هذيان المقهى الصباحي
(فصل من رواية: ذكرى حروبٍ قادمة)
لنواجه الحقيقة يا أصدقاء: نحن كاذبون !
نعم كذّابون أبناء كذابين! وكلاب أبناء ستين كلب. من يغالطني؟ ومكابرون حدّ الكذب والافتراء على الناس. من نحن ومن هم أهلنا ومن أي كوكبٍ جئنا حتى نفتري هكذا على الناس؟
أقولُ لكم: منذ الآن سأكون واضحاً ومحدداً. سأركلُ العبارات الغامضة بأسفل حذائي، ولن أكون واحداً من أولئك الذين شوهوني وشوهوا تاريخ هذا البلد. أنا نفسي كنت جزءاً من الكارثة.
سأكونُ واضحاً بما يكفي لأنني صمتُّ أكثر من نصف قرن بلا طائل. كنتُ أظن أن في الصمت حكمة. هه.. كذبٌ. الصمتُ غباء وحيلة العاجز والعيي. كنت أرى العيب وأصمت. أنا نفسي شاركت في صنع كثيرٍ من المخازي. رأيتكم تفسدون البلاد بطولها وعرضها وكنت أصمت وأراقب، أمارس الفُرجة. كنت أقولُ لنفسي يا ولد يا الطاهر مالك بهم، عليك بنفسك، وأنا نفسي لم أكن بريئاً قط، كنتُ أتذرعُ بشتى الذرائع لكي أكون وحيداً وصامتاً ومنعزلاً هكذا.
منذ سنواتٍ طويلة وأنا آكلُ وأتلمظُ حموضة صمتي.
في الصمتِ كلام !
كذبٌ..
في الصمتِ لا شيء! أنا أقولُ ذلك عن تجربة.
أنا الصامت الأبدي.
لم يكن في يدي شيء، كنتُ قليل حيلة وضعيف رأي، كنتُ أتفادى المواجهة طيلة حياتي، ولكن الآن حانت اللحظة الحاسمة، لحظة المواجهة والحسم، وليكن بعدها ما يكون.
ولكن قبل ذلك، وقبل أن أتهيأ لفضح ما حدث هناك، وفي أرجاء كثيرة من أنحاء البلاد الشاسعة، وقبل أن أستجمع شجاعتي، وقبل أن أقول شيئاً، كانت الكارثة بالمرصاد في المنعطف التالي لحياتي، كانت الكارثة تتربص بي وبأصدقائي.. لم تمهلني الكوارث لكي أستفيقُ قليلاً من غيبوبة الخمر وخَدَر سيجارة البنقو.
داهمتني الكارثة وفجعتني في جميع الأحبّاء، قبل أن أقول ما في نفسي لهم، مات بشير في الحرب واختفى حامد هرباً من مواجهة حقيقة موت بشير، وهربتْ ميمونة من طغيان حامد المسيكتابي، وفقدت أنجلينا شقيقيها دينق وتينق في حرب كانت بلا جدوى.
وظللتُ أنا الصامت الأبدي أقلِّب في ألبومات صورهم لعلّي أعثر على عزاءٍ وهمي، ظللت أقلِّب ألبوم صورهم في ذهني، طيلة عقدين من الزمان، لكي أكون معهم في الناحية الأخرى للحياة. طبعاً كان بإمكاني اللحاق بصديقي بشير بسهولة لو كنت أمتلك شجاعة الانتحار، ولكنني أجبن من أن أُقدِم على خطوة من هذا النوع، فاكتفيت بحيلة العاجز: الصمت الأبدي!
كان لديّ الكثير الذي يجب أن يقال في مقاماتٍ كثيرة ومناسباتٍ عدة، كنتُ أريد أن أقول لحامد: أنا أحبك يا رجل وفي نفس الوقت أكرهك وأمقت قصائدك الخليعة وأغار منك!
كنتُ أريد أن أقول لحامد المسيكتابي: أنت تشبهني كثيراً لكنك أقلّ مني تعقيداً، وأكثر مني إقبالاً على الحياة.
كنتُ أريد أن أقول لميمونة: كم أحببتك واشتهيتك يا فتاة ولكنني كنت أحب حامد الذي يحبك وأحترمه أكثر من احترامي لنفسي !
