ثمار

ورق البيسة

احمد بكر

يشبهني إلى حد كبير، يتحدث مثلي، إلا أنه أطول قامة وأقوى بنياناً وأسرع في إخراج مطواته التي لم أحملها يوماً. يجلس بجوار مدرستي الابتدائية أمام بابها الرئيسي، أعلى ثلاث سلالم عشقتها في صغري بلا مبرر سوى أني قادر على قفزها بدون خوف من أن أكسر رأسي. يجلس هناك للف سيجارة جديدة أو لشم “البيسة” كما يحلو لهم تسميتها هذه الأيام، مما أثار انتباهي تجاه هذا المخدر الذي اختاروا له اسم الأنثى، فالدلالة اللفظية لكل المخدرات التي يتعاطاها المصريون لها مدلول ذكوري ما؛ “نضرب بانجو” وكأنه ند لنا، “نشرب حشيش”.. “نشك لبعض”.. إلا في ما يتعلق بالبودرة فقد اختاروا اسم “بيسة” لتدليلها، وهي التي تدمر الذهن والجسد بسرعة فائقة وكأنه اعتراف منهم بأن امرأة فقط هي من تقدر على تركيع الرجل.

أغرق في هذه التساؤلات ثم أكتشف أن هذه الترهات هي بنات أفكاري. أهي بنات بشكل أنثوي أم بنات اشتقاقاً من بناء؟ يقاطعني هو وقد جلس متربعاً على السلم ثلاثي الدرجات بعد أن قادتني قدماي إلى هناك رغم خوفي الشديد منه.

هو: لا هي بنات، يعني حريم.

أنا: أنت.. عرفت منين؟ أنا…

هو: بنات أفكارك إيه يابا! مُزز مُزز يعني.. (ثم يشير إليّ بلفافة حشيش يدخنها).. ليك فيه؟

أهز رأسي بالإيجاب ثم أتناولها منه بحرص حتى لا أفتتها. كانت رقيقة جداً والكرتلة تنبعج تحت ضغطة شفتيّ ليخرج منها شيطان الرأس مضاجعاً بنات أفكاري ومسرباً الإحساس الرخو بعضلاتي، وباعثاً ذلك الشعور الذي يدفعك للسؤال..

أنا: كححححححححححححح… أنا إزاي مشربتش قبل كده؟

هو: مين قال؟

أنا: أنا.

هو: أنا مقولتش كده.

أنا: أنا مقولتش إنك قولت كده.

هو: وأنا وإنت إيه يا برنس، افتكر كده، أنا عمري مديت إيدي عليك؟ أنا بقالي كام سنة هنا منيم المنطقة دي من العصر، قربتلك؟ تؤ! تفتكر ليه؟ عشان أنا عمري ما قربت لحد، عديت عليا كام مرة؟ ألف؟…. عمرك شفت حد هنا بيضرب معايا؟ أنا محدش ضرب معايا غيرك.

أنا: يعني أنا…؟

هو: خربان.. وعلى فكرة الحوار ده مش هنا.. ده في بيتكو عندك في الأوضة إنت ممكن تكون قاعد دلوقتي بتكتب.

أنا: يعني إنت من دماغي؟

هو: وطي صوتك بس متشردش لروحك، أنا لا من دماغك ولا حاجة، أنا بس عارف اللي فيها واللي إنت مش عارفه، ده مش ذنبك ده ذنب الكيميا.

أنا: أنا كمان بضرب كيميا؟!

هو: إنت ليه قولت بضرب؟ مش من شوية كنت بتفكر ليه بيسموه ضرب ولا هو لما يبقى ليك فيه يبقى اسمه ضرب؟ عارف مين اللي بيقولوا على شرب المخدرات ضرب؟ اللي مبيعرفوش يضربوا حد، اللي طول عمرهم بيتضربوا.

غداً أتعلم الأيكيدو مثل ابن خالتي، وأعود لأوسع هذا الماجن الذي يعبث بعقلي ضرباً، أما الآن فعليّ أن أفوز بهذا النقاش.

أنا: إنت بتشتغلني على فكرة، تقدر تقوللي إزاي كنت بشوفك وأنا صغير لما كنت ببقى راجع من المدرسة؟ ده على أساس إن أنا كبير وبشرب مخدرات دلوقتي يعني، ما أنا أكيد مكنتش بضرب وأنا في ابتدائي!

