رسالتي إلى بابكر الوسيلة
رسالتي إلى العزيز: بابكر الوسيلة سر الختم، الشاعر الذي أنجبه حزنه فغرق في شبر القصيدة.
العزيز: بابكر الوسيلة سر الختم
صباح التراب.. صباح غبارك العالق في أهداب الأرض، ماسكرا لزينة الشعراء الأبدية:
كنت قد أزمعت الاحتساء، احتساء كوب من رماد البنّ بين يديك الممسكتين بعود صندل الأحلام، تلوّحان به في وجوه العابئين بحق تمباك الكيف المستحيل، وكنت قد اعتمرت رغبتي طاقية للذكريات، أغطيها من كيد الطيور التي تلقّط قناديل الذكرى من على رؤوسنا الممعوطة حالياً، يا صديق، بفعل غروب العمر ورجاحة تجاوز الأيام… أزمعت أن أمثل عندك بقميصي الذي قُدّ من حول، ولكن الباب يا صديق، إنه أضيق من بوز قنينة نذكرها بامتنان الرفقة وصلاح المتقين.. ونحن المتقون، فما تركنا وراءنا إثماً سوى المحبة وسيل لعاب العناق.
يا صديق:
رائحة عرق المساسقات اللدنية بين بيتك وبيت الرحيق، لا زالت طرية تحت عنقي، ما انفكَّ قلبي يزنُّ كمترارٍ مثابر يحيك تلكم الخلجات قنجة أتدثرها كلما مسني الضرّ وانحنيت أرعى موطئ قدمي لألف ترابه صرة أدسها تحت سرير أمي كي أعود، أراقصك في مشيي يا صديق، فأختُلُ مزهواً بتلك التبادلات على إيقاع الحياة، تنبض فينا قاصمةً ظهر الألم، فاتحة علينا سماء مصطخبة بترانيم الانتشاء، نحلق أعلى من فصاحات محمود ابُردة التطريبية المعطونة في شغف أبْ داود المنيخ بكلكله على صدر الغناء، نترك الأصدقاء يرفلون في برّهم بالأصدقاء، ثملين بغيّ الاستطابة، غارقين في صحو الانسراب أرواحاً تقتات وليمة المساء عند انفراج أسارير السماء.
يا صديق:
وهل يا صديق تكفي؟ هذا أوسع من جلباب الموت عشقاً يا بابكر… إنه وشيجتنا الموقدة بنارٍ وقودها القلوب وتشابك الأصابع لحظة هطول دمع الملتاع حباً على حضن صديق، يا صديق، حين نموت سندفن في حديقة الأصدقاء، وستنبت على قبورنا أبنوسات مجدولات كضفائر حبيباتنا اللاتي وهبننا الدنيا وغبن مع الزوال، ونحن سابحون في دموعهن كائنات تفر من الغرام إلى الغرام.
أيها العزيز:
كانت لنا أيام… وكانت لنا أحلام… كانت دنيانا مسارح تدير الكؤوس، وكان الوقت جليساً طيباً كحروف قصيدة تنضج كلما أزف اللقاء تحت قبة الوجد المشترك بيننا، حتى بتنا لا نعي أي عاشق ذاك الذي بيننا يكتوي بجمر الهجر، فكلنا عشاق مذهولون بالحب المغسول بكتاتيح تثيرها مراكيبنا العابرة للدروب ومشققة الجنبات كقلوبنا حين نبكي، إنها الدنيا؛ تعبث بالحكايا، وتصير فرندقس كلما اقتربنا من نهاية الرحلة، وضاع منا مفتاح قديم… هل كنا مجوساً يا صديق؟ … لم نعبد ناراً ولكنا عبرنا جسوراً، صعدنا جبالاً في أناشيدك النبوية المشرورة في نوتات أرواحنا فصرنا مؤمنين، ودخلنا جميعاً مؤتزرين عرينا بكل رحابة العري، دخلنا فضائح وحدتك، ندعوك ألا تُسكت صهيل غربتك في القصيدة.
غامت الطرقات يا صديق… وصار النهار أعمى تقوده عصا يطاقش بها حجارة الوصول، الليل مكفيٌّ كقدح تبخير الدلكة خلف صريف الرغبات، الناس فاتوا حزانى وتركوا دماءهم تسيل على خدودهم، فقد ذرفوا آخر دمعة عند عتبات الخروج… عندما كان عاطف خيري يمنحك سفّته الأخيرة من كيس محنته، كانت القصائد تنتحب والبنابر تعلو عند مفترق كوب شاي يجعلنا ملوكاً متوجين في الطريق إلى مساء طروب، الصادق الرضي ذاك الفتى الحالم بحبيبة من دخان السجائر، ظل يرسمها كلما أشعلتُ سيجارتي المستدانة من دكان الصداقات العامرة، ولمّا لم يجد لون تنورتها في مظان رفسته الأولى، طار إلى غصن غربته البعيد ليغرد بكل لغات الدنيا :
سوف أصنع لي فتاة من دخان سجائري… أسميها نضال
ونسي أنه أول من عشق العزلة، فارتجفت فرائصه من هول ما رأى، إنه مشربك بالظنون التي صكها عاطف خيري من تراب كينونته وهو يحملها على ظهره مهراً إلى بحر صيرورته.
ماذا هناك يا بابكر؟ هل نامت أحلام حلم ابن عبد شمس تحت ماء النيل بعد أن زفّت العريس الآتي الليلة بجريد نخل البيت الجديد إلى طابوره الصباحي بعد عشرين عاماً من الهيام؟ أم أنني هرمت بما يكفي لاجتراح المعجزات اليابسة في حلقي كبلغم الوطن العالق بين فكّي شيطان لابِد؟!
أيها العزيز:
ليس في الأمر خسران أبداً، فقد كسبنا الرهان منذ أمد بعيد، وما تبقى سيورق مرة أخرى، غابة للشعر الذي هو فيك وردة مكان القلب عندك، فالقصيدة هي نهرك الذي يجري مكان الدمع… وقد أمسكتنا يوماً ملتبسين باغتراف العشق سهواً من نهر الدموع فقلت لنا:
يا أصدقاء، أنا أموت تحت صروح عشقكم، ولكن الأرض أيضاً حبيبة، فلا تكنسوا آثاركم بأيديكم، ودعوا الغمام يظلل مصائر الحبيبات، فذاك أيضاً من حقيقة الحب، وسلاسة العشاق.
يا صديق، حتماً بيننا كوب وكأس ورقصات تطقطق من سحرها أصابع البنات الشالعات كبروق في سماء الحفل المرتقب.
سلام يا صديق.
*كاتب من السودان
dinkarek@gmail.com