ثمار

ليلة في جبل نيبو

(كانت العاصفة خارج الملاذ تهدأ مرة، وتجن مرات، بينما الجبل مستسلما لتلك الحمى التي تجيء بفعل لحظات استثنائية مثل تلك. تهالكت على نفسي أحدثك في غيابك:

إذن ها أنت تغيبين، فتأتي الذكريات مرة واحدة، كنحل يهجم على وردة غزيرة الرحيق. أفتح الصفحة الأولى من كتاب التذكر، صفحة بيضاء تتوهج في صدرها عبارة تقول:

” الموت وحده يا حبيبي هو الحالة القادرة على صنع مشهد الغياب بيننا، لأنني معك أصلحت من هيبة خطوات القلب التي كانت عرجاء”

أطلّ عبر بوابة الملاذ الصخري، حيث تمشط الريح في ليل كليل نيبو، جدائل المطر، أنفث دخان سيجارتي وأفتح الصفحة الثانية. ثمة فقرة طويلة أتت كلماتها منثورة كما لو أنها قصيدة في عز طزاجتها:

” ليس للنهار شكل دون صوتك الذي يعمّد صحو الصباح بتلك الذبذبات التي تزرع بي شجراً، يعقد صداقة مع الشموس والظلال، فأصير رَبّة، وأنا أتسلى بالخطوات في شارع الوقت في بلاد عليها أن ترضع الحب مع حليب الطفولة كي تنجز شكلاً فريداً للحياة “

أمد يدي للمسجلة التي تتكىء إلى جدار الملاذ، فيهطل صوت (أندريه بوتشيللي) مصاحباً هطل المطر. فأفتح الصفحة الثالثة:

” حبيبي الحب هو أن نكون معاً، حتى ونحن نكافح خطوات الموت، وهي تدرج على ظاهر كف أيدينا التي لا تتوقف عن التلويح لشموس في سماء البهجة”

ها أنت تغيبين إذن يا حبيبتي، وتنكثين كل وعودك. ها أنت تغيبين، وتتركينني أتورط بذلك الإحساس البوليسي، فأتخيلك تضعين يدك بيد رجل جديد تمشيان في شوارع ستوكهولم، التي كثرت زياراتك المفاجئة إليها مؤخراً. فأغمض عينيّ طارداً ذلك المشهد الذي يمكنه أن يصيب شرقياً مثلي، دافع عن حبه لك بكل ذخائره، فيغيب المشهد، ليحل مكانه مشهد يشي بك مريضة على سرير الشفاء في مستشفى لا يزورك فيه أحد. فأنهض من مكاني وأمشي عدة خطوات نحو باب الملاذ الذي اقتادني نحو هطل المطر وهو يهيل قدام البروق حباته على جسد التراب. فيشج رأسي مشهد آخر كنتِ فيه قد أقفلت باب قلبك، تمضين جل النهار قبالة نافذة تطل على شارع خلا من المارة. فأرفع رأسي وقد انضم الرعد لسفراء الشتاء وأصرخ مشيعاً صوتي عبر الهواء مشبعاً بالخيبة:

” ليس عدلاً يا حواء كل هذه القسوة”)

 

 

(من رواية مقصلة الحالم)

* شاعر وروائي أردني

زر الذهاب إلى الأعلى