الفرقة الموسيقية
حتى آخر ثمانينيات القرن الماضي، كانت الدولة تتحمل أعباء التعليم والصحة، وكانت حملات الصحة العامة الأسبوعية والشهرية لا تنقطع، ما جعل الناس يعرفون عمال “الجمكسين”، مبيد الحشرات المعروف؛ يطرقون بابك ويدخلون محملين برشاشات المبيد اللامعة، يحملونها على ظهورهم كرواد فضاء، محدثين فوضى عارمة؛ إذ يتم تحريك الأثاث حتى تتمكن آخر ذرة “جمكسين” من اصطياد أقصى جناح بعوضة مختبئة في بيت عنكبوت.. كان ذلك مشهداً عادياً يرحب به الرجال وتستاء منه النساء، لأن “الجمكسين” له رائحة نفاذة كريهة، كما أن العمال يحركون الأثاث، ويلوثون لون الجدران، وهذا ما يجعل سيدة البيت وبناتها يطنطنّ لمدة أسبوع كامل.
لذا عندما حدث أن هبطت فرقة الجاز بكامل عدتها وعتادها، بصخب عال، في وسط الحي، سأل أحدهم أخاه: “تاج السر، أيه الجماعة دول؟”، فأجابه تاج السر: “عمال جمكسين والله أعلم!”
الفرقة الآن تتهيأ، تدخل الآلات الموسيقية، ومكبرات الصوت، يقوم “البعّام” برفع السماعات على قوائمها الثلاث، بينما يجرجر عازف الجيتار كابلات الصوت ما بين جهاز الساوند سيستم والجيتار والسماعات، نصب عازف الأورغ آلته الكمبيوترية بسرعة على الطاولة الحديدية، وبدأ يدوزن. لآلة الأورغ صوت بلاستيكي، صوت ملتبس، أو قل موسيقى أعدت مسبقاً، صوت لم يبتدعه ضاغط الأزرار هذا، بل ابتدعه العامل الياباني في مصنع “ياماها” للأجهزة الإليكترونية وفق نظريات فيزيائية معقدة. لا يهزني صوت الأورغ، لأنني كلما أرى هذه الآلة، تنمحي صورة العازف وتبرز ذكرى العامل الياباني الجميل بأبروله الأزرق، وأتساءل كيف يتم حساب أجر العامل الياباني في مصنع الآلات الموسيقية، مقارناً بعدّاد عازف الأورغ الجامد الآن بأصابعه المتيبسة على الأزرار؟
لكن الأمر مختلف مع عازف الدرمس “بتاع الدلاليك التلاتة”، يدخل عازف الدرمس مثل بطريق عجوز، تتدلى بطنه إلى أسفل فخذيه، وعلى ساقين رقيقتين تستند جثة ضخمة يعلوها عنق دجاجي متلفت بتفلُّت، ويبدو أن هذا العنق أصبح هكذا بسبب التراقص اللا شعوري، مع إيقاع الدرمس، يميناً ويساراً. والبطن حين استدارت إنما لتكمل الهيئة الدائرية العامة للآلات ولطبيعة الإيقاع نفسها، لكنه جميل. يجلس عازف الدرمس على مراحل، ينصب ساقيه أولاً بمحاذاة القوائم الثلاث، يضع مؤخرته الهادئة على الكرسي كمن يُرقِد رضيعاً، ثم يكوم بطنه الدائرية على الفخذين الغائرين النحيلين، ثم يأتي بإيقاع صامت من جوف ذاته المتعبة ليلتفت العنق الراقص يميناً فيساراً ثم يستقر بمحاذاة المايكروفون. ينقر نقرتين بالعصا الرقيقة على القرص النحاسي “كششش كشششش” ويختمهما بنقرة خفيفة على الدرم الكبير “دم” فينتبه العالمين إليه وتستدير الطاولات جميعها باتجاه المنصة في صمت عِبادي مهيب، ليتوج إله الإيقاع بين عصاتي عازف الدرمس وعند تفاحة آدم الذاهلة.
تبدأ الدوزنات على لحن No woman..No cry فأنتبه، ويزداد انتباهي لعازف البيز، حين يتمطى صاعداً مع Noo الأولى وهابطاً مع Cryyyy فترتج ذاتي والذوات جميعها لأغني أغنية الطمأنينة، وأغادر في شكر لذيذ لكل عمال اليابان والأرض وكل نساء بوب مارلي وأفريقيا.
* شاعر وكاتب من السودان