قبل أن أنام
قرص طعمية بخمسة وعشرين قرشاً من الشبراوي كان كفيلاً بأن يردي المصطفى رامز قتيلاً، الشاب البغدادي الذي ترك مع عائلته حي الأعظمية بعاصمة المنصور المحاصرة بالدبابات الأمريكية لاجئاً لقاهرة المعز. ظل الوضع قابلاً للتعايش في العراق باعتقاده، إلى أن قتل الرجل الذي يسبقه في صف الانتظار أمام فرن “الصمون الحجري” برصاصة طائشة. كانت ملامح المصطفى شرق أوسطية بشكل لا يُلمّح لانتمائه لبلد بعينه، مما سهل اندماجه وسط المصريين لدرجة جعلتْ بروفيسور مختار، أستاذ الطب الجزيئي – وعميد كليته لاحقاً – يشعر بالأمان وهو يصف العراقيين في إحدى محاضراته بالمغول – لم يكن مدركاً للمفارقة وهو يصف الضحية بالجاني – في معرض شكواه من جنود الجيش العراقي الذين صادروا خلال غزوهم أجهزة معمله ونتائج أبحاثه بجامعة الكويت، مما أتاح الفرصة لفريق بحثي في جامعة أمريكية التوصل إلى النتائج التي كان على وشك الوصول إليها في بحث يتعلق بسرطان الثدي، لولا أن دبابات صدام حسين كانت أسرع من أجهزته المعملية المصادرة. بقي المصطفى على جلسته، لم تبدُ على ملامحه أي علامات للغضب وهو يشعر بالإهانة، على العكس، كان بارداً وهو يعنف واحداً من أكثر الأساتذة عصبيةً واعتزازاً بالنفس في الجامعة، بجملة قصيرة، جعلتْ بروفيسور مختار يقف محتاراً أمام هذا الطالب الذي يدافع بكبرياء عن شعب من البرابرة، قبل أن يدركه أحد الطلبة – ويدعى بولا – بالإشارة إلى أن المصطفى عراقي، فيتحول البرابرة إلى متحضرين بين جملتين، ويشاركون الفراعنة في صناعة الحضارة من بين نهريهم، ويتغير غضب البروفيسور إلى تسامح غريب واعتذار خجول، رافق معاملة البروفيسور لهذا العراقي الهادئ حتى تخرجه بسلام دون أن يقتل أحداً أو يفجر معملاً.
أجاد المصطفى اللهجة المصرية من التلفزيون قبل أن يعرف أن القاهرة ستكون مستقراً له ذات يوم. على الرغم من ذلك، لم يفهم المصطفى مطلقاً عندما شاهد مسرحية “المتزوجون” على تلفزيون الشباب أيام المدرسة، المغزى من جملة شيرين وهي تشكو من فقر سمير غانم وتناوله لنفس الطعام يومياً بقولها : “ما الطعمية من الفول، والفول من الطعمية”. ذلك الفارق الجوهري بين الفلافل المعدة من الحمص، والنسخة المصرية منها المصنوعة من الفول كان غائباً عنه بشكل متآمر. لم يكن “فالح أبو العنبة” وقتها قد افتتح مطعم الفلافل العراقية بمدينة السادس من أكتوبر بعد، وكان الوقت لا يزال مبكراً للهرج والمرج الذي سيسبق امتلاء المدينة بالمطاعم السورية بعد أن تصل عدوى الجنون لحزب البعث الآخر. يومها طلب المصطفى مع سندوتش الشاورما الفراخ أربعة أقراص من الطعمية المقلية للتو، لينقل قبل الانتهاء من تناولها إلى المستشفى الجامعي. حرمه مرضه من تناول الوجبة الأكثر شعبية في وادي النيل: الفول، الذي تخفى له في أقراص مميتة بشكل فاتح للشهية. تعجز خلايا الدم الحمراء لدى المصطفى عن إنتاج إنزيم سداسي فوسفات الجلوكوز النازع للهيدروجين مما يجعل عمر هذه الخلايا بالغة الحيوية يقصر عن عمرها لدى الإنسان العادي، الإنسان الذي يموت بالرصاص. جرعة بسيطة من الفول قادرة على جعل خلاياه الحمراء تتأكسد وتتكسر ليصاب بفقر دم حاد قد يؤدي إلى موته بعيداً عن صخب بغداد وعنفها. “أنيميا الفول” هكذا يشخصون مرض المصطفى. مرض وراثي غريب لطالما سحرني منذ أن ذهبتُ لزيارته في المستشفى، وتبرع هو كطالب أحياء مطلع بشرح مفصّل لكيفية تفاعله وهو مستلقٍ على الفراش الأبيض. تمنيتُ الآن لو أنني مصاب به، وأنا أقف في الحمام متردداً أمام انعكاس صورتي وبيننا عبوة ممتلئة بحبوب منومة، ظللتُ أفكر لدقائق طوال – قبل أن أبتلع الحبوب دفعة وراء الأخرى – في تلك السخرية التي كان سيشكلها موتي لو كنت المصطفى رامز، رجلاً ينتحر بتناوله أربع قطع شهية من الطعمية لم تكلفه سوى جنيه واحد مـ..ن … مـ.. طـ.. عم الشـ… برا…….