كنتُ أريد أن أقول لأنجلينا: اشتهيتك كثيراً لكن الموانع كانت تمنعني من الاقتراب من حدودك، وكان موت شقيقيك كارثة بالنسبة لي وفتح لي موتهما بتلك الطريقة نافذة رؤية جديدة لوقائع الحياة، جعلني موتهما أفهم هذا الوطن على حقيقته.
كنت أريد أن أقول لبشير الشافعي: لم تكن علاقتنا كما يجب، دائماً كانت هناك مسافة بيننا، لكنني أحببتك وأحببت روحك الشاعرة وظلك الخفيف.
كنتُ أريد أن أقول لأبي: لستُ نادماً قط على هروبي المبكر من البيت، ولكنني أحبك.
كنتُ أريد أن أقول لأمي: لستُ موقناً من حبي لك فالكثير من الضباب والتشويش يحجب عني رؤية هذا الحب.
كنتُ أريد أن أقول لجدي: أحبك يا رجل، فقد تعاملت معي منذ صغري كرجل.
كنت أريد أن أقول لأطياف وظلال الناس الذين رأيتهم في ذلك الحلم: ربما أنتم أهلي، أسلافي الأقوياء، ربما أنتم محض أطياف حلم ووهم جميل، ربما! لكنني أحببتكم في ذلك الحلم كثيراً.
ولكن الكارثة كانت في المنعطف التالي فقصمت ظهر الكلام !
………….
منذ الآن سأكون واضحاً بلا تمويه، وسأدخل في الموضوع مباشرة بلا لف أو دوران، لذلك عليك أن تُصغي لي دون مقاطعة، فالأمرُ أصبح غير محتمل. تفاقمت الأمور يا صديقي، وما عاد الصمتُ مجدياً. ماذا تقول؟ هل تظن أن اعتصامك خلف حاجز الموت يعفيك من مسؤولية ما حدث؟
وأنت يا حامد، هل تظن أن غيابك وهروبك الجبان من مواجهة حقيقة موت بشير ستخفف عنك أعباء المسؤولية؟
ماذا تقولان؟
فليكن، حينها سيكون لكل حادثةٍ حديث، كما يقولون، وسوف لن أتوقف عن الحديث منذ الآن، في صدري كلامٌ كثير، صبرتُ عليه أربعين عاماً، وما عاد الصمتُ مجدياً. أنا لن أتحمل مسؤولية ما حدث وحدي ولن أحتمل مسؤولية بهذه الضخامة، فأنا هش الكيان، تعرفانني جيِّداً، ولم أكن أتحمل المسؤوليات.
أنت تحديداً، يا حامد، لا يهمك أبداً ما يجري حولنا. تكتب قصائدك ليل نهار، وكأنك في سباقٍ مع الزمن! ماذا تقول في كل هذه القصائد؟ ومن يقرأها؟ تلك القصائد لن يقرأها أحد يا صديقي، فدعك من الشعر ووجع الدماغ، فأنت لن تبزّ المتنبي ولن تبلغ مكانة الدوش !
ماذا تقول؟!
ومن قال لك إن الشعب السوداني في حاجة إلى قصائدك؟ من فوضك، أصلاً، للحديث باسم الشعب السودانس؟ ومن عينك ناطقاً رسمياً باسمه؟ بالله شوفوا الراجل العجيب ده !
لمن تكتب هذه القصائد بالله عليك، ونحن في هذا المكان القصي من البلاد؟!
قلتُ لك إن ميمونة لم تعد تعبأ بنا: ثلاثتنا لم تعد تعبأ بنا. هربت وتركتك تعاقر أطيافها وحدك.
تنام وتصحو وطعم الخمر المُر في فمك، تتلمظه وتفتح عينيك بذلك الكسل الصباحي الذي اعتدتَ عليه، على أمل أن ترى محبوبتك (أم هي صاحبتك يا رجل؟) تخطرُ أمامك بجسدها المترجرج المغناج، لتعد لك صحن (أم فتفت) بالدكوة، لتطرد غمام سَكْرَة الأمس من رأسك العصيّ. لكن هيهات يا صديقي فقد هربت ميمونة بعدما رأت منك ومنا ما لم تره من قبل، طيلة حياتها القصيرة!
