بوب مارلي.. عودة الأسطورة
في يوم 11 مايو / أيار الجاري مرت بنا الذكرى الثالثة والثلاثون لرحيل أسطورة الكاريبي الفنان العالمي بوب مارلي.
وإذا كان إبداع الكبار قابلاً للاستعادة والتأويل بصور مختلفة، لها القدرة على تمثل الحياة السائلة وواقعها المتجدد؛ فإن تلك الاستعادة لا تستجيب إلا للأحداث التي تقع على نحو ما لتجعل من تمثُّل الإبداع حاجة متجددة.
هكذا بينما كانت رومانطيقية أبي القاسم الشابي أشبه بهوية حصرية لتمثلنا له من خلال شعره الجميل، وجدنا أنفسنا فجأة أمام استعادة أخرى للوجه الثوري لذلك الشاعر مع الثورة التونسية من خلال بيته الشهير الذي أصبح شعاراً للربيع العربي.
ربما كان المطرب العالمي بوب مارلي الذي غنى للحرية والثورة والإنسان قابلاً للاستعادة في هذا المناخ الثوري الذي تشبعت به المنطقة العربية.
بوب مارلي الذي نجا من مزالق الثورية المباشرة عبر تحرير نصه من الانحيازات الأيديولوجية المستقطبة في عصره، كان يتمثل معاني القوة في نصه الشعري وألحانه العبقرية من خلال الإيقاع الإنساني والرمزي في إحساسه بتلك القيم، أي بكونها قيماً عابرة للأعراق والهويات والطوائف.
ومن خلال تلك الشفافية الهائلة والحاضنة لألمها الإنساني عبر تاريخ الجماعة التي انتمى إليها، ظل بوب يستلهم رؤيته الموسيقية للحياة، ويترجم عبر تلك الألحان أجمل الأحاسيس المتصلة برمزية القيم.
وبالرغم من العنفوان الذي يتجلى في ألحانه الثورية والإنسانية إلا أن المفارقة العظيمة لدى بوب مارلي كانت في حساسيته الواعية لهوية السلم كفكرة أساسية وحاضنة لتلك المعاني في تجربته الغنائية. وهي حالة فنية تستقطب تناقضات ظاهرية، فالثورة والاحتجاج والغضب الإنساني هنا لا يحيلان بالضرورة إلى عنف مجاني بل يرتبطان جوهريا بمعنى السلم الذي هو قيمة إنسانية مضافة إلى تلك القيم.
لقد نجح بوب مارلي في تجاوز فخاخ الثورية المباشرة، التي تنتهي فاعليتها بنهاية الأداء أو التجربة، وبالتالي لا تختزن قيمة مطلقة تضمن قابليتها للاستعادة والتأويل في المستقبل. وهنا ربما كانت ظاهرة العمق الإبداعي المتصل بروح الأشياء والصدق الفني هي التي جعلت من تلك الألحان ذات طاقة فريدة في التأثير على الحس الإنساني. فالعلاقة الجدلية بين النص العميق واللحن المعبر عنه لا تنعكس إلا من خلال ثيمات جمالية تترسخ بمرور الزمن على النص واللحن فتأخذ طريقها لأن تكون ذات طابع أسطوري عابر للأزمنة والأمكنة.
ثمة تحديات كثيرة خاضها المطرب الكاريبي الكبير للوصول إلى العالمية، لا بوصفه أحد كبار المبدعين الذين يصدرون في غنائهم عن قلب المتروبول العالمي، بل انطلاقاً من منطقة كاريبية نائية (جامايكا) لينحاز إلى القيم الإنسانية من خلال مواجهة واقع الجماعة التي ينتمي إليها كجماعة ظلت منذ أزمنة (كوش) الأولى ما قبل الطوفان تتعرض لأنماط من التمييز والتهميش لجهة الشكل واللون. وفقط بقوة الكلمة واللحن اخترق بوب مارلي بوابات العالم وأصبح ملهماً للحالمين بالإنسانية.
التقط بوب مارلي في لحظته التاريخية إدراكاً إنسانياً فريداً لمعاناة الزنوج من خلال وعيه بنضال حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كنج في أمريكا الستينيات، ومن ثم دمجها في استعارات دينية جسدت تأويله الفني الخلاق للمجاز التوراتي، وإسقاطه برمزية عالية على واقع شعوب أفريقيا السوداء انطلاقاً من معاناة الزنوج وهجراتهم القسرية الجماعية إلى العالم الجديد. لهذا تمثَّل التجربة التوراتية في سفر الخروج بوصفها خلاصاً من بلاد بابل، وطريقاً للعودة إلى أرض الأجداد (أفريقيا) لا سيما في أغنيته الشهيرة (الخروج) (Exodus).
لقد كانت الاستعارة الدينية في التأويل الرمزي لرؤية بوب مارلي أهم بكثير من اجترار الشعارات الأيديولوجية للاشتراكية أو ما شابه في ذلك الزمن، فقد منحته الرؤية المجازية للدين انطلاقاً وعمقاً وفرادة كانت بمثابة مشترك خاص للأديان التوحيدية. ذلك أن النص الديني بحد ذاته ينطوي على استعارة لغوية مكثفة وقابلة للتأويل المتعدد.
لقد كانت الحاجة إلى اشتقاق تأويل خاص يمنح تلك الجماعة إحساسا قومياً في النظام الديني مرتبطاً بالبحث عن أسطورة ذاتية لتكون الرافعة الدينية لتلك التجربة وهكذا كان (التفسير الأفريقي للكتاب المقدس) هو التأويل التي منح الرؤية الدينية المسيحية علاقة خاصة بالأفارقة استدعت بالضرورة مسيحاً أفريقياً جعلته تلك الجماعة (الراستفارية) متمثلاً في الإمبراطور الإثيوبي هيلاسلاسي.
ورغم الوعي المفكك للجماعة الراستفارية حيال رؤيتهم لهيلاسلاسي من خلال أسطرته بطريقة غيبت تاريخه الديكتاتوري حيال مسلمي الحبشة والإريتريين، إلا أن ذلك الوعي ربما كان حاجة ذاتية لمواجهة الاقتلاع الذي شعر به زنوج الكاريبي والعالم الجديد أكثر من كونه عقيدة قابلة للتمثل.
كانت الرؤية الدينية المستعارة لدى بوب مارلي تملك انفتاحاً راهناً على الحداثة والقيم والحقوق والثورات، ولعلنا من خلال تأكيد التجربة الفنية لبوب على هذه القيم نستطيع أن ندرك المعنى الرمزي المستعاد في الفن بعد أن بقي الفن وذهبت العقيدة.
لهذا ظل بوب مارلي يضمر إحساساً عالياً للمعاني الإنسانية المرتبطة بقيم السلم والحرية حتى على حساب العقيدة الدينية. ومن يتأمل سخريته من معركة (هرمجدون) ــ معركة نهاية الأزمنة ــ في أغنية (الحب للجميع )One Love التي دعا فيها إلى السلام والأخوة الإنسانية بين جميع الأعراق والأديان ونبذ التعصب الديني في العالم، يدرك تماماً معنى رؤيته المتقدمة والمتجاوزة لرؤية الرئيس الأمريكي الجمهوري المتدين جورج دبليو بوش الذي جاء بعده بعشرين عاماً ليبشر بمعركة هرمجدون عبر غزو العراق، كما صرح بذلك للرئيس الفرنسي جاك شيراك حين رفض هذا الأخير فكرة غزو العراق.
واليوم في أجواء الربيع العربي المشحونة بشعارات الثورة والحرية والكرامة والحقوق ربما كانت استعادة بوب مارلي عبر أغنياته الثورية العميقة بمثابة استعادة موازية لثورية جيفارا، بيد أن استعادة بوب مارلي ربما كانت هي الأكثر تعبيراً عن روح الربيع العربي وثوراته التي جعلت من النضال السلمي شرطاً شارطاً لفعالياتها كما كان في كل من تونس ومصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرفق: Best Of Bob Marley
* شاعر وكاتب من السودان