هو: اسأل نفسك كده أنا كبرت يوم واحد من وإنت في ابتدائي؟

كان على حق، فجسده منذ أن رأيته حتى اليوم لطالما كان مشدوداً كوتر السهم، ورأسه حليق دائماً لا ينمو أبداً، ولم أره يسعل أو تبدو عليه أمارات ضعف من يتعاطون البيسة.

هو: اللي كان بيبيع بانجو أيامها هو إنت. فاكر الشارع اللي ورا ده؟ أديك أهو… واللي كان بيبيع بيسة برضه إنت، بس إنت اتشغلت فنسيت، اتشغلت بحوار الكتابة من ساعة ما شفت الوادين اللي ساكنين ورا، اللي أمهم ميتة ويصعبوا على أي حد، يوم ما شفتهم نويت تكتب رواية عنهم ومخلصتهاش لحد النهار ده، عارف ليه؟ عشان عمرك ما وقفت رغيت معاهم، لو سمعتهم حتعرف تكتبهم.

أنا: إنت بتزاولني.

هو: إنت اللي بتزاول نفسك. أنا عايزك تقوم تدور على الاتنين دول واسمع منهم يمكن تكتب. (يقولها وينهض شاهراً مطواته).

أعرف أن الحوار بيني وبينه قد انتهى. أعرف أنه على حق. أعرف أن قيامه بهذا الشكل يعني نهاية الحديث الودي وبداية حديث من نوع آخر ينتهي بتقليبه لي ومنحي إياه كل ما أملك، فهو أقوى من أن تثنيه رغبتي في تعلم الأيكيدو غداً عن سرقة ما معي الآن. ينظر إليّ كمن قرأ أفكاري قائلاً:

هو: أنا مش بقلبك أنا بس أكبر دماغ إنت عملتها، أصل أول مره تخرب فيها كان نفسك تبقى بلطجي.

ثم يشهر المطواة في وجهي وقد فتحها بسرعة أذهلتني.

هو: يلا قلب نفسك بالذوق بدل ما تقلبها بالعافية.

أنهي جميع الدروس القتالية الآن، لا غداً في ذهني، وأنتزع المطواة منه بحركة واحدة لأغرسها في رقبته. يقول وهو يلفظ أنفاسه:

هو: أديك فوقت أهو… رقبتي بتحرقني.. صحيح الفوقان تعب وحرقان.

أجهز عليه ثم أنتزع رأسه متجهاً في طريقي إلى القسم ناحية البيت الذي يجلس أمامه الشابان بطلا روايتي اللا منتهية. أرمقهما وترمقهما عيناه في رأسه المتدلي من يدي القابضة على أذنه اليسرى. يفزعهما كوني قد قطعت رأس أكبر جثة بالحي، يتبعاني وكل من يمشون بالشارع إلى القسم، أتجه إلى الداخل، أضع رأسه والمطواة أمام أمين الشرطة الذي فزع من هول المنظر، وظل شاهراً سلاحه هو وزملاؤه في وجهي حتى أودعوني الزنزانة. أنظر إلى عتاة المجرمين الجالسين في الحجز الاحتياطي وقد وصلهم نبأ قتلي لمن ضربهم وشوه وجوههم جميعاً، يهتف أحدهم عند دخولي بابتسامة مداهنة:

– حرس سلااااااااااااااااااااااااااااااح للي قتل كريشة!

تخبرهم نظراتي المتحدية أن الكبير قد وصل، يفسحون لي أكبر مساحة لأنام فيها، أغط في نوم طويل بلا حلم سوى الاستيقاظ، توقظني أمي رافعة رأسي من فوق أوراقي وقد هالها استيقاظي بوجه غارق بدماء ليست دمائي، ومطواة فوق الأوراق بدلاً من قلمي، تستغرب من قامتي التي ازدادت طولاً وبنياني الذي ازداد قوة، أخبرها ألا تخاف، أطمئنها أنني ما زلت أنا، أقبلها كعادتي كل صباح، أجلس إلى المنضدة لأكمل كتابة روايتي، ألمح وجهي الدامي ينعكس على زجاج النافذة، ألعق الدماء وأواصل الكتابة مبتسماً بوحشية.

 

 

* كاتب من مصر

زر الذهاب إلى الأعلى