قراءة في رواية (نصف شمس صفراء)

التمهيد:
“كانت الفتاة راقدة على الأرض على ظهرها، وكان ثوبها مرفوعاً حتى خصرها، وكتفاها ممسوكتيْن لأسفل بيدي جندي، ساقاها مفتوحتين، مفتوحتين جزئياً. كانت تنشج: أرجوك، أرجوك، كانت بلوزتها ما زالت عليها. بين ساقيها كان هاي – تيك يتحرك.
على الأرض، كانت الفتاة ساكنة. أنزل بنطلونه، وكان مندهشاً من صلابة انتصابه. كانت الفتاة جافة ومتوترة حينما دخلها. لم ينظر إلى وجهها، ولا إلى الرجل الذي يصلبها إلى الأسفل، ولا إلى أي شيء آخر على الإطلاق، وراح يتحرك بسرعة حتى شعر بذروة شهوته، ثم اندفاع سائله إلى أطرافه، ثم ارتخائه المصحوب بالاشمئزاز. زرر بنطاله بينما بعض الجنود يصفقون. وأخيراً نظر إلى الفتاة. فنظرت إليه في كراهية باردة” ص 506، 507
(نصف شمس صفراء) هي الرواية الثانية للروائية النيجيرية شيماماندا نجوزي أديتشي وصدرت في العام 2006، وكانت روايتها الأولى (زهرة الكركديه الأرجوانية) الصادرة في العام 2003م والحاصلة على جائزة الكومنولث كأفضل كتاب أول عام 2005م ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الأورانج البريطانية. روايتها الثانية (نصف شمس صفراء) والتي نحن بصددها حاصلة على جائزة الأورانج البريطانية، وتمت ترجمتها إلى خمس وثلاثين لغة، وبيعت منها حوالي ثمانمائة ألف نسخة تقريباً في مختلف أنحاء العالم، كما أنها حولت إلى فيلم من عمل المخرج النيجيري بيبي بانديلي، كأول عمل سينمائي له، ويلعب فيه دور البطولة الممثل البريطاني من أصل نيجيري شيواتال ايجيوفو، الحائز على جائزة الأوسكار لهذا العام عن أدائه في فيلم (12 عاماً من العبودية). وتقول شيماماندا حول الفيلم: “أردت أن يصور الفيلم في نيجيريا، لأن ذلك مهم ليس بالنسبة لي فحسب؛ أعلم أنه من الجيد أن تكون بلادي حاضرة، وأن يتم اكتشاف المواهب المحلية، ولكنني أعتقد أن ذلك أمر أساسي للفيلم في حد ذاته، لأنه تطرق لفترة حاسمة في تاريخ نيجيريا، فلا يمكن باعتقادي تصوير فيلم خارج نيجيريا”. لقد بدأ فعلياً عرض الفيلم في بريطانيا، وسيتم عرضه في الولايات المتحدة الأمريكية هذا الشهر، بينما يواجه عرضه داخل نيجيريا بعض الصعوبات، ورفضت الجهات المختصة السماح بعرضه. يدور هذا الفيلم الرومانسي الدرامي حول التوأمين أولانا وكاينين. فبعد إكمالهما دراستهما المكلفة في إنجلترا، تعودان إلى حياتهما المترفة في نيجيريا التي استقلّت مؤخراً، وما من شيء يشغل بالهما سوى مغامراتهما الرومانسية، لكن سرعان ما تغرق نيجيريا في مستنقع الحرب الأهلية، ما يضعهما في خضم رحلة عاطفية قوية.
روايتها الأولى (زهرة الكركديه الأرجوانية)، التي سبق وكتبنا عنها قراءة تدور أحداثها حول أحداث بيافرا من واقع أسري واجتماعي بحت لم تتطرق إلى الانتهاكات، الاغتصابات، القتل، القصف، المجاعة، الفقر. أما في روايتها (نصف شمس صفراء)، فتنتقل شيماماندا من الواقع الاجتماعي والأسري لبيافرا إلى واقع آخر مشابه، حيث الحب والغرام والجنس، الخيانة، الثورة، الفقراء والأغنياء، وهذه المرة كانت روايتها أكثر تراجيدية ودموية في السرد: جسد يسير بلا رأس بعد أن قطعتها المقاتلات الحربية، امرأة تحمل ما تبقى من رأس ابنتها رافضة مفارقتها، الدماء تسيل، روائح البول، أطفال متكورو البطن من سوء التغذية، السحالي والفئران تحولت إلى أطعمة بعد الحصار والحرب، الأغنياء يقفون في الصفوف على حد السواء مع الفقراء، الذين ازدادوا فقراً يستعطفون منظمات الإغاثة، ممارسات جنسية، جنود يغتصبون الفتيات، امرأة أخرجت أحشاءها.
في (زهرة الكركديه الأرجوانية)، تحكي شياماماندا شكل الحياة لدى الأسر المتوسطة في القارة الأفريقية والفقيرة، ومدى تأثير التعليم في هذه الحياة رافضة فكرة تأميم الفقر على كامل القارة الأفريقية وسكانها. أما في (نصف شمس صفراء)، فهي تحكي عن تراجيديا الحرب والانتقال من الثراء الفاحش والغنى إلى سحيق الفقر، لكن شخصيات الرواية وعلى الرغم من الانتقال الدراماتيكي من حياة الغنى إلى الفقر المدقع، إلا أنهم يتأقلمون مع البيئة والواقع الجديد، إيماناً منهم بقضية أسمى وهي قضية استقلال بيافرا عن نيجيريا.
(نصف شمس صفراء)، بما أن أحداثها أكثر تراجيديَّةً ودمويَّةً في ظل أجواء سياسية خانقة؛ إلا أن الكاتبة أعطت الرواية نكهة اجتماعية منتشلة القارئ من الجمود والعنف التاريخي، ففي كل نهاية فصل من الفصول، تختم الكاتبة بحدث جنسي عابر بين شخصياتها الرئيسية: أولانا، كاينين، ريتشارد، أودينيبو، أجوو.
أحداث بيافرا:
الحرب الأهلية النيجيرية تعرف أيضاً بحرب بيافرا، وهي كانت عبارة عن نزاع مسلح استمرَّ من 16 يوليو1967 حتى 13 يناير 1970، في محاولة من ولايات الجنوب الشرقي النيجيري الاستقلال عن الدولة الاتحادية في نيجيريا، وإعلان جمهورية بيافرا. اندلعت بعد انقلاب سنة 1966م الذي قاده الجنرال ياكوبي جوون Yakubu Gowon الذي على إثره تم اغتيال الرئيس جونسون آغيلي إرونسي Johnson Aguili Aronci وهو من قبائل الإيبو، وإعلان التراجع عن المبدأ الفيدرالي والتوجه المعلن للانقلابيين إلى تحويل نيجيريا إلى دولة موحدة، مما أدى بقادة الإقليم الجنوبي الشرقي إلى إعلان الانفصال وتشكيل جمهورية بيافرا المستقلة، والتي حظيت باعتراف دولي معلن مع مطلع سنة 1968م من قِبَل هاييتي والجابون وكوت ديفوار وتنزانيا وزامبيا، واعتراف غير معلن من قِبَل إسرائيل والبرتغال وفرنسا. وكانت معظم مكاتب التمثيل الخارجي لجمهورية بيافرا توجد في لشبونة، حيث تم أيضاً طبع العملة المحلية لبيافرا هناك. بدأت الحرب عقب إعلان الكولونيل أودوموجووإيميكا اوجوكووOdumegwu Emeka Ojukwu الحاكم العسكري للإقليم الشرقي استقلال الإقليم وتأسيس دولة بيافرا في 30 مايو1967م، بعد ما أقر القرار في المجلس الاستشاري للإقليم بالأغلبية الساحقة. ولم ينتظر الحكام العسكريون وقادة الانقلاب طويلاً، حتى قاموا بإعلان حالة الطوارئ، وتحولت الإجراءات الأمنية إلى مشهد حرب أهلية.
أحداث حرب بيافرا تسيطر على أغلب الأعمال الأدبية النيجيرية مثل (موسم الفوضى) للأديب النيجيري وول سونيكا، الحاصل على جائزة النوبل في الآداب 1986م، وأصبحت محور أعمال شيماماندا الأدبية.
ملخص عن الرواية:
(نصف شمس صفراء) صدرت في العام 2006م، وتمت ترجمتها من قبل الأستاذة فاطمة ناعوت، ونشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز، في العام 2009م. تتكون الرواية من 609 صفحة.
أحداث الرواية تدور في عدة مدن نيجيرية تلعب فيها (أولانا، كاينين) ابنتا ثري نيجيري أدواراً رئيسية فيها، بالإضافة إلى بروفيسور يدعى أودينيبو أستاذ بجامعة نسوكا عشيق أولانا، وخادمه أجوو وبريطاني يدعى ريتشارد، وهو عشيق كاينين. في خضم الحرب يجد نفسه أصبح مهتماً بقضية بيافرا، وأهلها من الايبو، مما جعله يبدأ بتأليف كتاب سماه “كان العالم صامتاً حينما كنا نموت”. حياة البروفيسور أودينيبو حدث فيها تحول كبير أثناء الحرب، إذ يضطر إلى مغادرة منزله للنجاة بحياته وحياة أسرته، أجوو خادم أودينيبو يتعلم القراءة والكتابة، ويصبح أستاذاً للأطفال في جمهورية بيافرا أثناء الحرب. يتم تجنيد أجوو بعد أن ألقي القبض عليه، وتعتقد أسرة أودينيبو أنه قد مات في إحدى المعارك، وتقام له طقوس الوداع، إلا أنه يظهر حياً ويبدأ تأليف كتاب عبارة عن مذكرات شخصية. أولانا تقوم بخيانة عشيقها أودينيبو، بممارسة الجنس مع عشيق توأمها كاينين (ريتشارد)، مما أدى إلى تدهور العلاقة مع شقيقتها كاينين. تنتهي الرواية باختفاء كاينين، وتنتهي الحرب وتعود أسرة أودينيبو إلى نسوكا، ويتمكن أجوو في خاتمة المطاف من تأليف كتابه.
ورد في مقدمة مترجمة الرواية فاطمة ناعوت: “من جانب آخر سنتتبع خيطاً مختلفاً يخص توأم أولانا. اسمها كاينين، لكنها نقيض توأمها. شرسة ساخرة لا تؤمن بالثورة ولا بالقضية البيافرية. سيدة أعمال تدير شركاتها وتسعى لجني الأموال. على أنها في الأخير سوف تناضل في سبيل القضية مثل بقية شعبها. تقع في هوى صحفي وباحث بريطاني، هو ريتشارد تشرشل، الذي تبنى قضية بيافرا كأنه أحد أبنائها. وكتب مخطوطة كتاب وضع له عنوان “كان العالم صامتاً ونحن نموت”، يحمل إدانة لكل العالم الذي وقف يتفرج، صامتاً، على المذابح التي صنعها النيجيريون المسلمون من قبائل الهوسا في البيافريين الانفصاليين. وفي الفصل الأخير من الرواية، سيكتشف فجأة أن تلك القضية لا تخصه، وأنه ليس جزءاً من “نحن” في عنوان كتابه؛ هو غريب عنهم بشعره الناعم وعينيه الزرقاوين، حتى وإن أحبَّ كاينين السوداء ذات الشعر الجعد. ولذلك سنكتشف مع السطر الأخير من الرواية، أن الذي سوف يكتب هذا الكتاب، ليس إلا أجوو، الخادم الأسود الصغير، الذي كبر الآن مع الحرب، وكبرت معه أحلامه ومراراته، وبعدما شهد تقتيل أفراد أسرته واغتصاب شقيقته وتشويه أطفال قريته. وسوف يهدي كتابه: “إلى سيدي رجلي الطيب!”، وهي الجملة التي كان البروفيسور أودينيبو يناديه بها منذ كان طفلاً “لا أعتقد أن الذي كتب كتاب “كان العالم صامتاً حينما كنا نموت” هو أجوو، فالكتاب ظلَّ يكتبه ريتشارد، وقد يكون افتراض المترجمة صحيحاً، بما أن الكاتبة جمعت إهداء أجوو لكتابه إلى أودينيبو، وسبقه عنوان الكتاب في صفحة 600، إلا أن هذا لا يؤكد أن مؤلفه هو أجوو، بل كان يريد أن يعطيه اسم “قصة حياة دولة في صفحة 589″، لذلك أعتقد أن المترجمة ربما أخطأت في ذلك، أو أن بعض أحداث الرواية لم تجد طريقها إلى الترجمة العربية.
المترجمة أشارت أيضاً إلى أن أحداث الرواية جاءت جميعها تقريباً على لسان أجوو، ويبدو أن هذا ليس صحيحاً، فالسارد أو الراوي من خلال طريقة السرد ليس أحد أشخاص الرواية عكس ما كان في روايتها الأولى (زهرة الكركديه الأرجوانية) التي جاءت على لسان كامبيلي.
شخصيات الرواية الرئيسية:
1- أولانا: ابنة الشيخ أوزوبيا وعشيقة البروفيسور أودينيبو. حاول والداها دفعها إلى الارتباط بوزير المالية الشيخ أوكونجي حتى يحصل والدها على عقد، إلا أنها رفضت.
2- كاينين: توأم أولانا، سيدة أعمال تدير أعمال أبيها، عكس أولانا التي ترفض الانخراط في أعمال والدها، عشيقة ريتشارد، لكنها ترفض مغادرة نيجيريا أثناء فترة حرب بيافرا بل تستمر في ممارسة أعمالها بإدارة معسكرات اللاجئين وفي نهاية الرواية تختفي في ظروف غامضة.
3- بروفيسور أودينيبو: أستاذ بجامعة نسوكا يعيش في نسوكا، مهتم بقضايا التحرر في القارة الأفريقية والاستعمار، نتيجة للحرب يهرب ومعه أسرته إلى بيافرا، ومن هناك خدم القضية البيافرية، لكن حياته من الناحية المادية تتدهور نتيجة للحصار، الذي فرضته الحكومة الاتحادية، وظل يعيش وسط قصف مدافع الجيش النيجيري حتى أصبح مدمناً للكحول.
4- ريتشارد: بريطاني يعيش في نيجيريا، يتعرف على كاينين شقيقة أولانا، فتجمعها علاقة حب أثناء الحرب. وجد نفسه يدافع عن القضية البيافرية كأحد أبنائها، وكان يساهم بمقالات ليعرف العالم عن سوء الأوضاع في بيافرا، والجوع الذي يعيشه الأطفال والنساء من بيافرا، وبدأ يكتب كتاباً سماه (كان العالم صامتاً حينما كنا نموت).
5- أجوو: خادمة أودينيبو. جاءت به عمته من القرية، والتي أوصت به، وكان في عمر الثالثة عشرة، يسميه أودينيبو “رجلي الطيب”. قرر أودينيبو أن يدخله المدرسة الابتدائية قائلاً له: “التعليم أولى الأولويات! كيف نقاوم الاستغلال إذا لم نمتلك أدوات إدراك الاستغلال؟”. أجوو تعلم سريعاً حتى إنه أصبح يقوم بتدريس الأطفال أثناء الحرب وشرع في كتابة كتاب له عن الحرب وفظاعتها قام بإهدائه إلى أودينيبو.
6- بيبي: طفلة أودينيبو، مارست والدتها بعض السحر عليها حتى استطاع أمالا ممارسة الجنس معها وهو تحت تخدير السحر ونتج عن ذلك حمل، وأثناء ولادة أمالا في المستشفى، تكتشف والدة أودينيبو أن المولود بنت وليس ولداً، فرفضتها كما أن أمالا رفضت أن ترضع الطفلة، فقبلت أولانا بتربيتها.
شخصيات ثانوية:
1- أوجيوكوا: يلعب دور زعيم الثورة البيافرية في الرواية، وهو من أعلن انفصال منطقة نيجيريا الشرقية عن نيجيريا، وإعلان جمهورية بيافرا. أوجيوكوا هو نفس الشخص الذي أعلن استقلال بيافرا في العام 1967م والتي أدت إلى حرب استمرَّت زهاء ثلاثة أعوام، قتل فيها ما يفوق المليون قتيل؛ ولقد خاض سباق الترشح إلى الانتخابات الرئاسية مرتين بعد العام 2000م. ظل يعيش في المنفى بعد استسلام البيافريين، وعاد إلى نيجيريا في الثمانينيات، حيث أمضى عقداً من الزمان في المنفى. توفي في العام 2012م وتجمع الآلاف في جنوب شرق نيجيريا، لتشييع جنازة تشوكويميكا أوجوكوا الزعيم الانفصالي إبان الحرب الأهلية في نيجيريا، المعروفة بحرب بيافرا. حظي أوكوجوا بجنازة مع تشريف عسكري، وقامت فرقة الموسيقى العسكرية بعزف الألحان الجنائزية في مدينته ننيوي في ولاية أنامبرا. ولف جثمان أوجوكوا بالعلم النيجيري، ونقل في جولة في أنحاء البلاد، وكان من بين الشخصيات التي جاءت لحضور التشييع الرئيس النيجيري جودلاك جونثان، والأديب الفائز بجائزة نوبل ويل سوينكا، والرئيس الغاني السابق جيري راولنغ.
وقال الرئيس النيجيري إثر وفاة اوجوكوا إن “حبه الكبير لشعبه وللعدالة والمساواة والإنصاف، هو ما جعله يلعب دوراً رئيسياً في الحرب الأهلية النيجيرية” .
2- أمالا: خادمة والدة أودينيبو. مارست والدتها السحر على خادمتها حتى أوقعت ابنها وخادمتها في علاقة جنسية انتهت بحمل أمالا.
3- العقيد مادو.
4- نيسيناتشي.
5- أنيوليكا.
6- سوزان جرانفيل.
7- آنسة أديبايو.
8- أوكيوما.
9- د. باتيل.
10- بروفيسور إيزيكا.
وشخصيات أخرى.
المدن التي تدور فيها الرواية:
كادونا، نسوكا، لاجوس، كانو، ايكوي، زاريا، اوموناتشي، ميديوجوري، اوبسي، انوجو، ابا، اومياهيا عاصمة بيافرا، بورت هاركووت، ايباما.
البنية السردية للرواية:
تتكون الرواية من أربعة أجزاء:
1- بدايات الستينيات.
2- نهاية الستينيات.
3- بدايات الستينيات.
4- أواخر الستينيات.
الجزء الأول: بدايات الستينيات:
“هذا السيد تقريباً مجنون؛ أمضى سنوات كثيرة من عمره فيما وراء البحار في قراءة الكتب، يتحدث إلى نفسه في مكتبه، ولا يرد التحايا، كما أن شعره غزير جداً. قالت عمة أجوو هذا التعريف بصوت خفيض فيما يسيران في الدرب. لكنه رجل فاضل، (أضافت)، وما دمت تعمل بجد، فسوف تأكل جيداً، حتى أنك سوف تأكل اللحم كل يوم توقفت لكي تبصق؛ فغادر اللعاب فمها بصوت يشبه الامتصاص ثم استقر فوق العشب.
لم يكن أجوو ليصدق أن أي إنسان، ولا حتى هذا السيد، الذي هو على وشك المعيشة معه، يأكل اللحم كل يوم. لكنه لم يجادل عمته، لأنه كان مزدحماً بالأفكار والترقب، مشغولاً بمحاولة تصور حياته المقبلة بعيداً عن القرية. كانا قد مشيا لبرهة حتى الآن، منذ أن نزلا من اللوري في مرآب السيارات، وشمس الظهيرة تحرق رقبته. لم يكن قد شاهد مثل تلك الشوارع التي بدت للعيان بعدما تجاوزا بوابات الجامعة، شوارع إسفلتية ناعمة جداً، حد أن تاق خده إلى مسها. لن يكون بوسعه أبداً أن يصف لشقيقته أنيوليكا كيف أن الأكواخ هنا مطلية بلون السماء، وتقف متجاورة مثل سادة نبلاء متأنقي المظهر، ولا كيف أن سياج الأشجار بينها مشذب ومقصوص باستقامة عند قممها فبدت مثل طاولات مغطاة بأوراق الشجر”. ص 15
في مقال للكاتبة شيماماندا بعنوان (الحياة في ظل الحرب)، تحكي فيه عن خادم كان يعمل لديهم اسمه فيدي تقول شيماماندا: “وبعد أن قادت الوالدة فيدي إلى حجرته، في ديوان الصبيان القائم خلف البيت”، أخبرتنا تقول: “جاء فيدي من القرية وهو لم يشاهد في حياته الهاتف ولا فرن الطهي بالغاز. لنتكاتف جميعاً ونساعده على الاستقرار باطمئنان”.
أمعنت النظر بفيدي وأنا مأخوذة به، فيدي لم يشاهد طوال عمره ثلاجة.
كان لونه غير قاتم، وشفتاه سميكتين وعريضتين، حتى أنهما احتلتا مساحة واسعة من وجهه. وهو يتكلم بلهجة الإيبو الريفية التي لم تتأثر بالإنكليزية، كما هي حالنا، وكان يمضغ الأرز وفمه مفتوح – بمقدورك أن ترى الأرز، مطحوناً مثل الحبوب القديمة، إلى أن يبتلعه. وإذا رد على الهاتف، يقول: “انتظر” كما علمناه، ولكنه سرعان ما يرمي السماعة فوق الجهاز. وكان يغسل ثيابنا في أحواض معدنية، ثم يكومها على الحبل المشدود بين شجرتي مانغا وجوافة في الباحة الخلفية. وهذا يستغرق منه ساعات طويلة. أول الأمر كانت الوالدة تعنفه بصوت مرتفع وتقول: “لا تقطع عملك لتتأمل السحالي التي تمر بك!”. إن أفيدي التي تحدثت عنها شيماماندا في مقالها هذا في العام 1997م، أعتقد أنه أجوو الشخصية المحورية في روايتها هذه، وتجربة أفيدي وأجوو هي نفسها حيث يدخل المدرسة في بيت بروفيسور أودينيبو، وينتهي به المطاف في حضن الجندية التي تمناها كثيراً ثم يختفي ويظهر، إلا أن أفيدي الخادم الذي كان أولانا يتحدث عنها يختفي أو يقتل في الحرب الأهلية، كما أن والدة شيماماندا كانت أستاذةً في جامعة نسوكا، وبروفيسور أودينيبو أيضاً كان أستاذاً في جامعة نسوكا.
“إذن يا أختاه سوف تنتقلين إلى نسوكا لتتزوجي أودينيبو؟” سألت أريزي.
“لا أدري عن الزواج بعد. وحسب أن أكون بجواره، وأريد أن أدرس”.
كانت عينا أريزي المستديرتان حائرتين ومعجبتين. وحدهن النساء اللواتي قرأن كتباً كثيرة مثلك، يستطعن قول مثل هذا يا أختاه. إذا امرأة مثلي ممن لا يعرفن الكتب انتظرت طويلاً جداً ستنتهي صلاحيتها. “أريد زوجاً اليوم وغداً، أوه! زميلاتي كلهن غادرنني وذهبن إلى بيوت الأزواج”.
– أنت صغيرة. (قالت أولانا) يجب أن تركزي على الخياطة الآن.
– هل ستمنحني الخياطة طفلاً؟ حتى لو كنت أكملت المدرسة، كنت سأظل بحاجة إلى طفل؟.
– لا داعي للعجلة يا أري. تمنت أولانا لو تستطيع زحزحة الكرسي القصير جهة الباب، من أجل بعض الهواء النظيف. لكنها لم تشأ أن تدرك الخالة أريزي أو حتى الجارة أن الدخان يؤذي عينيها وحلقها أوان مرأى بيض الصراصير يصيبها بالغثيان. ودت أن تبدو معتادة على كل ذلك، على هذه الحياة”. ص 68.
قضية تعليم المرأة تعتبر أهم القضايا التي تعاني منها القارة الأفريقية، حيث يعتقد على نطاق واسع، أن دور المرأة يتوقف على الزواج والولادة فقط، وتلك الفكرة تجد رواجاً كبيراً لدى النساء، فقضية التعليم لا تهمهن، وتتساءلن كثيراً لماذا يتعلمن إلا أن تعليم المرأة تجعلها متحررة وجاهزة لظروف الحياة المتقلبة، مثل الطلاق أو الظروف الاقتصادية السيئة، التي يمكن أن يمر بها الزوج، فبالتالي ففي حالة كانت الزوجة تملك مؤهلات فيمكنها أن تساعد في تدبير الاحتياجات اليومية، بالإضافة إلى أن تعليمها يمكِّنها من متابعة تعليم أبنائها، والتفكير بصورة أفضل حول مستقبلهم. لذلك نجد شيماماندا في كافة أعمالها الأدبية تولي قضية تعليم المرأة أهمية خاصة.
تستمر جدلية الغنى والفقر في أعمال شيماماندا، إذ تنتقل بشخصياتها من عالم يملأه الترف والبذخ إلى عالم آخر، حيث الفقر المدقع والجوع القارص، وهذا ربما يكون خير إجابة عن رفض شيماماندا فكرة تأميم الفقر على القارة الأفريقية، لكنها تنقل شخصياتها الروائية من حالة غنى إلى الفقر عندما يذهبون للالتقاء بأقاربهم الفقراء، وهذا ما يجعل من الأغنياء أشخاصاً غريبين عن أفريقيا. في روايتها الأولى (زهرة الكركديه الأرجوانية)، تابعنا كيف أن أسرة أيوجين وجدت الحياة في منزل العمة الفقيرة أفضل، بدلاً من منزل والدهم الغني الذي يحسب حتى الهواء الذي يدخل إليهم، ويضع لهم جدولاً يسترشدون به حتى عندما يريدون استنشاق الهواء النقي. ثلثا أعمال شيماماندا مركزة حول قضايا المرأة، ونجد في الحوار بين أولانا وخالتها أريزي، كيف أن بعض النساء يظل همهن الأساسي هو الزواج حتى لو في سِنِّ مبكرة، وهذا من الأسباب التي تساعد في ازدياد الفقر والجهل في القارة الأفريقية، وهو الزواج دون أن يكون الزوج أو الزوجة على أتم الاستعداد لذلك.
“في هذه الليلة، وبينما أولانا ترقد على فراش الخال والخالة، نظرت أريزي عبر ستارة رقيقة معلقة على حبل مدلى من مسامير على الحائط. لم يكن الحبل مشدوداً، فكانت الستارة مرخية من المنتصف. شاهدت حركة علو الصدر وانخفاضه المصاحب لتنفس أريزي، وتخيلت ما الذي يحدث؛ أن أريزي وشقيقيها، أودينتشيزو وايكيني، يرون أباهم عبر الستارة، يسمعون الصوت الذي ربما يحمل ألماً مخيفاً لطفل، فيما فخذا أبيهم يتحركان وذراعا امهم تقبضان عليهما . لم تسمع أبداً أبويها وهما يتضاجعان، ولا حتى لمحت أية إشارة لأنهما فعلا. لأنها كانت دائماً مفصولة عنهما بردهات تزداد طولاً وكثافةً للسجاجيد كلما انتقلوا من بيت إلى بيت. حينما انتقلوا إلى بيتهم الحالي، بغرفه العشر، اختار والداها لأول مرة غرفتي نوم مختلفتين. “أحتاج إلى خزانة ثياب بأكملها، سيكون لطيفاً أن يزورني أبوك!” قالت أمها. لكن ضحكة البنات التي أطلقتها أمها لم تقنع أولانا. التصنع في علاقة أبويها كان مخجلاً أكثر حينما تكون هنا في كانو”. ص 69، 70.
إن فقر الكثير من الأسر، يجعل الأسرة تشغل غرفة واحدة، قد تتألف أحياناً من الوالد والوالدة وخمسة من الأطفال أو أكثر. وفي مثل تلك الظروف يتحتم على الوالدين ضرورة ممارسة حياتهم الجنسية بصورة عادية، لأن الحياة لا يمكنها أن تتوقف بمجرد أن الأطفال ينامون في نفس الغرفة، وأحياناً يتخيلون أن الأطفال نائمون، لكنهم يتلصصون بصمت، وقد يطبقون نفس تلك الممارسات في مكان آخر قبل أوانها، والعديد من الأسر تعاني معاناة شديدة من العيش في غرفة واحدة، وبما إن أولانا كانت مندهشة حول فكرة رؤيتها لأطفال خالتها وهم يسترقون النظر، بينما كان والداهم يمارسان الجنس؛ إلا أن أولانا تقع في نفس المشكلة، بعد أن تتغير حياتها، وذلك في الجزء الرابع (أواخر الستينيات) من الرواية. “كانوا محظوظين أن وجدا غرفة واحدة، كانت أوميوهيا مزدحمة باللاجئين. شريط البنايات الطويل كان به تسع غرف، متجاورة، بأبواب تؤدي للخارج إلى شرفة ضيقة. المطبخ في إحدى النهايتين والحمام في الأخرى، جوار بستان من أشجار الموز. غرفتهم كانت مجاورة للحمام، وفي اليوم الأول، تأملت أولانا الغرفة وتساءلت: كيف يمكنها أن تعيش هنا مع أودينيبووبيبي وأجوو، أكل وارتداء ملابس وممارسة حب في غرفة واحدة. شرع أودينيبو في تخصيص أماكن النوم وفصلها بستارة خفيفة، وفيما بعد نظرت أولانا إلى الحبل المرتخي الذي ربطه أودينيبو بمسامير على الحائط، وتذكرت غرفة أنكل مبيزي والخالة إيفيكا في كانو فشرعت في البكاء”. ص 453.
“لا أعرف ماما، قال أجوو. ومشى نحو الحوض وبدأ يرص الصحون النظيفة في الخزانة. كره النكهة القوية جداً بحسائها التي تملأ المطبخ؛ أول شيء سيفعله بعدما ترحل هو غسل كل الستائر؛ لأن الروائح سوف تلتصق بها.
– لهذا أتيت. قالوا إنها مسيطرة على ابني (قالت الأم وهي تقلب الحساء). لا عجب أن ابني لم يتزوج بينما زملاؤه يحصون كم طفلاً لديهم. لقد استخدمت سحرها لتربطه. سمعت أن أباها جاء من عائلة من المتسولين الكسالى في أوموناتشي، حتى حصل على وظيفة جامع ضرائب، وبدأ يسرق من الكادحين. الآن افتتح العديد من الأعمال، ويتجول عبر لاجوس بوصفه رجلاً مهماً. أمه لم تكن أفضل منه. أي نوع من النساء تلك التي تحضر امرأة اخرى لترضع أطفالها بينما هي حية وبصحة؟ هل هذا طبيعي أمالا؟
– كلا يا ماما. (ركزت أمالا عينيها على الأرض كأنما كانت تتبع أثاراً عليها).
– سمعت أنها كانت تكبر، بينما الخدم هم من يمسحونها بعدما تتبرز. وفوق هذا أرسلها أبواها للجامعة. لماذا؟ التعليم الكثير يهدم المرأة؛ كل واحد يعرف ذلك. إنه يعطي للمرأة رأساً كبيراً، لتبدأ في إهانة زوجها. أيُّ نوع من الزوجات تكون تلك؟ رفعت والدة السيد طرف ثوبها لتمسح عرقها من على جبهتها. تلك البنات اللواتي يذهبن إلى الجامعة يتعبن الرجال حتى تفسد أجسادهن. لا أحد يعرف إن كانت ستنجب أطفالاً. هل تعرفين؟ هل يعرف أي أحد؟ … لن أترك هذه الساحرة تسيطر على ابني. لن تنجح سوف أستشير ديبيا: نوافور اغادا حينما أعود للبلدة؛ سحر ذلك الرجل شهير في مناطقنا”. ص 143، 144
والدة أودينيبو تعتقد أن حبيبة ابنها غير صالحة لتكون زوجة لأنها متعلمة، وهذا لا يجعلها المناسبة حتى تعيش مع ابنها، وقضية الحموات لها أهميتها لدى النساء، حتى أن بعض الفتيات يشترطن أحياناً أن تكون والدة الزوج العريس متوفاة قبل أن تقبل به عريساً، وأخريات تشترطن أن تظل الحماة بعيدة عن حياتها، لا تزورها إلا في حالات الضرورة القصوى، لتدخلهن المستمر في حياة أسرة ابنها؛ فبعض الحموات يفعلن ذلك اعتقاداً بأنه لحماية ابنها، أو قد يكون رفضاً للقبول بأن ابنها أصبح له حياته الخاصة، التي لا يمكنها أن تتدخل فيها. لكن بعض الزوجات يُعْلِنَّ ذلك لمحاولة منهن بالانفراد بالزوج، وليس لأن الحماة ستعكر صفو حياتها، ونجد في حالة والدة أودينيبو أنها خائفة من أن تسيطر على حياة ابنها، وأنها ستعوق مسيرة ابنها في ولادة الكثير من الأطفال.
“لم يمانع ريتشارد أن يقف جانباً في انتظارها حتى تنوي المغادرة، لم يمانع أن أحداً من أصدقائها لا يبذل جهداً ليجتذبه، لا يمانع حتى حين تشير إليه امرأة ثملة باهتة الوجه بوصفه ولد سوزان الجميل. لكنه كان ينزعج من تلك الحفلات تامة الاغتراب، حيث تغمزه سوزان بمرفقها كي ينضم إلى الرجال، بينما هي تنضم إلى حلقة النساء، ليقارن بين ملاحظاتهن حول المعيشة في نيجيريا. كان يجد صعوبة في التعامل مع الرجال الذين كان معظمهم “إنجليز”، مديرين ورجال أعمال ما قبل الكولونيالية من مؤسسات جون هولت وكينجزواي وجي بي أوليفانت وشيل أند بي بي وأفريقيا المتحدة. بشرتهم ملوحة بالحمرة من أثر الشمس والكحول. كانوا يتشاجرون حول طبيعة سياسات نيجيريا القبلية، وحول أن أولئك الرجال لم يكونوا بعد مستعدين للحكم الذاتي. رغم كل ذلك، كانوا يتحدثون حول لعبة الكروكية والزراعة وفرصهم في كادونا. حينما أعرب ريتشارد عن اهتمامه بفن ايبو– اوكوا، قالوا إن هذا الفن ليس له بعد سوق كبيرة، لذلك لم يعبأ بأن يفسر لهم أنه لم يكن مهتماً بالمال، إنها جماليات الفن فقط ما اجتذبته. وحينما قال إنه للتو قد وصل إلى لاجوس، ويريد أن يؤلف كتاباً نيجيرياً، ردوا عليه بابتسامة مقتضبة ونصيحة: الشعب عبارة عن شحاذين ملاعين، كن مستعداً لرائحة أجسادهم وطريقتهم في الوقوف والتحديق فيك بالطرقات، لا تصدق. ابدأ قصص الحظ السيء، لا تظهر ضعفاً. ابدأ تجاه شريحة الخدم. كانت هناك نكتة تصف كل سمة أفريقية. برز الاستعلاءُ الأفريقي في عقل ريتشارد: أفريقي كان يسير مع كلب. وجاء رجل إنجليزي يسأل: ماذا تفعل ما هذا القرد؟ فأجاب الأفريقي: هذا ليس قرداً بل كلباً – فقال الإنجليزي: أنا أتحدث إلى الكلب!”. ص 83، 84.
قصة الرجل الأفريقي والكلب والرجل الإنجليزي تشخص النظرة الاستعلائية التي ينظر بها البيض إلى الإنسان الأفريقي، باعتباره أقلَّ شأناً، حتى أن كلباً يمكن أن يكون أفضل منه، وإن ما يهمهم في أفريقيا ليس من يقطنونها بل الثروات والأموال التي يستطيعون الحصول عليها، لذلك استغربوا عندما حدثهم ريتشارد عن أنه ينوي تأليف كتاب عن نيجيريا، وأخبروه أن يكون مستعداً لرائحة أجسادهم وفقرهم المدقع، أي بمعنى آخر، أنهم لا يستحقون تأليف كتاب من أجلهم.
“أوه هراء (قال بروفيسور إيزيكا) أنت تحيد عن الموضوع.
أنت ترفض أن ترى الأمور كما هي بالفعل!. انزاح أودينيبو في مقعده. نحن نعيش في عصر الوحش الأبيض العملاق. إنهم يجردون السود من إنسانيَّتهم في جنوب أفريقيا وروديسيا، ويبررون ما يحدث في الكونغو، ولن يسمحوا للأمريكان السود أن يصوتوا، لكن الأسوأ من كل هذا، هو ما يفعلونه هنا. معاهدة الدفاع أسوأ من التمييز العنصري والإقصاء العنصري، لكننا لا ندرك ذلك. إنهم يتحكمون فينا من وراء الستار. هذا خطير جداً ” ص 160.
“الباعة الجائلون كانوا ينادون. اشتر الفول السوداني! اشتر البرتقال! اشتر الجوز”.
أشار ريتشارد لامرأة شابة تحمل صينية من الفول السوداني المسلوق لم يكن بالفعل يريده. أناخت صينيتها فأخذ واحدة، كسرها بين إصبعه، ومضغ الجوزة الداخلية قبل أن يسألها ملأ فنجانين. بدت مندهشة أنه يعلم حكاية التذوق أولاً”. ص 163، 164.
الجزء الثاني: نهاية الستينيات:
” نكيم! نادى السيد عالياً. لقد حدث!.
أسرعت أولانا لغرفة المعيشة، ولحقها أجوو.
كان أودينيبو واقفاً بجوار الراديو. كان التلفزيون مفتوحاً لكن الصوت مقفل لذا بدأ الراقصون كانما يترنحون ثملين. حدث انقلاب (قال السيد مؤمئاً إلى الراديو) اللواء نزيو جوا يتكلم من كادونا”.
الصوت من الراديو كان مليئاً بالشباب، والحماس، والثقة.
الدستور قد أوقف العمل به والحكومة المحلية والتجمع المنتخب قد تم حله. أيها المواطنون الأعزاء، إن هدف مجلس الثورة هو ترسيخ دولة خالية من الفساد ومن الشقاق والنزاعات. إن اعداءنا هم الساسة المستغلون، المخادعون، الرجال في الوظائف العليا والصغرى الذين يبحثون عن الرشاوى ويطلبون 10%، أولئك الذين يرغبون أن تبقى الدولة منقسمة إلى الأبد حتى يبقوا فوق كراسيهم الحكومية، القبليون، المحابون لأقاربهم، هؤلاء الذين يجعلون الدولة مستباحة للدوائر الدولية، أولئك قد قوَّضوا مجتمعنا.
ركضت أولانا إلى التليفون. “ماذا يحدث في لاجوس؟ هل قالوا ماذا يحدث في لاجوس؟”
والدك بخير نكيم. المدنيون بخير.
كانت أولانا تدير قرص الأرقام. عاملة المقسم؟ عاملة المقسم؟ ثم وضعت السماعة ورفعتها مجدداً؟ إنه لا يعمل.
أخذ السيد السماعة من يدها برفق. أنا واثق أنهم بخير. سوف تعود الخطوط سريعاً. هذا فقط لدواعي الأمن.
ومن الراديو، أصبح الصوت أكثر حسماً.
أؤكد لكل الأجانب أن حقوقهم سوف تظل محترمة. نعد كل المواطنين المحافظين على القانون بالتحرر من كل أشكال القمع، التحرر من عدم التكافؤ في الفرص، والحرية في العيش والعمل في كل سبل السعي الإنساني. نعدكم بأنكم لن تشعروا بالعار أبداً أن تقولوا إنكم نيجيريون”. ص 177، 178
“كان يجهز ثريد بيبي، وسمع أجوو من غرفة المعيشة أولانا تقول: أوه يا ربي، ماذا قال؟ ماذا قال؟
كان يجهز ثريد بيبي حينما سمع نائب الرئيس يتكلم باقتضاب في الراديو، بدأ صوته مجهداً كأنما بذل جهداً، يقول: الحكومة استسلمت للجيش”.
جاءت بعد ذلك بعض التصريحات – رئيس الوزراء اختفى، نيجيريا الآن أصبحت حكومة عسكرية فيدرالية، رئيسا الشمال والغرب اختفيا – لكن أجوو لم يكن واثقاً من الذي يتكلم ولا من أية محطة لأن السيد، وهو جالس بجوار الراديو، كان يحرك مؤشر القنوات سريعاً، يتوقف، ينصت، يغيِّر، يتوقف. كان قد خلع نظارته وبدا أكثر رهافة بعينيه الغائرتين عميقاً في وجهه. لم يضع نظارته من جديد حتى وصل الضيوف. كانوا اليوم أكثر من المعتاد، فأحضر أجوو مقاعد طاولة من السفرة إلى قاعة المعيشة ليجلسهم جميعاً. أصواتهم كانت متحمسة وانفعالية، كل شخص لا يكاد ينتظر حتى ينهي الآخر كلامه.
هذه نهاية الفساد! هذا ما كنا نحتاج أن يحدث منذ الانقلاب العام (قال أحد الضيوف). لم يتذكر أجوو اسمه، لكنه اعتاد أن يأكل كل تشين – تشين فور وضعه على السفرة، لذلك كان أجوو يضع الصينية بعيدة عن متناول يده قدر الإمكان. للرجل يدان كبيرتان، القليل من ملء يده وينتهي كل شيء.
– أولئك اللواءات أبطال حقيقيون، قال أوكيوما ورفع ذراعه.
* كاتب من جنوب السودان
kurmtiok@yahoo.com