تخليد الحياة عبر ذاكرة جسد عاشق
سأسمي الشعر في ديوان (وأختصر الرياح بزهرة أولى) للشاعر خالد عبد الله (نيجي) كتابةً؛ لأن الشعر ينبغي أن يكون كتابةً وكتاباً، يأخذان من المقدس واليومي، ومن فنون الحكي والمؤانسة، ومن لغة الطير، وكذا إشارات الصم، إن لم أَقُلْ لغات المسرح. وعليه، والحال هكذا، أن يخفي كل ذلك ليظهر ذاته وفرادته، لا كما يقول النقاد (صوته وصورته الخاصة)، وإنما يغيِّب مصادره يشعرنها – من الشعر – يفعل ذلك بمثل حال الطفل، حينما يداعب انتصابه المرات الأولى، أو حينما تتحسس الصبيَّة مكمن أنوثتها. وبمثل ما تدرك فراشة أنها صارت هدفاً جمالياً لبني جلدتها الذكور؛ وقتها فقط يصير الشعر كتابة تركض، لتصير وحشية كالحصان، والغابات، والصحارى؛ وعميقة كجوف البحار.. نعم تصير كلَّ ذلك، وغيره، ومن ثم تقبع في ذواكرنا.
(أرفضُ توقيعٍ عشق مؤجل
دمائي موحدة للعناق، فمُدِّي الجحيم الذي يشتهيني إليك
حريقاً
وقولي:
تفضل).
وكتابة خالد نيجي، في هذا الديوان، كتابةٌ عن جغرافيا الجسد وتاريخه، ولست أستدلُّ هنا بحضور وتكرار مفردة الجسد في الديوان لأكثر من خمسين مرة، وهي مرات لم تحرمني من تلاوين وموسيقى هذه المفردة، بفضل براعة استخدامها المبدع، من قبل شاعر يعرف جيِّداً كيف يرسم ـ عفواً – ينحت بالكلمات على صخر الورق. لن أستدل بفتنة حضور المفردة، وإنما بفتنة تلك الأجساد، التي أصابتي حينما (جَسْدَنَها) الشاعر ملمساً وحياةً، ثم نفث فيها من روح، فاستدارت، فنهدت، فارتوينا من حليب وبرتقال، كما أنها كتابة تفضح وتقاوم عبر هذا الجسد وحشية المجتمع، حينما يتعلق الأمر بمتطلبات الفرد أو المثنى – وهو عاشق – في البوح وكسر التنميط والإتيان بالاستثنائي من تخريجات هذا الجسد.

وإنها كتابةٌ عن جغرافيا وتاريخ الجسد الأنثوي، لأنها تُمَرْكِزُه في صُرَّة الحياة، وتجعل منه صنواً للماء، الذي تدين له الحياة.
(لبُثينة خارطةُ الوطن الأنثوي
كرُوم كما الفم
غُصن بنبض الأيائل
مُتسع للأصابع أو خُصل في أوج الفرار
ومهوى العناق الطويل).
وفي مكان آخر من نفس القصيدة يقول:
( كريح مُدللة
وجعاً لا مسيح له مطلقاً
جسداً ساطعاً في مرايا الهُطُول
وفيما عدا ما يُؤولهُ النهدُ حين يُعري لغات الصهيل
إلى جهة في لغات الصهيل
جسداً ساطعاً في فرار الوُعُول
لأي إله تُكرسُ نُوناتها
وجهها المجدلي
وكيف ستأوي مراجعُ ضحكتها لصباح يُفسرٌ غُنتها
ويُبسطُ هذا المناخ الخجُول).
ولأن الكتابة عن الجسد وجغرافيته، فإن الإيقاع فيها يحتفل بالمفصلي في هذه الجغرافيا، وكأنه تزداد أنفاسه حينما يعبر أو يسكن المفصلي من هذه الجغرافيا، ووقتها ما عليك إلا أن تستلذَّ وتنتشي، حينما تؤرِّخ تلك الكتابة للحظة، هي في حكم العدم التقى فيها جسد الكتابة المذكر بجغرافيا التاريخ المؤنث.
( أزاهرُ:
يا هوس العُشب من مسقط الوجع المخملي، أزاهر
مسقيةُ اللون بالحنطة البابلية
فيخترقُ الشوقُ حقل النشيد المجاور
تضحكُ، تهتزُ أعطافُها رغبةً
سمِّها جسداً
جسداً لُغوياً تضُجُ عصافيرُهُ بالعناق
ويُلغي حُدُود المدى المجاور)
وأنت إذ تحتفي بهذه اللحظة العابرة، تشارك في سرمديَّتها وخلودها ببساطة، لأنك مؤهل لأن تنضم لقبيلة القارئ التاريخي، المقبل على جمر التأويل ونشوته.
(فمن رُقية ما يُضيف إلى الحدائق نكهة سريَّةً
ما يجعلُ القمر المثابر -دائماً-
يسهُو قليلاً
حين تُشرعُ ساعديها آخر اليوم
تُفكُ قلادة التعب اللذيذ
وتنفٌضُ الصحو – كعادتها –
لتدخل كي تنام.
وقد تُضاعفُ سحرها حيناً
ومن تلك المساءات المليئة تنتقي وقتاً
وتنثرُه مواعيداً مُلونة
وتذهبُ كي تُعالج بسمة لتصير سُنبُلة
وللدفء المُجاهر بافتضاح الدفء في ولهٍ مخدتها
وللنبض المُخالج لاندياح النبض
أرصفةُ المسام).
هذا المقال على سبيل المؤانسة، مع كتابة تحتشد بتعدد المصادر وعمقها. كتابة تحتفي بالجسد المقاوم الذي يخلِّد الخاص في العشق لصالح تعميمه، اتفاقاً ينظم الحياة، كتابة تحرضك على التأويل الذي يعبر بك لتنتقل من ذاكرتك لأخريات ينظِّمنَ حياتك أو يُصِبْنَهَا بالفوضى.
* مسرحي وناقد من السودان