تحملتْ سخفنا ونزواتنا المريضة، وسهرنا على أنغام إيقاع الدلوكة حتى الصباح. تحملت الكثير من العهر والتهتك والخلاعة والفُسق، كم مرةً دلقنا الخمر على الأسرِّة والملاءات والألحفة والمفارش؟ وكم مرة تبولت أنت نفسك في المطبخ ظناً منك أنه دورة المياه! كم مرةً أشقيناها وكانت تبكي في صمتٍ ولا تتذمر أبداً.. لأنها، ببساطةٍ شديدة، كانت تحبك، وكانت ترغب في الزواج منك طمعاً في أن تحبلها ولداً يملأ عليها حياتها الرتيبة في غيابك المتكرر عن البيت، كانت تودنا أنا وبشير وتسعد بالرفقة أيما سعادة، كنا أهلها وعشيرتها يا رجل، لكنك كنت أنانياً ونرجسياً، عشتَ معها خمس سنين ولم تشأ الزواج منها بسبب أوهامك وخلفيتك البدويّة المتكلِّسة.
وأنجلينا.
ما شأن أنجلينا؟!
يا رجل، أنتَ صرتَ بلا ذاكرة على الإطلاق! هل تذكر كيف تعرفنا بها؟ وكيف استقبلتنا في بيتها وحمتنا من بوليس حماية الحياة البريّة، لأنك كنت صاخباً بعد خروجنا من بار المدينة وسكراناً لدرجة أنك كنت تصرّ على أن تحمل جلد النمر الذي اصطدناه في الغابة قبل يومين علانيةً بصورة مستفزة، فطاردنا البوليس في أزقة المدينة الضيِّقة حتى احتمينا بتلك القطية التي كانت تستعملها أنجلينا مخزناً للعيش. هل تذكر كيف أنكرت وجودنا في بيتها حين داهم البوليس المنطقة؟ وأنت الذي كنت تقول لنا: هؤلاء الناس أنا لا أثق بهم (غدِّارون وحاقدون وأبناء ستين هِرمة)! أليست هذه كلماتك في حقِّ أنجلينا وأهلها؟!
طيِّب يا رجل، أنت عشت معهم أكثر من عشرين عاماً، نهبتَ ثروتهم الحيوانية وتاجرتَ في معادنهم النفيسة وسرقت ما سرقت من أموالهم، هل فكرتَ يوماً في أن ترد لهم الجميل بأي صورة من الصور؟
دعك من كل هذا، هل سألتَ نفسك يوماً ما جدوى حياتك- حياتنا، ونحن سادرون هكذا، في سباقٍ محمومٍ في التباري نحو مزيدٍ من المُتع والملذات والتفسخ والعهر؟ هل سألت نفسك هذا السؤال البسيط من قبل؟
أنجلينا يا صديقي، إثر اكتشافها لحقيقة بسيطة في الحياة، ما عادت ترحب بنا في بيتها بعد أن صارت فضيحتنا بجلاجل !
يعني إيه جلاجل؟!
وما يدريني! هكذا سمعتها من الناس وقرأتها في الصحف، بالله شوفوا الراجل الانصرافي ده! بدل أن ينتبه للوضع المتأزم الذي وضعنا أنفسنا فيه صار يطارد معاني الكلمات في فلوات المعاجم! هَبْ أن جلاجل هذه تعنى: أذناب. تكون إذن فضيحتنا بأذناب !
هل هكذا تروق لك؟!
هي فضيحة بأذناب إذن. يا رجل دعك من المماحكة والإيغال في ما لا نفع من ورائه. أنا بصدد التخفف من أعباء الحياة الثقيلة التي تورطت فيها معكم، طيلة ثلاثة عقود، دون أن أتوقف لحظة لمراجعة نفسي وما ارتكبتُ من موبقات. أعباء ثقيلة تلك التي أنوء بحملها يا صديقي، وأنا أدلف الآن نحو بوابة الستين بهدوء ناسكٍ بوذي.
أنت لا تستمع لي أيها الصديق ولا تعيرني انتباهاً كعادتك في تشتت الذِّهن.
سارح وراء طيوف قصائدك الغامضة، وأفكارك المهببة العجيبة عن مسائل ميتافيزيقية لا طائل من التفكير فيها، وتظن أنك سوف تصلح الكون بأفكارك وأشعارك، والكون الذي لا تدرك دقائقه منهارٌ، سلفاً، أو في طريقه لانهيارٍ وشيك بسبب أفكارك وأفكار بني جنسك من البشر الفانين.
ألا تذكر كيف أهلكنا وبددنا ثروة البلاد الحيوانية: تاجرنا في سن الفيل وريش النعام وجلود النمر، وفوق هذا قتلنا عشرات الحيوانات الأليفة: غزلان، أرانب، حبار، خراف، ماعز، أبقار وطائفة من الحيوانات بلا حصرٍ أو عدد، مرات بغرض الأكل ومرات لمتعة الصيد فقط ومرات كثيرة بلا حصر أو عدد بغرض التجارة حتى كونا ثروة لن تستطيع النارُ نفسها التهامها.. أي بشرٍ كنا وأي أناس نحن؟ وبرضو شعر؟ شعر شنو يا أخوي! أية حياة عشنا وأي عُمرٍ أضعناه في مطاردة الأطياف الغامضة!
في الوقت الذي كانت فيه البلاد الشاسعة تغلي من أقصاها إلى أقصاها، من شرقها وجنوبها وشمالها وغربها بحروباتٍ ونزوحٍ ومجاعات غارقة في أتون المحرقة التي أحرقتْ كل شيء، كنتم يا أبناء الهِرمة، تطاردون الغزلان والأرانب وتبحثون عن سن الفيل في الغابات والوديان.. لعنة الله علينا، لعنة الله عليَّ، لعنة الله عليكم يا من أضعتم عمركم وعمري خلف مطاردة سراب الأوهام.
سأكون واضحاً ومحدداً حتى لا تتهماني، أنت وصاحبك المحتمي بالموت، شأنكما دائماً معي، بأنني تطاولت عليكما بلا مبررٍ أو مسوغٍ موضوعي واضح، هاكما آخر الأنباء إذن:
يوم أمس القريب هذا، لكي أدلل لكما على مكانتنا عند ميمونة (انظرا كيف هبطنا من تلك السماء العالية التي كنا نتبوأها إلى درك الأرض السحيق) أقول لك يا حامد يوم أمس القريب هذا مررت على ميمونة في مكانها بالسوق، كانت كالعادة تضع أمامها زجاجات السمن والعسل وقِفاف السعف والمشغولات اليدوية الجلدية التي كانت تجيد صنعها بحرفية فنية عالية، وتلك المعجنات التي تصنعها من دقيق القمح وتضيف عليها شيئاً من العسل والدُّخن وقليلاً من حلاوة روحها العذبة تلك التي تعرف!
توقفتُ قليلاً أمامها، وتريثتُ في مشيتي متئداً لكي تنتبه لى، لكنها لم تعرني التفاتاً رغم أنها لم تكن مشغولة بالزبائن كالعادة، قلت في نفسي ربما لم تلحظني فتنحنحت بتلك الطريقة التي تكرهها أنتَ لكي ألفتُ انتباهها، لكنها أشاحت بوجهها عني وتشاغلتْ بمتابعة مشادّة صغيرة نشبتْ بين بنات الفلاتة اللائي يبعن حلاوة سمسمية. ماذا كنت تريدني أن أفعل حينها؟
ماذا؟
قلت لك إنها أشاحت بوجهها عني بقصد واضح متعمد، هل تريدني أن أذل نفسي أمام الأعين الغريبة في السوق؟ يا لك من رجل بلا كرامة، لا.. لستُ أنا من يفعل ذلك يا صديقي، كل شيء ولا كرامتي.
أنت، يا سيِّد حامد، لا تبحلق في هكذا، أنت كنت أكثرنا كذباً ونفاقاً، هل كنت تظن أنك بطريقتك الشاعرية تلك وصوتك العذب الفتَّان يمكن أن تخدعني؟ أسلوبك الملتوي ذاك من الممكن أن ينفع مع ميمونة مثلاً، عائشة الفزارية، بتول، رحمة، معزة، مهلة الهلباوية وحتى وصال وسلوى، وكل قائمة نسائك المنتقاة تلك، ولكنه لا ينفع معي أنا يا رجل، فأنا ومنذ الوهلة الأولى اكتشفت الادعاء في صوتك وشممت رائحة النفاق في نَبرتك، لكنني رغم ذلك أحببتك، أحببتكما معاً أنت وبشير، وأحببت ميمونة، أحببت أنجلينا، أحببتكم جميعاً وكرهتكم في نفس الوقت!
كرهت ذلك الصباح الذي دخلتما فيه علي في غرفتي الواطئة، وأنتما متسربلان في عمركما الصغير الشرِّير.
في ذلك الصباح، قبل أربعين عاما، رأيت حياتي تمضي أمامي صفحة وراء صفحة كأنني أطالع كتاباً، رأيتُ الخطر وحدقتُ في عيونه المشتعلة ناراً، جُستُ خلال أروقته بهواً بهواً، وفتحت فك النمر ورأيت الموت الزؤام في أنيابه، وشاهدتُ الكوارث تأتي تباعاً: كارثةً إثر الأخرى، ولكنني، أبداً، لم أحدُسْ موت بشير الشافعي!
كانت موهبتي فذة، كأنما كانت هبة من السماء لاختبارى: أي الطريقين أسلُّك !
وأنتَ يا سيِّد بشير، لا تظن أن موتك المبكر يمكن أن يعفيك من الحساب والقصاص!
أنا صاحب هذا الثأر.
سأقتصُّ منك.
نعم.. أنا نفسي مُدانٌ ونذل. ميمونة وأنجلينا كانتا أكثر صدقاً وواقعية منا، رغم أننا تسببنا في كارثة لهن، كوارث وليست كارثة واحدة، أنت مثلاً كنت تكذب علي بشأن علاقتك السرِّية مع مهلة الهلباوية، وعلى نفسك يا رجل، في حضور الأعين الغريبة والصديقة، وكنت تدرك أنني، في قرارة نفسي، أدرك أنك كاذب، ولكنني مررت كذبتك في حضور الأعين، لأنك تدرك أنني مدرك، أنك سوف تسمح لي بكذبةٍ جيِّدة في يومٍ ما. أنا أيضاً كاذب صغير مثلكما ومكابر ومدعٍ أفاك. وناس بلة وعامر وجابر ومرجان وكل شلة المقهى وحتى ميمونة كانوا صادقين حين وصفونا بالادعاء والكبرياء الفارغ.
تعالوا، إذن، نواجه الحقيقة عارية كما هي.
لكن بعد إيه!
بعد أن طالك الموتُ يا بشير وطالك الغياب يا حامد!
نعم، لنواجه الحقيقة رغم كل شيء: نحن أناس هشون وهاربون من المواجهة، مواجهة الحقيقة ومواجهة الذات، كلنا كنا جبناء فررنا بجلودنا من مواجهة الحقيقة المرة وغرقنا في كؤوس الخمر وسرحنا خلف دخان تلافيف البنقو، أنتما محض مساطيل لستما أكثر من ذلك رغم ادعائكما الفارغ بالاختلاف والتميز عن أقرانكما. ادعينا الكثير من التلفيق والاختلاقات الخرقاء، وقلنا نحن ونحن، نحن ماذا؟ نحن لا شيء في الموازين والمعايير الإنسانية البسيطة، نحن لا شيء، إذن تعالوا نواجه الحقيقة عارية كما هي: أنا كنتُ أكثركم كذباً وادعاء، أعترفُ الآن: أنا أُكذوبة منتفخة بالجُلباب والعمامة والشال والمركوب الفاشري، لا أكثر ولا أقل، هذا هو أنا، عبارة عن ذات منتفخة تفتش عن حقيقتها في المكان الخطأ دائماً: مرة في الأصل والمحتد والقبيلة الأصيلة، شأنك يا حامد، ومرة في المال الوفير والنساء الجميلات، ومرات عدة في ادعاءٍ عريضٍ أجوف بالاختلاف عن الآخرين وعُمق الثقافة.
هل انتهيتُ؟
لا.. ليس بعد.
لكن الكارثة كانت هناك تكمنُ مثل خيالٍ فقير، في مكانٍ ما، عند المنعطف التالي للحياة، التي كنا على أهبة الاستعداد للتهيؤ لها والانطلاق في متاهاتها الرحبة.
* كاتب من السودان