ثمار

البيت الكبير

ربيغ البعيد

 

الصبي الذي رافقني حتى مشارف الطريق، انفلت طائراً، بعد أن لوَّح تجاهه، مما ملأني بالتردد، وكأني مقبلة على مغامرة غير محسوبة. كانت مشاعر شتى، وصور عدة من زمن بعيد، مغلفة بروائح البرتقال واليوسفي، تهف على ذاكرتي بقوة، وتكاد تحجب الطريق عنِّي، وأنا أتعثر في نقر وحفر ما أحمل، نبضات قلبي تتعالى بشكل غريب، كأنني مسوقة لموعد غرامي لأول مرة، وكلما تماسكت، عادت أقوى، وصوته يتردد:

–  أليس من أخبار عن البيت الكبير؟

فلا يجد سوى كذبتي الدائمة:

– بخير هو يا أبي.. والعائلة ترسل لك سلامها الحار.. استرح أنت.

أتحسس انفعالاتي، ومطبات مشاعري، أتحرك كأني مشدودة رغماً عنِّي، مرة واحدة وجدتني غير قادرة على الاستمرار، توقفت التقط جأشي، لكن مفاجأة رؤيته شلتني تماماً، ذهول ينحت ملامحي، يأتي بنهر من دموع، وتهتك دام يخذل جسدي: هل يكون هو بالفعل؟.. أليس من المحتمل أن الصبي ضللني؟.

أرض يباب ممتدة، يخيم عليها موت قاهر، وتحوم فوقها جوارح، يتوسطها البناء الضخم، مهلهل الثياب والملامح، محطم الأبواب والنوافذ، كأنه آثار لسفينة ضخمة أكلتها مياه البحر. دفعت خطاي. كان حنين طاغٍ يستولي ويدفعني إليه، وشعور لا أدري ربما غير مستوعب لهذا الانهيار القادم، توتر يمزق أعصابي.. أصبحت أمامه أخيراً، فلم أتمالك نفسي.

كان الخراب عصياً على تقبله أو تصوره، نعم، كأني أعيش كابوساً مريعاً؛ فأهرب لذاكرة بعيدة، تأتي بصورها طازجة، هناك، حيث كنت، ها هنا في يسار المبنى، وعلى يمينه، وبين ردهاته.. كانت يد الفنان قد غرست الكثير من التحف والتماثيل، التي ما زالت محفورة على ملمس أصابعي، وصدري الصغير وأنا أعانقها، وأقبلها بافتنان، وأشجار الجوافة والبرتقال واليوسفي تطوِّقنا من كل جانب، أين ذهبنا، فنختفي بين تلافيفها، وربما نسينا أنفسنا بين أوراق الورد البلدي الذي يعشقه أبي، بل تعشقه العائلة كلها.

كانت غربة ما تزال تنحت ذاكرتي، أي يد آثمة اجترأت على اغتياله، ومن يفعل؟ من يا أبي؟، قل لي؟ بل أقول لنفسي: بأي شيء أجيبه حين يطلق عليَّ سؤاله المعهود، حين يسألني عن البيت؟. كم حكى لي حكاياه، وقصصه الغريبة، من هذا البيت وعنه، كيف كان قلعة حين غزا البلدة غول الكوليرا، وكيف حفظ لأهل البلدة الحياة وقتها، فما نال الوباء ما يشتهي، إلا من تخلف عن التحصن فيه.
كيف كانت العائلة تلتئم بين ثناياه، وفي أحضانه، في المناسبات والأعياد والأيام المدلهمة، وعندما تدعو الضرورة لذلك، فيصطحبون أولادهم، ويقضون وقتاً استثنائياً لا يجدونه في بيوتهم الخاصة. كان لا بدَّ أن أقترب منه أكثر، وكلما خطوت خطوة أرجعتها ثانية، كان فزع يأخذ بكل مكامني، وينتشر في مفاصلي:

– من هذا البيت يا صغيرتي أقلعت صفوة المقاتلين ضد المحتل.. ومنه فرش العدل عباءته على هذه البلدة.

كان قلعة بحق، وكنتِ حينها صغيرة.. نعم.. كنتِ صغيرة، كان الرجل منهم يجد فيه كل ما تطمح إليه نفسه، من زاد ومال وعتاد.. كل شيء يا صغيرتي كان للجميع، لم يكن لفرد دون آخر.. لم يكن.. كان حياة ومقبرةوتاريخاً بينهما.

لم أقدر على الاقتراب أكثر، انفلت مني عكاز تماسكي، وأجهشت ضيعتي، وأنا أتخيل ما هو واقع أمامي، مجرد كابوس لا أكثر. كيف أصدق ما لا يصدق، انهيار.. أن يكون هذا المهرجان مأوىً للفئران والسحالي والخفافيش، وبيوتاً للنمل والصراصير.. كيف.. أين عائلة كانت هنا.. أين ذهبت وذهبواوكيف سمحوا، يصرخ في رفضي، وتهتز ريح نقمتي حتى خفت أن تلاحقني البلدة، وتجتمع على وجعي!، فجأة اقشعرَّ بدني، حين حطَّت كف قوية على كتفي، ارتجفت، وفزع حزني:

– لم أنت هنا إيزيس؟.

تنهد، سحب يده، وبقلق غريب، أمام ما رأى في ملامحي:

– تعالي.. هذا أمر فات عليه وقت طويل.. عمر.. هيا بنا.

لم يطاوعني موتي، كأني أصبت بشلل، أجهشت بلا سيطرة:

– لا فائدة إيزيس.. ضاع كل شيء.. ضاع حين تقاطعت الأهداف، واعتلت النوايا.

أحس ناراً تحرق عيني، وتنهش كبدي، فقد أبصرته يتراجع حين أطلقت أول رصاصاتي:

– ألم تكن سيدي آخر من حمل أمانته.. ألم تكن؟.

دار حولي بتوتر، أدركت تماماً حاجته لرصاصة أخرى، يراوغني، نعم هو متواطئ:

– ثم من أعلمك أنني هنا، كيف كنت هنا.. وهناك في السوربون؟.

حاصرته، دخلت في ريحه: أبي قال لي، كان إجماعنا على تولي أمين أمر البيت الكبير؛ فهو خريج السوربون، ومعه الزمالة. اغتصب بسمة لها رائحة يود البحر: – إيزيس.. ما ترين الآن تم منذ أكثر من عشرين سنة.. ليس جديداً.

هاجت مشاعري:

– وظللت كل هذا الوقت، تضحك على أبي حين يسألك ما أخبار البيت.. وعليّ أيضاً؟!

دنا مني، ومد ذراعيه ليحيطني، تراجعت نافرة:

– وما تظنين أقول لرجل فقد الإحساس بالوقت نهائياً، إنه يتحرك كحالم، لا يدري ما يتم ويتغير في العالم.. ثم ما يعني بيت.. ما يعني..؟! هذه المساحة الشاسعة لو بيعت الآن لأدخلت الملايين، وأسعدت كل العائلة، بل البلدة كلها.

لا أدري، كيف واتتني الجرأة على البصق في وجهه، ثم اندفعت مبتعدة وأنا أحس بأصوات بوم تأتي من داخلي.. ومن حولي غربان تنقر رأسي، كيف لي تصور حجم الخراب، كذباً مورس علينا، ثقة طالت زرعتها، تذبل، وتسفيها الرياح .
معقول ما توصلت إليه الآن، وأين ذهبت العائلة؟.. أين وفيهم العالم والمخترع والمعلم والعامل؟. عقول وسواعد تستطيع نحت الموت، ومنه تصنع الحياة، بل عمل ما هو أروع. كلهم ينتظر، أصحيح هذا؟ أكان الأمر محض واقع مفروض، سرعان ما انهار أمام بادرة سخيفة، تخريب باسم مصلحة العائلة؟.. أية مصلحة تقصد.. أية مصلحة؟!

هذا تاريخ ممتد عبر السنين، كيف ينهار هكذا؟. كيف وهو أساس كيان أسرة عريضة، تمتد في كل البلد، هو البلد نفسها، أنفاس الرجال تتردد من كل شرفاته، وأبوابه، صور كثيرة تتوقف، ولا تنفض وتبتعد، في كل محنة كان هو، في الخاص والعام.. والآن ماذا؟. أصبح لا يعني سوى بضع ملايين من جنيهات رخيصة.. بضعة أوراق.. يا ربي، لا أتصور، أتفتت، شيء ما داخلي ينهزم، قناعاتي تتضاءل، تصبح تحت قدمي، معقول!.. ارتجفت بقوة.. بقوة، نما شيء غريب، أفشل في تحديده، ها هو يتحكم فيّ، يشدني شداً لعمل ما، من المستحيل أن يمر هذا الأمر هكذا، نعم، صرخة تتسلل من بين شفتي، وبي رغبة مدمرة للموت، شر ما عهدته من قبل، وهذا السوربوني العجيب، كيف تأتَّى له فعل هذا.. وهان عليهم.. كيف أهان اللحظات الحميمة والأمسيات التي حملت صخب الجميع.. بين لهونا وقهقهاتهم.. بين شقاوتنا وخطبهم الرنانة.. كيف لم أدر بالأمر من قبل؟، فهل كنت متواطئة مع الجميع بالتغابي؟، وما كان باستطاعتي أنا؟ كنت على حسب ما قال، ما زلت صغيرة، والبعثة أخذت من عمري الكثير، وأعود لأجد أبي مقعداً هنا، لا يغادر بيته، وبالكاد يتحرك، يأكل ويشرب، ويشحذ من يتسقط الأخبار، ولكن أميناً كان هنا دائماً. نعم.. بينا يموت كل يوم حنيناً للبيت:

– كيف حال العيال بالله عليك إيزيس، أصدقيني القول حبيبتي.. كيف حال العائلة..؟ أنا سئمت من ردود زوجك .

كنت أحار، لا أجد إجابة، أتململ في حضرته، ولا ينقذني سوى أمين، على غفلة يأتي، كأنه سمع سؤاله، فيغرد في وجهه وبكل بساطة، وربما بسخرية:

– بخير.. بخير يا عمِّي، والعائلة تبلغك التحية.. كلها والله.

خدعت، وخدعت أبي وشاركت أميناً جريمته، كان يدري ثقل أبي، حب الناس له، وهنا يطغى سؤال عجيب، ما أمر الناس في البلدة، تجنبوا زيارته، تخلوا عنه، وما عادت أموره تهمهم.. كان يرى تماماً، كما يعرف ما يريد، أحاول كظم ألمي، أواريه، أدفنه وأبي يراقبني دون كلمة، وبين وقت وآخر يهز رأسه، وأنا لغفلتي، وجهلي.. نعم جهلي، أستبعد انغماسه فيما أعانيه، سؤال أبي حيرني، وأبقى على خيوط العنكبوت كما هي، ووقفت أمامه بلا حيلة كالعادة، ما أجيبه، وماله غير مهتم مثل كل المرات؟ وأيضاً أتي أمين، وكان رده المعتاد، لكنني أبصرت شيئاً غريباً في ملامح أبي، شيئاً لم أستطع تحديده، ظننته مجرد وهم، والأمر لا يتعدَّى ما أصابني اليوم، فجأة طلب أبي من أمين الانفراد به، للحديث في بعض الأمور الشخصية، بينما أعد لهما فنجاني قهوة، أحس بحزن المكان، لا حزني، بشيء غريب يحط هنا، كأن شيئاً غادرني، ولن يعود.. هل لاحظ أبي توتري، حزني، واشتعال أعصابي، أو لحظ نظرة الغضب التي سددتها لأمين؟ لا أدري.. كانت أصوات تأتي من حجرة أبي.. وحركة ربما تعودتها، حين يكون قلقاً، فلم أهتم، أكاد أنكفئ على الموقد من التعب. حملت فنجاني القهوة، وأنا أترنح كذبيح، طرقت الباب، ما ردَّ أحد. سكون عجيب يلف البيت.. طرقت مرة أخرى، وحين لم أجد ردَّاً ثانية، فتحت الباب، فتساقطت، وتساقط المكان. كان أبي على الكنبة بيده سكين، وقد سددها إلى قلبه، بينما أمين يعوم في بحر دمه.

 

* قاص وروائي من مصر

زر الذهاب إلى الأعلى