعبر فيه عن نفسها كطرف في المعنى الكلي، لها عمل مثل العبارات الجدية والمفيدة ، فالإمكان يتسع للمعركة الكبرى أو المعركة الصغرى، هكذا هي ديناميكا التفاعل وفيزياء الوجود، العالم لا يستسلم أبداً للأحادية ، ولا يتسع إلا في دائرته الحقيقية. هأنذا نشط جداً في إكساب اللغة زخارف غامضة وإيداعها محمولات متشنجة، فالغرض الأساسي هو الإبحار في العتمات القصية منها ، وشدها إلى الجانب الآخر الذي في آخر إعتامها، لنرَ ضوءا هائلا من المعنى يضيء المخاوف وينتزعها من مكامنها النائمة والمستكينة، لتتحرر هذه اللغة من نشيجها المحموم، عملي الذي أنشطر فيه إلى جزيئات دقيقة ، إلى كيمياء بشرية ، وأبدو فيه مثل موجات بحرية هائجة، يقودني في خطى الإنسان، وأخص منه الإنسان الذي فقد هالة من الفرح أو ناله نصل إنساني آخر لا يأبه بأهدافه، أغطُ في نومٍ عميق الآن، بعدما اعتزلت الكتابة بشتى تخصصاتها، وبعدما استقصيت وراءها كثيراً، لا آبه أنا أيضاً بذكرى تلك الآلام الجبارة، ولا بالإنسان ذو النصل، (فلي مخاوف جديدة، ورمزية تخص تسكعاتي في مخيلات ترى بأنها مغدورة من الزمن، أو أنها تسمي القدر بلا تحيز مسؤولا عن ألمها الحقيقي، القدر تقدر أنه ذلك الإنسان ذو النصل الذي يتدبر إهالة المخاوف الأبدية في ثنايا قضاياها الأصيلة). وهكذا يشتد صراع اعتزالي وصراع تذكري ، في ما أنا الآن لا شيء سوى إن كان القصد بـ(الأنا) الهو.

رمزيا لا واقعيا بدأت قصتي؛ فأنا محض إشارات وذبذبات تسوي الأمور من علي، من المركز الحساس والدقيق، إذن أنا آلة فوقية رافعة لكل الآراء والتحركات لأعضاء منتمين إليّ، إلى سلطتي الفوقية المتعالية، لديّ أعداء مستكينون لسلطتي ومذعنون للأوامر مكتملة النفاذ ، حين لا أسيطر يتحرك الآخرون بلا هدف ومن غير توقع.

أنا ذاك المتعالي الذي يعيش في نصفي شخصيتي محركاً لشتى استذكاراته وخبراته، يود الامتعاض والقول انه مستقل عن إرادتي ، بإصرار دائب أصف له الموقف الدقيق: لن تنفصل عن صلتي، كل ما في الأمر انك تقاوم. تحديه ؛ أن يكتب قصصه ، بينما تحديّ الشخصي أن أوافق أو لا أوافق على رؤيته، الراوي الذي بداخله متعطش لحكاية كل شيء، في حين أن راويّ العليم بكل شيء يقطع له الطريق في قول الأشياء التي لا تستحق، هدف راويه العودة الى نقطة البداية واستئناف القصة ، ليضيف اليها أسماء ومكان وأحداث وتقنية وأصوات متعددة، مواجهتي له قاصرة على هذا التجريب : العودة الى القصة القديمة (الزخرف وبقية الكلمات)، ليست مؤكدة إلى هذا الحد الذي تتصوره، العمل على صناعة أوصاف لك سواء كانت الحقيقية او التي تنتجها المخيلة لا أفق واضح للأمر برمته.

إذن هو صراع يجب أن نصفه بغير الدموي، فهو بداخل المكونات الخاصة، يقول لساننا ذلك، يشدد على أنه صراع متنفذين لا يستخدمون فيه سوى القدرات الذاتية والقدرات المتخيلة والمتوهمة، هو صراع داخلي بامتياز ، صراع لا إرادي لكنه صراع حقيقي وله منطقه الخاص.

وكذلك ولدتُ في هذه الآراء، أي أنني عالمٌ لا إرادي النشأة، ولا أملك أوصاف حقيقية للتعبير عن أشكال خارجية لي، بما في ذلك تقاطيع وجهي. للحقيقة أحمل شكلاً غامضاً كون ذلك محض وصف تجريدي للأنا. فالأنا هي شيء عميق ومخبوء ، لا وصف مادي بإمكانه جعلها تبدو بملامح وتقاطيع. في ذكرى هذا العالم لي وجه قديم وللأنا الغامضة وجه مندثر كان ذلك في الأمد البعيد من الزمن، في الأمد المعاصر من الزمن هذا للأنا غاب الأمد البعيد وصار وجه الأنا بلا ملامح تصفه كأن كل شيء كان في الأمد العيد. تعيش الأنا في زمن بلا خاصية محددة سوى ذكرى الأمد البعيد من الزمن.

لي في الكلمات حياة، لكنها استعصت في وصف الأنا الزمنية، بدت جاهلة إزاء تشييد المعنى الوصفي لكل شيء يتعلق بالآماد الزمنية للأنا.

في كلماتي المبعوثة إلى كثيرين والتي أنفقت فيها معنى هائلا من المفاهيم تأبى كلها أن تجد وصفاً للأنا. يا لهذه الأنا البعيدة في الزمن، لا تستسلم أبداً للكلمات ولا تبدو مستعدة لذلك. في روحها القديمة ما قبل تشكلي لغوياً كنت اعتبرها من غير رموز وتعني شيئاً مباشراً كأن أنها تعني أنا. شكلا ومضموناً.

مجتزأ من رواية بذات الاسم – تحت الطبع

 

 

* روائي من السودان

عمر الفاروق

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى