ثمار

النملُ والخريطة – الوردة السودانيّة

من أعمال التشكيلي السوداني/ مصطفى بشّار
من أعمال التشكيلي السوداني/ مصطفى بشّار

 

 

النملُ والخريطة

أبي مات.

من أجلكم أقوم بحفريّاتي في عتمور الرّغبة.

كنتًُ أطاردُ فراشةً، وكان يقف أمام الديوان طويلاً كقوس قزح، ضخماً كالجبل، مهيباً كالليل. أنظر إليه وأنا منهمكٌ في مطاردة الفراشة. أحبُّ الصليب لأنّ شلوخ أبي تشبه الصليب. وددتُ لو أعانق حبيبتي حتى أبدأَ السكينة. كالهجليجة أبي وأنا أحبُّ علامة (زائد) شاربيْه كأحداق البحيرة.رأيته يلوّح بيده في الهواء ثم يدسها خلفها. وقفتُ أمامه تماماً أنظر إليه متسائلاً كانقشاع الغمام عن القمر المشاغب. ضحك أبي فقفزتُ (مسكتها بابا).عندما اقتربتُ منهُ رفع يده فوق مستوى رأسي. الفراشة تطل من بين أصابعه، تحدّق إلى أعلى، تمعن هي التحديق، تخترق الحجب، تستشرف عالماً ساحراً غامضاً مستحيلاً. رفعتُ يدي نحوها، وأخذتُ أمطّ جسمي إلى أعلى، وقد تجعد جبيني وتهدلت شفتي السفلي. كلما اقتربتُ منها يبعدها أبي عني، يرفعها إلى أعلى أكثر وأكثر. لم أقتنع بالهزيمة. بدأت أتسلَّق جسمه، فأمسك بي بكلتا يديه.دسّني في لحم صدره. تعانقنا (ظللتُ أبحثُ في المدينةِ ألفَ عامٍ عن المدينة). تشبّث بي كطفل وتشبّثتُ به. أريد امتلاكه. أريد أن أغرسه في مناطق الوعي واللا وعي، الشعور واللا شعور، أنتمي للشيء الذي أحبّه فيه.دفنتُ أذنيّ وعينيّ في ضخامة صدره؛ تسللت الفراشةُ من إصبعه وطارت. مات أبي.

كان الصراخ كالدوائر المائية، حينما يسقط في المحيط نجمٌ ملتهب رويداً رويداً، تبوخ النار في الأعماق وعلى السطح، تتباعد الدوائر المائية، تخرج الفقاقيعُ مزمجرةً، يتقافز منها السمكُ ذو الأجنحةِ النارية.

جثّة أبي مسجاةٌ على العنقريب، وقد استغرقت كلّ الأشياء في تفكيرٍ عميق.السقف الملطوع ببيوت العنكبوت السوداء، حطب العَرِش الفاقح، والشِّعبة انهمكت معها في نشوة ذاهلة. قال: “خلّي الخرم واسع عشان العجلة تدور كويّس”. ثم جلس يثقب معي علب الصلصة. تدلّى شعره الناري على جبينه. مطَّ لسانه يداعب به شاربه. قطرةٌ من اللعاب تعلقت برأس شعرةٍ ذهبية. مددت يدي لأزيلها، ثم تباعدتُ جاذباً يدي. كان يتنفس كما تتنفس أختي الرضيعة (زينب) وهي نائمة. كان كل شيء منظّماً، إلا أن صورة الإمام عليّ بن أبي طالب كان يعلوها الغبار فنفضه عنها.

كانت الحجرة نظيفة، إلا أن حذاءه كان مقلوباً، فأصلح وضعه. كان المقهى هادئاً، إلا أنّ البوليس جاء واقتاد صديقه الشاعر، الذي كان يجلس معه لحظتها، فاندفع يهتف “تسقط بريطانيا”. قال لي: “أركب عربيتك أمشي جيب البرسيم للغنم”. أفف سقت العربة. أفف يزحم الصراع أذني. السَّحَّارة، الشِّعبة، الحيطان، عمود الشعاع المخترق، عتمة الحجرة، والجثّةُ المُسجاةُ. انهمكوا في الخفاء في لعبةٍ شيّقة. امتلأ داخلي باللعبة، وعلى السطح طفت الهواجس.

كنتُ أرسمُ خريطةً لمدينةٍ جديدةٍ على الجدار، فجرحني حجرٌ صغيرٌ مدبب، فناديتُ الحَرَسَ (حَرَسْ عاوز ملح)، ثم شرعتُ في الغناء. كان النمل، في المقطع الأخير، يسير على الخريطة، حسب قوانين الحركة في مدينتي الجديدة. انطويتُ في ذاكرة الأشياء، وجمحتُ في شوقها.. استغرقتني اللعبة.. نصنع قنابل وطائرات وصواريخ من ورق، من الطين غواصات ودبابات وأقماراً صناعية، ونرتق حذاء (أحمد الرّبعي). من مركز إعصار الرغبة تقاطروا مندفعينَ إليَّ. تسربوا في لحم ضجة الأسواق، منقذفينَ إليَّ عبر دروبِ الحيرة والسّهو، متشردين في مدينتي الداخلية، يعدون ويلحفون في السؤال عني في مدينتهم، ودمي يرشح من حيطانها، يقطر من رموش الطحلب وأنياب الزهور. عندما تركت (عفاف) عابدها (حسن)؛ كان البكاء رحلة الرجوع إلى الداخل. كذلك كان الدم النازف من أشلاء (تاكشيل).

تحرّكت الجنازة إلى مثواها الأخير، فتنافرت خلايا جسمي. تعثرت الأشياء بأوتار أعصابي، فصدر لحنٌ نشاز، انغلقت رموز العالم في داخلي، فأجهشتُ بالبكاء، دفنتُ أذني وعيني. لغط النجوم تحت فروة رأس المدينة، صرير الضحك والثعابين المتساقطة من الأيدي الممدودة تتناول (الماهيّة)، وصوت النادل يزاحم هواجس المتعطلين. أمطار الرصاص المنهمرة من سكينة الطفل في أحضانِ أمّهِ. كان المنزل مكتظّاً بالمعزّين. في الليلِ هيّأتُ لي فراشاً على الأرضِ، ثم استلقيتُ على ظهري، وأخرجتُ يدي من بين القضبانِ، أطعمُ عصفوراً فتاتَ الخبزِ والمرقِ، يسير على أطرافِ أصابعهِ، بجبينِ أنجيلا ديفيز.

ــــــــــــــــــــــــ

* نُشرت هذه القصة القصيرة في صحيفة الأيام السودانية، الصفحة الثقافية، الجّمعة 5 أكتوبر 1984.

**********

الوردة السودانيّة

(1) البلّور*

الفردوس

خَشِيَتْ الحاجة عديلة على أولادها من المتاهة الروحيةِ، التي فوجئوا بأنفسهم في قلبها، حين رأوا بأم أعينهم، كيف أن طعامهم قد تحول إلى دودٍ في بضعِ دقائق. خَشِيَتْ عليهم فضمتهم إليها، وأجسادهم الهزيلة تنتفض بالحمى، وهم يجهشون بالبكاء. ناموا بقية نهارهم ذاك في حضن أمهم، التي نامت هي الأخرى. استيقظوا دون أن يتبادلوا النظرات، وظلوا صامتين لا رغبة لهم في طعامٍ ولا كلامٍ، ولا أيّ شيءٍ من أمور الدنيا، سوى أن ينزوي كلٌّ منهم بعيداً عن الآخرين، ويحملق وحده في الفراغ الحزين. نهضت الحاجة عديلة وارتدت ثوبها الأزرق الفاتح، الذي رتقته في أكثر من موضع بخيطٍ أبيضَ، كان نظيفاً كالسحب الصباحية، إلا أنّ ماء الغسيل لم يذهب برائحته التي تهدئ سكينة العواصف الهوجاء فتنام في حضنها. انتعلت “شبشبها” وأخذت الصحن المغطى بصينية شاي من الطاولة المستديرة، وخرجت لتدلقه في “البحر”- النيل سيد العارفين بالله، مأوى الضائع وسكن الحائر.

ما إن فتحت الباب حتى أخذ منها الصحن صبي متشرد، ومضى به نحو حلقة من الشّمّاسة، أحدهم يدور حولها حبواً ويصيح كالماعز (ميع.. ميع). مدَّت يدها لتستعيد الصحن متمتمة “أسمع يا ولدي.. لا.. لا.. في دُ..”. قال لها الماعز: “ما تخافي علينا من الشطة أنحنا بنحبها”. “وح… وح… وح.. أفتح!”.. وكشفوا غطاء الصحن، فإذا هو ممتلئ بضعف ما كان فيه. وبدل الدود كانت فيه عجينة الطماطم والبصل والجرجير والدكوة وزيت السمسم الأصيل، والكِسرة طازجة لم تتسنه [؟]. “سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم” “إستغفر الله العظيم!” تمتمت. ودخلت عائدة إلى الغرفة مسرعة. حفرت حفرة أخرجت منها علبة ادخرت فيها مالاً، لا تمسه إلا بعد جوعِ ثلاث ليالٍ. هرولت إلى السوق وخلفها صغارها، وعادوا بأعرابيٍّ يقود خروفاً ضخماً، ما إن ذبحه داخل حوش دارها حتى زغردت، فاجتمع إليها المارة والجيران، وتمَّ طبخ الخروف وإطعام الغاشي والماشي والمقيم والمسافر. وظلوا يأكلون حتى يومنا هذا في بيتها المفتوح الأبواب للضيوف، ويأوون إليه، والجياع يلوذون به، فيجدون ما يزيد على سدِّ الرمق.الخير من الله نهرٌ لا ينقطع، ومنها إلى النّاسِ فيضٌ لا يمتنع، وهي تردد دائماً أهزوجتها التي صارت اسماً يطلقه الناسُ عليها “من فضله نجود”.

الجحيم

الشاويش دفع الله الطيب استشهد برصاص النازية في ساحل البحر المتوسط الجنوبي، مسروراً ببذل الروح رخيصةً في سبيلِ استقلال السودان وحرية شعبه العظيم. أرملته عديلة تاجرت في الخضار في سوق “أم سويقو” في “بيت المال” بأم درمان، واستمرت سنين عدداً مستورةَ الحالِ ميسورةَ العيشِ، حتى مرت بالبلادِ سنين قحطٍ، وما يشبه المجاعة، وأصبح المال مهما كثر لا يفي بالضروريات. كثيرٌ من النفوسِ أضعفتها غريزة البقاء، فجرى الكذب سهلاً على الألسن، وانكسر كبرياء البعض أمام الرشوة والمال الحرام. ورغم الحذر، أذهبت خديعة وضيعة نصف رأسمال الحاجة عديلة فتعثرت تجارتها. وذاقت مع أولادها مرارة الجوع. ولولا روح التحدي فيها لترك ولداها المدرسة.

الرؤيا

حين دخلت الحاجة عديلة بيتها، تدافع إليها أولادها يحاصرونها بالأسئلة تمطرها بهم عيونهم الجائعة عما أحضرت من طعام. رغم هجير الصيف وهي صائمة 27 رجب عاست لهم “كسرة”. ومن لهيب “الصاج” وسياط “الصيف” وجفاف الحلق تنهل سلسبيل الظمأ، ولا يرتوي إشفاقها على أولادها الصامدين، داخل حوشهم المغلق، في وجه جوع اليومين القاسي. على “الطبلية” وضعوا الصحن الكبير معجوناً فيه ما قطّعته أختهم من طماطم وبصل وجرجير بالكسرة، عليه الشمار والملح والشطة الخضراء، وملء فنجانٍ من زيتِ السمسمِ النّقيِّ، والخليط مؤسّس على دكوة مذابة بالليمون، يرقبهم حنان أمهم المستلقية على جنبها في “عنقريب حبل هبّابي”، وقد آلمها أن تراهم يلتهمون الطعام في شراهةِ أشبال النمر أو كطيورِ الأحاجي الجارحة، إذ تنهش الصخور من جوفِ الأرضِ الدامي، وهي تغمغم وتدمدم في وحشية كاسرة. طفرت منها دمعةُ حزنٍ لهوانِ صغارها. استغرقت حواسّهم اللاهثةَ شهوةُ الطعام.

طرق البابُ طارقٌ فأجفلوا!! فوجئوا!، توقفوا عن الأكلِ صامتين. جاء صوتُ أمهم حاسماً كأنه صادرٌ من أعماقهم “مصّوا أصابعكم وغسلوا يديكم وخشومكم”.. قبل إتمامِ كلامها كانوا يتزاحمون عند الماسورة. عادوا يمسحون أيديهم في “أنكسةِ” الدمّوريّة، وأفواههم بأكمامهم. غطى الطيّب الصحن بصينية شاي صغيرة ودفع بـ”الطبلية” عليها الصحن تحت السرير وأسدل عليها الملاءة. انطلق معاوية لفتح الباب حيث وجد “حلبيّة” تطلب طعاماً لطفلٍ تقتاده فقال لها: “الله يديّنا ويدّيك”، فانصرفت وأحكم وراءها إغلاق الباب وعاد.

تحلّقوا لجولة ثانية

أخرجوا الطبلية من تحت السرير، وما إن كشفوا الغطاء عن الصحن، حتى شهقوا جميعاً وأجفلوا مرتدّينَ إلى الوراءِ، حين شاهدوا في الصحنِ بدل الطعامِ دوداً يمورُ بعضه في بعض.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جزء من “الوردة السودانية” نشر في “سنابل”- العدد 50- السنة الأولى- الاثنين 2 يونيو 1997

 

انظر أيضاً: حوار مع محمد عثمان عبد النبي – البعيد

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى