ما تعرف وما لا تعرف عن عباس الصفر
الحالة دي كانت تنتاب عباس الصفر من أيام المدرسة، تجحظ عيونه فجأة ويرتعش بدنه النحيل كأنه ديك رومي صبت عليه مطرة دغشية، شعره السبيبي الناعم يقيف مسامير مسامير، يحصل هرج ومرج في المدرسة كلها، حضرة الناظر بُر، يجي مهرول يدوي صراخه في حوش المدرسة الواسع: “خشوا الفصول يا كلاب.. شيلوه ودّوه العيادة”. نمرق نحن أولاد سنة ساتّة نشيل عباس الصفر للعيادة، نخته قدام التمرجي، يبحلق التمرجي من فوق نضارته الطبية السميكة في عيون عباس، فترجع للحياة من أول وجديد، يقول بصوت هادي وحازم في الوقت ذاته: “الطالب ده ما عنده صرعة ولا شي”. يسكت شوية يقول بقسوة: “ده متصنّع ساي”. يناول عباس من الشربة الحامضة المقززة الكنّا بنكرها كلنا، يشربها ويمشي بي كرعيه لغاية المدرسة. كتير كنا نمشي مع عباس الصفر بيتهم، مرات ننزل البحر نشرك للسمك، نحاحي الطير، نقبض الدباس نشويه في لهبة شوك المسكيت، نقبض العرزين ونشنقه على غصون الكتر واللالوب أو نعميها بلبن العشر، كنا مسلَّطين جداً.
عباس الصفر، عباس (ود اللذينا).. عباس الفقري كان يفتعل المشاكل مع الشفع، يقلع حق فطورهم رغم إنه ود عز، يخطف الزلابية من خشم الولد ويقوم صوف.. يضارب الأولاد والبنات، جسده نحيل بس عنده شهوة الانتصار، ما تقدر عليه إلا سلمى الحلبية. كلمة واحدة منها ترجِّعه لي عِلَبُه. مرات تجيه النوبة عز الشكلة، يحصل هرج ومرج في الشارع كله، الأولاد والبنات يفروا، نشيله نحن شلّة عباس الصفر إلى بيتهم المميز دوناً عن جميع البيوت، السلك الشايك في الأعلى، الجرس الأبيض على الباب، اللون الأصفر الواضح، شجر البان الرويان، القرد المربوط من نصه على المظلّة البتجلس فيها دايماً ست نفيسة أم عباس الصفر المُدرِّسة في مدرسة البنات قدامها عدة القهوة، نجيب الديك الرومي المبلول يترقط، شعره واقف مسامير والعيون جاحظة، نجيبه شايلنّه طب العصب. خالة نفيسة تمشي التلاجة تجيب عصير الكركدي بروح الموز توزعه علينا، لما عباس يفيق نخش معاهُ المكتبة بتاعت المرحوم أبوه نقرا القصص والحكايات. عباس الصفر كان يقرا حاجات تانية مختلفة، بالنسبة لينا كأنها طلاسم: بول سارتر، بيان الحزب الشيوعي، المنتمي واللامنتمي، قصائد برمائية، السياب، الرسالة الثانية من الإسلام، ميشيل فوكو، الطيب صالح، شحاذ في الخرطوم، مسرحيات شكسبير، طوق الحمامة… طلاسم غريبة! عباس طريقة قرايته نفسها غريبة، يقلع ملابسه كلّها يبقى بس بالنكس الداخلي، يقعد القرفصاء في نص السرير ويندمج بالكامل مع الكتاب بالساعات الطويلة، حصل إنه قرا تلاتة أيّام متواصلة بدون أكل وشراب أو حتى نوم، مرّات يتوحوح، مرّات يشخر زي المضبوح، أبوه كان يقرا بنفس الطريقة، لما الحكومة اتقلبت اعتقلوه بعدين أعدموه في محاكمة عسكرية، قبره لغاية هسه ما معروف مكانه وين بالضبط. مشينا نعزي عباس الصفر لقينا حالته عادية جداً، لا حزين لا فرحان، قال: “كل النّاس تموت، الطيّب والشرّاني، إنت اختار موتك”. بعد فترة من إعدام أبوه، حاول عباس الصفر يحرق غرفة المكتبة، كان هايج جداً، يصرخ ويتحرك في كل اتجاه كأنه مجنون، عمل مَنَتُوف ولّعه وجدعه في نص الغرفة، حصل انفجار كبير، النار والدخان علوا بسرعة شديدة، خالة ست نفيسة كانت نايمة في الصالة قامت مخلوعة تسكلب، القرد لفّ حول نفسه ألف لفّة، نطّ، جرى، انبطح، قام، ولول، صرخ، ناس الحلّة كبسوا والمطافي جات تزمبر من آخر الشارع، عباس كان يهتف: “ده وهم.. كلّه وهم”. جاتو النوبة شلناه طب العصب للتمرجي في العيادة، شرب الشربة المعتادة، عيونه الجاحظة عادت للحياة ونزلنا البحر، نشرّك للسمك، نشنق العرزين في غصون الكتر واللالوب ونعميها بلبن العُشُر.
عباس الصفر ما كان شاطر في المدرسة وبس، كان خطاط جداً، ورث الخط من جده الكبير. قالوا إنه كان شغال كاتب في زمن التركية السابقة، ولما المهدي عمل الثورة والدنيا فارت لحق المهدي، طارده من فجة لي فجة لغاية ما لمَّ فيه في الأبيض، أب قبة فحل الديوم. المهدي قالّيه: “حباب الكتبة البلا غلبة، إلا السيف والجهاد في الصيف”. جد عباس دنقر والمهدي صنقر، بعد داك اتفارقوا فراق الطريفي لي جمله. زمن الخليفة جد عباس خشّ سجن البقعة، الخليفة حكم عليه بقطع إصبعين، السبابة والوسطى ونفاه الرهد أب دكنة، ما عتّب أمدرمان إلا زمن الإنجليز، خلّى الكتابة، خشّ السوق، بقى جلابي كبير.
زمن طويل ما لاقيت عباس الصفر، مشى سكن الرهد أب دكنة، حاول يشغل الطواحين بتاعتم، كنا نتبادل الرسايل من فترة لي فترة: “كيفك لسة مربوطين بالجنازير؟! العالم مخلوق من نفس الناس البسطاء، أعاني من بعض المضايقات، في الآخر كله فتريتة ناكلها ونمشي ننوم”.
“عباس.. كيفك؟ الحياة خانقة، أمبارح دفنَّا (أمل) زوجة جاري الحيطة بالحيطة، شابة معجونة بي رحيق الفراق الحتمي، وين تاني نشرب القهوة، حتى النيم حزن عليها، sorry إذا أزعجتك، اسمع، خلي الغتاتة ورينا أخبارك”.
أحياناً يكتب عبارة في نص ورقة الفلسكاب: “كوني برداً وسلاماً على سلمى”. سلمى الحلبية، ما حبّت زول زي ما حبّت عباس الصفر، أدَّته كل شي بدون مقابل سوى حبها الأعمى لي عباس، كان يصفها بالسحابة الراحلة، رغم حبها المجنون بيه كان حذر تجاها، كان متشكك في مستقبل علاقتهم ببعض، يكتب في رسالة: “المرة كاين طيفي، أقرب للهلام منها للحقيقة، شبح لو امتلكته امتلكت الجحيم”.
آخر مرة شفت عباس الصفر في السوق الشعبي، يظهر كان جاي من السفر على بصات الأبيض، لمحة خاطفة كالبرق، حاولت أحصِّله زاغ في الزحمة، وبسرعة ركب رقشة خضرة مكتوب عليها من الخلف بخط أبيض أنيق يشبه خطه: “مع السلامة.. مع السلامة..” بعد يومين سلمى ضربت لي تلفون تبكي: “اسمع.. عباس انتحر”.
“عباس منو؟”
“عباس الصفر انتحر”
“طيب خلاص، انتحر انتحر”.
نزلت البحر، حالتي عادية جداً، لا زعلان لا فرحان، إنت اختار موتك، شركت للسمك، حاحيت الطير، شويت الدباس على لهبة شوك المسكيت، فوقي مرّ سرب عرزين نزلت على غصون الكتر واللالوب، عيونها جاحظة وعطشانة جداً للبن العشر، وأكيد لشغب عباس الصفر، عباس ود اللذينا.
* كاتب وقاص وشاعر من السودان