شهادات

حالة حب للمكان.. حوار مع محمد عثمان عبد النبي

محمد عثمان عبد النبي من العلامات المهمة والفارقة في تجربة السرد السوداني (القصة، الرواية)، بالإضافة إلى كتابته الشعر والدراسات، نشر عبر الملاحق الثقافية والدوريات منذ بدء الثمانينيات، وتتميز قصصه بالشعرية الهائلة التي يقول إنه يستقيها من الواقع، والدقة في اختيار مفرداته بحثاً عن المفردة التي يمكن أن توضع في هذا المكان من الجملة وتفجرها.. أو تنسف كل العالم. وبالإضافة إلى أفكاره المهمة وتأملاته التي كان يقولها وهو ساهم أحياناً وأحياناً منفعلاً جداً، وإفاداته الحاذقة حول الكتابة والتجربة، امتلأت (مسجلتي) بقهقهاته الأليفة، وضحكاته الطفلة.. المعافاة.

حاوره: عبد الرحيم حسن حمد النيل

* يقول الطاهر بن جلون (إن الفن يبلغ جماله الأقصى عندما يكون بلا معنى)، وأنت تقول إن الأيديولوجيا كانت دائماً حاضرة في كتابتك، وإن الإنسان بطبعه كائن أيديولوجي، ما رأيك بأن نبدأ هكذا؟
لعلك استشففت أنني قد أكون في تناقض مع رؤية الطاهر بن جلون باعتبار أنني أتحدث عن أن الإنسان كائن أيديولوجي وأن الأيديولوجيا حاضرة دوماً في كتاباتي، أنا أعتقد أن الأيديولوجيا لا تغيب، وأن التواصل ليس تفهيمياً دائماً، والأيديولوجيا ليست فكرة دائماً، لأن الشعور يمكنه أن يكون أيديولوجيا، بل أي فعل إرادي هو فعل أيديولوجي، ولأنك لا تقبل الواقع كما هو طالما أنك تريد أن تحقق مطلباً من مطالب وجودك، فالأشياء ستكون موجودة لأجلك وليس العكس، والإنسان في كل لحظة لديه مشروع للخطة القادمة، صحيح أن هناك نشاطاً لا إرادياً بداخل الإنسان، وربما لا نعرف كيف يتم، لكن إرادته دائماً حاضرة في سلوكه وأشيائه، وأنا لا أكتب كتابة اعتباطية، أكتب عن قصد، وأعتقد أن الخلق هو القصدية، وبما أنك خططت لكتابة ما، فأنت في لحظة تحكم أيديولوجي بالعالم.
من ناحية أخرى، الفن هو التعبير عن لحظة شعورية بطريقة موحية، هذا في واحد من مستوياته، وفي بعض الأحيان سيكون الفن خلقاً للجمال، مثلما يكون تعبيراً عن ما في ذات الإنسان، هو في ذات الوقت إعادة خلق العلاقات الكونية، أيْ صياغة للعلاقات بين الكائنات بصورة توحي بالجمال وليس بتجربتك الشاعرية أنت، فأنت تستنطق الجمال الكامن في العلاقات بين الأشياء من خلال صياغة مغايرة ومختلفة، وهذه النقطة هي أم الغموض الحقيقي، لأن هناك غموضاً شعرياً حقيقياً وأصيلاً، والسبب هو المتلقي وليس الفنان، لأن المتلقي يريد أن يتعاطى مع العمل الفني عن طريق الفهم، وهذا العمل يكون تلقيه عن طريق التذوق وليس الفهم، وأعتقد أن العمل الفني مرسل مباشرة إلى الروح وليس الذهن، لذلك محاولة استنطاق معاني بعض الأنواع من الشعر لن تؤدي إلى نتيجة، لأنها مثل الموسيقى، والتجريدية الجمالية. لذلك أعتقد أن فناناً يعطي اسماً للوحة تجريدية سيكون ذلك بعيداً عن ما تعطيه اللوحة التجريدية، لأن اللوحة التجريدية هي علاقات بين المساحات اللونية، وإذا كانت صياغتها بها روح خلاقة يمكنها أن تمنحنا مذاقاً جميلا،ً لذلك احترم تجربة حسن موسى، وعبد الله بولا، وباردوس، في الثمانينيات، لأنهم كانوا يمنحون لوحاتهم أرقاماً، ولا يمنحونها أسماء أدبية، لأن اللوحة تعطي مذاقات، لذلك هناك من الشعر ما يعطي مذاقاً وليس معنى.
وأعتقد أن القاسم المشترك بين الفنون هو مشاعر الإنسان، ولا أعتقد أن هناك معنى ما من المعاني خارج وجدان الإنسان، والمعنى أيضاً شعور، والانفلات من المعنى لا يعني نوعاً من الحرية الجديدة، هناك معان جميلة تستحث أشياء كثيرة بداخلنا، لذلك لا أعتقد أن المعنى يمكن أن يغيب، التعبير عن التجربة الشعورية يمكن أن يغيب عن الفن، وهذه الأشياء توجد متوازية في التجربة الفنية، وأنا أعتقد أن كل هذا الأشياء من تجليات الأيديولوجيا في العمل الفني. والآن الناس ليسوا ضد الأيديولوجيا كأيديولوجيا، الناس ضد الأيديولوجيا الاجتماعية، وهي التي تشكل الخطر والصراع، الناس ضد الأيديولوجيا السياسية، وهنا يكمن الإشكال، إزاحة الأيديولوجيا وقمعها بهذه الطريقة الخجولة، وهي تشكل خطراً على مصالح (بعض الناس) وأنا شخصياً ليست لدي مصالح أخشى عليها، لذلك لا أخشى الأيديولوجيا – ضاحكاً – وأعتقد دائماً أن الإنسان لديه مشروع مستقبل، والإنسان هو الكائن الوحيد في العالم – المعروف لدينا، لأن البشرية لم تتعرف بعد على كائن باستطاعته أن يصوغ مستقبله ويبحث عن الوسائل التي تمكنه من ذلك، والجدل قانون خاص بالإنسان.

* نلاحظ أن معظم نصوصك القصصية تتسم بالطول، تشبه إلى حد ما رواية صغيرة، هل الأمر لضرورات، أم ثمة تعمد؟
قصصي محاولة لسبر غور الواقع الذي أعيش فيه، وأنا لا أعتقد أن هناك شخصاً يستطيع أن يكتب قصصاً خيالية، لأن كل شخص عندما يكتب سيكون أسيراً لواقعه، مثلاً قصص السندباد البحري التي كنا نقرأها في فترة الطفولة أو شاهدناها بالتلفزيون ليس فيها شيء خارج الواقع غير بساط الريح الذي يطير، وما تبقى هو الواقع ويمكنك أن تجده في كتب التاريخ، لأنك ستجد تجارة العرب في الهند وسفنهم التي تمخر البحار، والمهن والأزياء في بغداد، والسندباد البحري لم يخرج عن ذلك، وأنا لا أكتب كتابه مجانية، أنا أكتب في حالة حب للمكان الذي أعيش فيه وللناس من حولي، للوطن والناس، وأنا أحاول أن أصوغ هذه التجربة، وأضع في بالي العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعلاقة الخلاّقة بين الإنسان والمكان، وهذه المسألة أجدني مشدوداً إليها دائماً، وأحاول أن أقرأها في كتاب الواقع، وأحاول سبر غورها، وأن أكون صادقاً وأمينا معها، لذلك تجيء قصصي طويلة، وأحياناً قصيرة، والواقع به قصائد حية تشدك للبحث والتنقيب عن أغوارها البعيدة، وأحياناً أعتقد أن هناك تفاصيل تشكل ملامح محددة للعمل، يجب أن أوردها، لأن لها وظيفة دلالية خطيرة، لذلك تتسم أعمالي بالطول.

* إلى ماذا تطمح كتاباتك؟
لا أعرف إلى ماذا تطمح كتاباتي، لأن حتى طموحي هذا ربما يتغير بالتغيرات المعرفية التي ستحدث لي، وأنا بطبعي إنسان نقدي، ودائماً أوجه هذا النقد لذاتي وسلوكي، وأيديولوجيتي، لذلك دائماً أتوقع أن أكون شخصاً مختلفاً، لا أعرف إن عشت أكثر كيف ستصبح قصتي، لكن وأنا أكتب تطمح قصتي لاكتشاف المفردة التي يمكن أن توضع في هذا المكان من الجملة وتفجرها، أو تنسف كل العالم، وأنا دائماً أهجس بالبحث عن هذه المفردة، وأهتم كثيراً للمفردات، وأقيم علاقات معها، ربما كانت هذه المسألة سلسة في أيام الشباب، حيث كنت متدفقاً، وكانت قصتي أقرب إلى الشعرية، وربما الآن أحزان الحياة أدت إلى تراجع ذاكرتي اللغوية قليلاً، في السابق ربما كانت أكثر حدة وتدفقاً.

* تعول كثيراً على المفردة في الكتابة، كما قلت في أكثر من موقع، هل هو هوس باللغة، أم…؟
هو في الحقيقة هوس بالتواصل والإبانة، والتأثير، أنا لا أتحدث عن اللغة، اللغة بالنسبة إليّ أداة تواصل عليّ أن أجد شفرتها، ويجب أن تكون ماضية وقاطعة وتبت في الأمور، ولابد أن أزيد من القدرات التوصيلية للوحدات اللغوية التي أستخدمها، والصياغات التي أكتبها لابد أن تكون مشحونة بأكبر طاقة توصيلية ممكنة وأكبر قدر ممكن على التأثير، وأكبر قدرة على النقل الصادق والواضح والقوي للحقيقة، وهذا هوسي: نقل تجربتي الشعورية وبصدق. وتجربتي الشعورية تربطني بأنا جمعية وليست تجربة مهوّمة، ولا أعتقد أن ذاتي متقوقعة في الأنا، والإنسان لديه مجموعة من الذوات أو الدوائر حوله، أصدقاؤك، أسرتك، مدينتك، والإنسانية جمعاء يمكنها أن تصبح (ذاتك) وأنت يمكن أن تكتب في لحظة ما باسم كل الإنسانية.

* أنت تكتب الشعر، بالإضافة إلى القصة. القاص طغى على الشاعر فيك.. أم أن الأخير استفاد من الأول؟
يمكنك القول إن القاص استفاد من الشاعر، أعتقد أن الواقع به الكثير من الشعر، وأنا جئت للكتابة من منعطف حين ابتدأ الشعر يميل نحو القص، وأصبح القص أحد تكنيكات الشعر والسرد، وهذه المسألة نجدها واضحة عند صديقي الفنان الكبير رد الله غربته الأستاذ سيد أحمد بلال، الذي لديه أعمال جميلة جداً، دائماً تجد فيها عنصري الحكي والسرد، وبعض الأحيان يبلغ السرد لديه شأواً عظيماً، وأذكر له دائماً البيت الذي يقول:
وارتجلت عصير أغنية..
أرش به على المارة
ولذلك تحول ديوانه الشعري في آخر الأمر إلى مسرحية، إلى حوار، ولا يخلو الحوار من تطور سردي، ويمكن القول إن أول نص شعري له ابتدأ بالسرد.
وانتشرت فكرة أن تلبس التجربة الشعورية ثوب السرد، وربما هذا ما شجعني للانعطاف نحو القصة القصيرة. ثانياً: أنا قرأت قصصاً نبهتني إلى شعرية الواقع على الرغم من أن هذه القصص خلت من الشعرية. مثلاً عبد الكريم قاسم كان من المنعطفات المهمة، بالإضافة إلى جيمس جويس، الذي كان المقرر في تلك السنوات بالنسبة لنا، وأدبه الذي يسمى تيار الشعور الحر الذي منح فرصة للتعبير عن الرؤية الوجدانية للإنسان من خلال القص، ورصد الجانب الوجداني للحدث، ومسألة التركيز على جانب من الجوانب معروفة عند الكتاب، مثلاً فلوبير كان يركز على وصف الأشياء، وهذه المسألة لها جمالياتها، وتجد أن كل فنان لديه تركيز علي شيء ما، وأنا أركز على الوجداني دون إغفال الجوانب الأخرى، لذلك ظهرت الشعرية في نصوصي القصصية.

* ماذا عن (حالة) الكتابة؟
دائماً أفضل الهدوء. ومؤخراً اكتشفت أنني لا أستطيع الكتابة إلا في منزلنا فقط، ولا أعتقد أن لديَّ عملاً كتبته خارج المنزل، صحيح أن هناك أعمالاً كتبتها وأنا مغترب، لكن كنت قد اقتنعت أخيراً أن هذا منزلي (بيت العزّابة) وكتبت هناك قصصاً وشعراً، ورغم أن البيت (مزعج) ولدي أميرتان (بلقيس) و(رانيا) ولا تعترفان بمسألة أنني كاتب، وتعتبران هذا (كلام فارغ) دعك من مسألة (جو للكتابة) وإلى ذلك.

* في نصوصك الموسومة (ورود سودانية) التي تم نشرها في أحد أعداد مجلة الخرطوم، قبل سنوات، نلاحظ نزعة صوفية عميقة، واتجاهاً لموضعة الأخلاق داخل شكل كتابي أنيق، وكأنك تريد أن تقول ما هي القيم السودانية؟
أنا أعتقد أن أي نوع من الكتابة، أو أي نموذج، أو شكل إبداعي آخر هو رسالة أخلاقية، وهو بذات الوقت يتضمن رؤية كونية، لذلك أرى أن التصوف ليس بغريب عن الأدب، ولا أعتقد أن معظم الأعمال العظيمة في العالم غاب عنها التصوف، مثلاً التصوف لم يغب عن (غارسيا ماركيز) الذي وصف بعض الناس أعماله بالاشتراكية الصوفية، لكنني أعتقد أنه تصوف فقط، ولم يغب التصوف عن (جون شتاينبك) حتى وهو يكتب عن أناس صعاليك مشردين لكن قصصه كانت بها راديكالية صوفية غريبة، كذلك (تولستوي).. التصوف هو أب للفن أساساً، وأنا أعتقد أن رحلة الفنان هي رحلة المتصوف، وهذه المسألة لاحظها أيضاً الشاعر صلاح عبد الصبور عندما كتب (رحلة الشاعر) وقال إن رحلة الشاعر هي رحلة الصوفي، وإن الأعمال المبدعة هي التاريخ الوجداني للفنان، وهنا عمل الصوفية، الارتقاء الوجداني للإنسان، والصوفية ليسوا كالشعراء العاديين، الآخرين المحافظين، وأنا أعتقد أن الصوفيين تقدميون في مسألة الشعور الإنساني لأنهم يريدون أن يرتقوا به وأولئك يريدون أن يعبروا عنه وتخليده للأبد، أما المتصوفة فيريدون تجاوزه.. لا تخليده، لذلك أعتبر الصوفية تقدمية وجدانية. وأعتقد أن التصوف جزء من نسيج واقعنا السوداني، وأرى أن كل شخص يريد أن يكتب عن التجربة السودانية والوجدان السوداني، لا يستطيع أن يغفل التصوف. لأننا في كل دقيقة نسمع عن طبل الصوفية، وهو جزء لا يتجزأ من ثقافتنا ولغتنا، وحتى أولئك الذين اشتطوا وتبنوا أيديولوجيات يعتقدون أنهم تجاوزوا بها الإسلام نفسه، عندما كتبوا شعراً، لم يخل شعرهم من تصوف، لذلك أعتقد أن الإنسان السوداني صوفي بالفطرة.. شاء أم أبى.

* كيف ينظر محمد عثمان عبد النبي إلى المشهد الثقافي بتعقيداته الكثيفة، وفي أحوال البلاد الراهنة، مع استصحاب نشوء أجسام وانبعاث تكوينات ثقافية، مثل اتحاد الكتاب السودانيين، رابطة الكتاب السودانيين، نادي القصة السوداني،… الخ؟
طبعاً لا يمكننا فصل الواقع الثقافي عن الواقع السياسي والاقتصادي، وأيضاً لا يمكننا فصل الواقع السوداني عن الواقع العالمي وارتباطه بمشروع العولمة أو تأثير العامل الإعلامي، وأعتقد أن كل هذه العوامل تعمل على التأثير على الواقع الثقافي إلى حد بعيد، وأعتقد أن إحدى مشكلاتنا أن احتراف السياسة لدينا جديد لذلك ساستنا ليسوا شطاراً، ونجدهم دوماً مثل البلدوزرات ولا يستصحبون معهم رؤية لهذا الواقع، ومشاريعهم الثقافية -إن وجدت –  تخلو من هذه التصورات والرؤى. أنا أعتقد أن الناس ذاتهم واقع ثقافي، وحالة ثقافية، ونموذج إبداعي يجب المحافظة عليه والسياسيون لا يعلمون هذا، قرأت مرة كتاباً جميلاً، أعتقد أن كاتبه د.عبد الغفار، يتحدث الكتاب عن الأنثربولوجيا الثقافية، وسأستخلص لك واحدة من أفكار الكتاب العامة، حيث يقول إن التغييرات التي يستحدثها السياسيون لتحديث واقع اقتصادي لمنطقة محددة، تتم دون مراعاة لبقية العوامل الأخرى، مثلاً أنت تريد أن تدخل قرية محددة في اقتصاد السوق، فيجب أن تنظر إلى انعكاسات هذا المشروع على القيم الثقافية لتلك المنطقة، ودراسة اقتصادها، وواقعها، عوضاً عن دراسة الجدوى للمدى الشرائي، ومحاولة التأثير على سكان المنطقة إعلامياً وتغيير وعيهم الاستهلاكي وحملة التخريب الثقافي لوعيهم. والاستعمار الإنجليزي في السودان احترم الثقافات المحلية لدرجة كبيرة، وهناك نقطة مهمة يجب أن أشير إليها عن الثقافات المحلية وطبيعتها، حيث نجد أنها دائماً متلاقحة ومتحاورة وتكتسب استمرارها من ذلك، بالإضافة إلى تعانقها مع الثقافات الأخرى، وأخطأ الإنجليز كثيراً عندما استصدروا قوانين المناطق المقفولة، وحاولوا أن يفرضوا نموذج الحياة الغربية بالإضافة إلى التبشير، والداخليات الطلابية التي تعزل التلميذ عن بيئته، لكنهم لم يكونوا غافلين عن الواقع الثقافي بل ويحاورونه، وهذا الحوار توقف في السودان منذ خروج الإنجليز الذين لم يتركوا ظاهرة ثقافية في السودان دون رصد أو تسجيل أو كتابة، وكان الكثير جداً من المفتشين والمآمير الإنجليز يقومون بدراسة اللغات المحلية وكان كبار علماء الأنثربولوجيا في العالم موجودين بالسودان ومن ضمنهم بيتر شارلز الذي كتب عن الدينكا والزاندي، أما نحن في السودان فليس لدينا هذا الأمر ودائماً المشروع السياسي لدينا غير مرتبط بمشروع ازدهار ثقافي ولا يرتبط بمشروع بحث عن جوهر الثقافات وإحيائها، وليس لدينا مشروع بحث ثقافي، وكما قلت لك السياسيون لدينا أحاديو النظرة وهذا ينعكس على قراراتهم، وأعتقد أن وجود فرقة شعبية، أو فرقة للفنون الشعبية ليس لهذا الأمر علاقة بالعمل الثقافي، لأن هذه الثقافات ليست لديها فرق شعبية وليس لديها تلفزيون، بل لديها واقع مرتبطة به وتعيش فيه وثقافاتها مرتبطة بهذا الواقع، السياسات السودانية العرجاء أهدرت كثيراً جداً من القيم الثقافية نتيجة للسياسات الاقتصادية غير السلمية التي أدت إلى نشوب الحروب والنزوح، وأنت عندما تنزح تكون قد أهدرت معارف مهنية وبيئية، لأن القرون التي قضتها جماعة في مكان ما بالضرورة أكسبتها معارف وخبرات لمهن صالحة لهذا المكان مثلاً، وهذا يهدره النزوح، لأن الراعي أصبح بائع (مانكير) في العاصمة وبقية المدن، وكل ما اكتسبه كراع لم يعد له قيمة وضاع، وهذا أمر محزن، وهناك ثقافات طبيعتها تقول أن لا تمارس طقوسها إلا في البيئة التي قطنتها القبيلة منذ مئات السنين وآلهتها ومعبوداتها مرتبطة بتلك البيئة وعندما ينفصل الإنسان عنها، يعني ذلك أنه قد فقد كل الوعاء الروحي الذي يحفظ له إنسانيته، وأصبح تائهاً ولا يستطيع أن يمارس طقوسه أو يتواصل مع القوى الروحية التي يؤمن بها، وهذا الإنسان الذي كان متسقاً في السابق مع ثقافته، من سيعيد برمجة هذا الإنسان ولمصلحة من؟ الوطن؟ أم أعداء الوطن؟ وأنا أعتقد أن الإنسان عندما تخرِّب دواخله، وضميره الثقافي، سيشكل قنبلة زمنية مضادة للنسيج الاجتماعي وهذه مشكلة كبيرة، وأتساءل هنا هل تتم دراسة لمدى التردي الأخلاقي الذي يحدث وسط النازحين؟ المشردين؟ وأعتقد أن الإنسان أخطر سلاح عرف على الإطلاق لذلك الاهتمام بالثقافة يجب أن يصحبه اهتمام بالإنسان وبيئته، وأعتقد أن الظروف الاقتصادية الطاحنة التي مرّ بها السودان منذ التسعينيات ربما خفّت الآن لأن الناس في بداية التسعينيات واجهوا ظروفاً قاسية جداً وضغوطاً رهيبة، وأعتقد أنها كانت سبباً كبيراً للتردي الثقافي الذي حدث لنا، وحتى مؤسساتنا الثقافية الأهلية كانت تدار بوساطة عمالقة، ولا أعتقد الآن أن هناك عمالقة يديرون هذه المؤسسات، وكان هناك أسماء كبيرة هي التي تقود العمل الثقافي، وأنا أعتقد لخلق واقع ثقافي جميل يجب أولاً أن يتوافر الحد الأدنى المعيشي، لأنها مسألة مهمة، فنحن لا نريد أن نحدث تغييراً اجتماعياً راديكالياً، كما يتوهم بعض المثقفين ونحن كأناس مشتغلين بالثقافة ليس لدينا القدرة لعمل مكيدة بهذا الحجم وتغيير اجتماعي جذري ينحاز للفقراء، لكننا بقلوبنا منحازون للإنسان، لذلك لا نريد له أن يطحنه الفقر، لذلك يجب أن تختفي ظاهرة العوز والفقر وتردي الأوضاع المعيشية، والسودان به إمكانيات هائلة تمكّنه من ذلك، وبعد ذلك يمكننا مناقشة المستقبل الثقافي والسياسي لهذا الوطن، لكننا لخلق تواصل مع الثقافة علينا جعل الإنسان بعيداً عن طحن الحياة اليومية ولديه وقت ليفكر بالإبداع ويستمتع بالفن، لأنني لا أستطيع أن أتذوق الفن إذا كنت أعمل طوال اليوم، لذلك الواقع الاقتصادي مهم، وأنا الآن مثلاً لا أجد الوقت لكتابة القصص لأنني أحد الكتّاب الفقراء، لذلك أنا مقل، وأنا أكتب عندما أكون في إجازة أو عيد، والكثير جداً من أعمالي كتبتها في عطلة العيد، وربما أكون سعيداً بفقري لأنه يمثل لي قيمة صمود أمام المغريات، لكنني أعتقد أن مهمة جميع الحكومات في العالم مكافحة الفقر ويجب أن تختفي ظاهرة العوز والفقر والعمل أكثر من ساعات العمل اليومية التي قررتها الأمم المتحدة وهي ثماني ساعات في اليوم، ليعيش الإنسان حياته ويستطيع أن يبدع، يجب أن نهتم بالإنسان.
بالنسبة لمسألة الأجسام الثقافية والتنظيمات الثقافية، يجب أن نناشد جميع الساسة أن يرفعوا أيديهم عن تنظيمات الكتّاب، إذا كانوا ساسة الحكومة أو المعارضة، وأن يكون اتحاد الكتّاب بعيداً عن الصراع السياسي، لأن لدينا مشاكل ثقافية حقيقية جذرية مرتبطة ارتباطاً تاماً بالثقافة، لذلك يجب أن يتحد جميع كتّاب السودان في شكل حواري مفتوح، وأعتقد أن الروابط والاتحادات الموجودة الآن من الصعب أن أقول إنها تمثل الكتّاب السودانيين إذا لم تتحد وكان بينها حوار عن المشاكل الحقيقية التي تجابه المثقف والثقافة.

انظر أيضاً: قصتان لمحمد عثمان عبد النبي – البعيد

* شاعر وصحافي من السودان

عبد الرحيم حسن حمد النيل

شاعر وكاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى