ثمار

عشية القيامة

ألهث، ألهث وأخبركم، ولا أقول إلا الصدق، أنا عائد للتو من حافة القيامة، عدواً بسرعة نبض عاشق، حبواً حين أسقط من فرط الخوف، زحفاً حينما لا أجد ما أتشبث به. انظروا إلى الخوف المتدفق من عينيّ، أيمكن لمن يحمل بداخله كل هذا الذعر، أن يتشبث بذوائب عقله كي يكذب؟

وكل الحكاية ابتدأت بعالم مجنون أخبرتكم عنه سابقاً، عالم فيزيائي متخصص في مسالك الزمن، قال إن جميع العلماء أكدوا في أزمان سابقة بما يتجاوز غَبَش الشك أن السفر عبر الزمن لا يعدو كونه ضرباً من ضروب الخيال، لا يصلح إلا للقصص الخرافية، كان يضحك بهستيريا مخيفة، حينما يعيد على مسامعي أن:

“صبراً حتى يروك صباح الغد، أنت المسافر من الماضي صوب الغد، أنت انتصاري على عقولهم الخربة”.

أأخبرتكم أنه كان وسيماً لدرجة لا تصدّق؟

تظنونني أحلم، أليس كذلك؟

أنا أيضاً كنت أحسبني أحلم، أحلم بمفردات لغة غريبة تتدفق عبر أنسجة دماغي، مرفقة بصور توضيحية، بذكريات سابقة لي، أراني أتحدثها هي بدلاً من عربيتي الركيكة، أكيدٌ أنا مما قصصته عليكم، حين ظننت أنني لا زلت أحلم عند يقظتي، لأجدني ممدداً على طاولة هلامية الجسد، ممهدة كأجمل ما يكون الاسترخاء، ومفردات تلك اللغة ما زالت تنساب عبر أنسجة إدراكي، تمنحني نشوة ما، كطفل يداعب لحيتي.

الفيزيائي الوسيم لم يصمت للحظة واحدة، كان يتحدث دونما توقف، تجاهل أسئلتي عن مكاني، زماني، جسدي الممدد بارتخاء مذل، ظل يحدثني بتلك اللغة التي كنت قبل سويعات فقط لا أفقه عنها شيئا، يحدثني بحماس عن المستقبل، عن البشرية التي حققت كل ما تصبو إليه من رخاء وسلام واتحاد عالمي:

“صارت حدود الدول جزءاً من تاريخ منقرض، فالكوكب بأكمله ليس إلا دولة واحدة، بل قل مدينة، بل هو قرية صغيرة، متناهية الصغر، في طريقي إلى العمل في ينابيع الطاقة في لاغوس، أتناول إفطاري يومياً في باريس، فأنا أعشق نكهة الشاي على رصيف نهر السين، لاحقاً أقضي ساعة استراحة الغداء في أديس، فحبي للزغني وفطائر الإينجيرا لا يدانيه حب، والعشاء، كل ليلة على ضفاف المحيط الهادئ، في غولد كوست”.

لم أخبركم بعد عن السماء، محمرة كعيون الغضب، سألته عن احمرارها المريب، لم يزد عن أن رمقها بنظرة خاوية، قبل أن يهز رأسه بلا مبالاة، قائلاً:

“لا أرى لها احمراراً، ما زالت بذات زرقتها المذهلة”.

ألهث، ألهث ولا أنطق سوى الصدق، رأيت الشمس تخرج من مغربها، بذات احمرار شفق غروبها، لكأنما تشرق من أوردة شيطان، تقطر غضباً، الشمس تكرهكم، (أخبرته)، وسماؤكم احمرّت حينما أغلقت أبوابها، من الجلي أن زرقتها الصافية كانت نتاجاً لاستغفار بني البشر الصاعد صوب الله.

– “الله، أجل، لهذا السبب بالذات جلبتك عبر أسوار الماضي إلى براحات المستقبل، لكن اخفض صوتك، واتبعني”.

لم يكن وحده الوسيم في هذا الزمان، الحق أني لم أرَ سوى إناث فائقات الجمال دائمات الشباب، لم أجد سوى رجال منمقي الملامح لدرجة الملل، أطلعني الفيزيائي سراً لم يكن خافياً على أحد، حينما رآني أطالع الوجوه الوسيمة والأجساد المتناسقة بدهشة متعاظمة:

“وأكثر ما تقدم العلم كان في مجال هندسة الجينات الوراثية، تستطيع الآن وبكل سهولة ويسر أن تختار ملامح ابنك، ابنتك القادمة، قبل حتى أن ترى النور، ألم أقل لك إن البشرية قد بلغت رقياً لم يعادله رقي؟”.

قادني عبر دهاليز بالغة التعقيد، وأبواب محكمة الإغلاق، قادني عبر سراديب لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، قادني إلى مخبأ سري في ما يبدو، غرفة مربعة الشكل صغيرة الحجم، خافتة الضوء، هو أيضاً كان خافت الصوت حين همس بكل الحذر:

“ما سأطلعك عليه الآن، هو نسخة من كتاب من الكتب المحرمة كوكبياً، سقط في حيازتي عبر ذات الثقب الذي أتاني بك من سحيق الزمان، كل نسخه السابقة أعدمت في محرقة كبيرة، كبيرة جداً، كل من يحفظ منه كلمة تم إحراقه في مجزرة وحشية، قبل مئات السنين، ولا أطلب منك سوى شيئين، أولهما ألا تطلع أحداً من أبناء جلدة عصري على سر امتلاكي له، وثانيهما، أن تترجم لي معاني كلماته، أريد قراءته، قالوا إنه وأمثاله كان سبباً للحروب والدمار، قيل عنه إن كاتبه الراحل (الله)، كان رجلاً ساحر الكلمات، تخالط بلاغته فطرة البشر السليمة في التفريق بين الصحيح والسقيم في الخلق”.

يحادثني وهو يمد يده إلى خزانة تقع خلفه بقليل، يعبث بقفلها دون أن يلقي عليها نظرة.

– “قيل عنه إنه الكتاب الذي يعطيك سبباً لتقتل، دون أن يؤنبك ضميرك، أن تسفك دم شقيقك دون أن يطرف لك جفن، أن تدمر مدينة كاملة بأطفالها ونسائها وشيوخها دون أن تسيل لك دمعة ندم”.

أخرج من أدراج الخزانة مصحفاً متوسط الحجم، مده إليّ بيد مرتجفة بعض الشيء، وذات النظرة الخاوية.

أأخبرتكم أنني رأيت الشمس تشرق من أوردة شيطان؟ قال عالم الزمن إن علماء الطبيعة استطاعوا أن يصنعوا جهازاً خارقاً، أقحموه في نواة الكوكب، جهاز يستطيع أن يحافظ على الأرض خالية من الكوارث الطبيعية، فلا زلازل بعد اليوم، ولا فيضانات، ولا انهيارات ثلجية، ولا موت مفاجئ، والثمن بخس وضئيل جداً، زلزال وحيد أخير بقوة لا يشعر بها البشر، ثم تغير الأرض دورانها بسلاسة واتزان، باتجاه الغرب، وما الضير في أن تشرق الشمس شرقاً أو غرباً؟ هذا لا ينقص من انتصار الجنس الآدمي قيد أنملة.

قلت له إن هذا الكتاب ليس من تأليف رجل، وإن الله ليس كاتباً راحلاً، أجل قلت له إن الله إله حي لا يموت. ألهث، ألهث وأخبركم أن الفتى الوسيم ظل يضحك لدقائق عدة ساخراً من سذاجتي، قال إن الله قد أتاهم قبل مئات سنين خلت، أتاهم يطالب بحقه في قيادة البشرية نحو النماء والتطور، ينطق بذات كلماته السحرية التي خلبت لب الناس دهوراً ودهوراً، ظل يخدعهم بألاعيب خارقة، كان يأمر السماء أن تمطر، فتطيعه، والزرع أن يثمر، فيمتثل لأمره، وفي لحظة فارقة، شق جسد رجل اتهمه بالكذب شاطراً إياه نصفين من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، ومن ثم أعاده جسداً سليماً معافى مكتمل الحياة، وفي المقابل لم يطلب من ذلك الرجل إلا أن يؤمن به، لكن الرجل الشجاع أجابه بابتسامة صامدة، قالها عائداً للحياة للتو: “الآن أنا أكثر إيماناً مما مضى، أنت لست إلهاً، أنت إلى زوال”.

كانت له مواهب فذة حقاً، لكنه لم يكن الرب، ففي آخر الأمر خر صريعاً تحت ضربة سيف فقط، سيف مهين صدئ، لا رب هنا يا صديق الماضي، ربكم مات في مستقبلكم، وماضينا، ولم تبق سوى سيرة الرجل الشجاع الذي وقف في وجه سحره، ترويها كتب التاريخ في مدارس الكوكب كافة.

ألهث والسماء محمرة كوجه غاضب، الشمس تشرق من مغربها بذات الشفق، هي عشية القيامة ولا أحد غيري هنا يريد أن يسمع، ويعي، ألهث وأرجوه أن يعيدني إلى حيث أتيت:

“أنت لا تفهم، القيامة غداً، أرجوك، أعدني حيث زماني، أرجوك، زمانكم لا يعنيني بشيء، استمتعوا بجمالكم المخطط من قبل مهندسي الجينات، موسيقاكم الآلية، سمائكم الحمراء، وجهازكم الذي عكس اتجاه دوران الأرض، فقط أعدني حيث كنت، لا أريد أن أموت”.

كان يبتسم كمن يحادث طفلاً يبكي، يربت على كتفي بحنو أب، ويهدئني:

“لا بأس، لا بأس، فقط أريدك أن تترجم لي معاني هذا الكتاب، وأعتقد أن”…

وانغمس في حديثه مصراً على أن هذا الكتاب ما هو إلا أحد مؤلفات كاتب راحل، وما زلت أرتجف، أصرخ إنها عشية القيامة، أشير إلى السماء الحمراء ترفض استغفاري لهم، أبحث بعيني بين الجالسين أمامي في مؤتمر صحفي، عن مسبحة، وصراخي في خاطرهم ليس إلا لوثة من آثار الماضي، حين كان الله هو المسيطر على الكون بكلماته، حين كان القتل ديناً، يبتسمون باستهزاء أحياناً، وبفخر أحايين أخرى، تخبرني نظراتهم العمياء بحيث لا ترى حمرة السماء بأنهم أعلى درجة مني في سلم البشرية، تخبرني أن:

“انظر إلى ملامحك الرعناء، لسانك المتلعثم حين ينطق لغة الكون، الكون الذي جعلناه أمة واحدة، بلا حقد أو ضغائن”.

تسألني: “أتعلم كم مرت من القرون دون بشري قتيل بنيران أخيه الإنسان؟ أتخوفنا بالقيامة أيها الجاهل؟ فلتأت القيامة، وسنهزمها كما هزمنا الله، كما قتلناه على تخوم الشام”.

يطرق الفيزيائي الشاب يسألني عن ترجمة القرآن باللغة التي لا يفقه أحد في العالم سواها.

-“ليس اختلاف الأديان والاعتقاد فقط هو ما كان سبباً في الحروب، اختلاف الألوان أيضاً، تلك التي جعلناها لوناً واحداً، اختلاف اللغات، تلك التي هجنّاها لغة واحدة، اختلاف الموسيقا، تلك التي موسقناها نغمة مكررة، أنت من عصر منقرض، يستحق الموت”.

ألهث، وهو يردد على مسامعي طلبه الأوحد: “أرجوك، لا تخبرهم أنني أمتلك نسخة من الكتاب المحرم، أنا أريده لي وحدي، برغم الشر الذي يسكنه، إلا أنني أريد الاستمتاع بألفاظه المبهرة، معانيه المبتكرة، وقصصه التي سمعت عنها الكثير، تلك التي لا تماثلها حكايا الماضي، ولا المستقبل القادم”.

أي مستقبل؟

أي مستقبل؟

إنها عشية القيامة.

رخوة أنسجة جسده، لا أعلم أهذا نتاج لتقدم الهندسة الجينية، أم أنه نتاج لحياة منعمة لا شظف فيها؟ الشاهد أن قبضتي اخترقت أحشاءه بسهولة مطلقة، لم أكن أقصد أن أقتله، أردته فقط أن يصمت عن حديثه المؤلم المؤذي عن كاتب ميت، يسمى الله.

أنت تشنق كل ما تعلمته عن الحياة والكون منذ ميلادي، أنت تقتلع ذاتي، تفصلها عني، فأنا ما أعتنقه، ما أحبه، ما أؤمن به، أرجوك، اصمت.

لم يصرخ، تألم فقط بصمت جاحظ، وأنة مكتومة.

كانت بعض أحشائه بين يديّ تقطر دماً نقياً وهو ينطق آخر أنفاسه، وأنا ألهث.

لم يعاند الموت، هي الحقيقة الوحيدة التي لم يستطع المستقبل أن يحورها، يزرع آلة ما في نخاعها الشوكي كي يمنحها الشلل، فقط دلني بأنامل مرتجفة على مكان وجود الثقب المعجز في مختبره، لم أر على عينيه ملامح خوف أو حزن لمغادرته الدنيا عقب قليل، لم أر سوى الخواء، والعمى.

أتذكرون تلك الدماء التي كانت تلطخ يدي، قميصي؟ هي لا تنتمي لآدمي في هذا الزمان، دماء مرسومة بعناية، تناسب كرياتها البيضاء والحمراء لا تنقص ولا تزيد مطلقاً عن النسب القياسية في زمان آت، لم يحن بعد، دماء ميتة بلا طعم أو رائحة، قال لي بآخر أنفاسه المذروفة بين ذراعي إنه يستحق كعالم بارز، أن يكون أول قتيل في الكون منذ قرون، المؤسف فقط أن هذا الحدث بذاته سيمر بلا مبالاة، لا يستحقها.

تمتم:

– “أنت حقا لا تنتمي إليّ، لم أكن أدري أنني أستدعي نهايتي من الماضي السحيق، ارحل إلى زمانك، ألم أقل لك؟ هو الكتاب، خريطة الدم التي لم أستطع قراءة تفاصيلها، وحده من يخالف الفطرة ليعلمك كيف، ومتى، ومن تقتل”.

كانت تلك آخر كلماته، والثقب يلتهمني بشغف يوازي عبور الزمن، أذكر أن آخر ما رأيته كان شاباً وسيم الهيئة كالمعتاد، تلتمع بعينيه فرحة جامدة، يحمل بيسراه فسيلة، ويمناه تبحث عن رمال يحثوها عن وجه الأرض، ليوسدها نخلة.

 

 

*كاتب من السودان

simosarey@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى