ثمارشهادات

تؤول الكتابة إلى كتابة.. حوار مع القاص الهادي راضي

هادي راضي

مشهد أول:
* الكتابة: أيقونة النزف الأبد، اشتعالات الذات اللانهائية، حركة الأنا في أزقة الوعي واللاوعي، رئة تتمدد عبر ديمومة الزمن والحياة ذاتها، براحات تتفتق بمحاذاة انكسارات العالم وسقوطاته التي لا تتوانى في “تشيّئ” هذا الكائن/الإنسان، وفي المقابل شهوة الكون لرجم الرمز المسمى “لذة” إن كان ثمة شيء يسمى “لذة” كما ترى أنت دائماً “أن اللذة ما هي إلا بؤرة انتقال لضدها الأزلي” إذن: الكتابة ـ بالنسبة لك ـ هل هي محاولة لاستئصال الحريق من الذات.. أم حيلة لترميم العالم/ مفترضين أن العالم داكن؛ متعرجٌ ورمادي؟
–    كنت أحسب أنها كذلك – الكتابة – محاولات وحِيَل يخص بها الله أحدهم لإخماد حرائق الذات – ذاته وذات الآخر الذي يعيش معه في هذا الكون – ولم أكُن أعي أنها أحد أشراط وجود البعض منا نحن سكان هذا الكوكب، فبينما تسلك الذات منعرجات هذا العالم الدهليز، باحثة عن كيفية تحقق شرط وجودها، يكون قدر الكتابة متربصاً.. منتظراً حلول المشيئة ليسكن في كائن حدده الإله في الأزل. سُكنى إلى الأبد.. فهي ستظل باقية حتى بعد فناء من كان يمارسها، تُحدِّث عنه ما بقيت الحياة. ومنذ لحظة الحلول وحتى انقضاء أجل ذلك الكائن، تكون الكتابة جزءاً من حياة.. فالكتابة مُعطى أنطلوجي.. تختار كائنها وتحل فيه، وتصير قدراً أبدياً؛ يكون التعامل معه وفق رؤى واتجاهات ذلك الكائن الذي تم اختياره مسبقاًً.
* إذن؛ أنتَ الآن تفتح بوابة السؤال الشاهقة؛ تشعلَ النار من حيثُ لن تنتهي؛ الأنطولوجيا؛ كم هي مرعبة هذه المفردة؛ والتي لا تقل رعباً من فعل الكتابة ذاتها، وذلك ما سنصطلح عليه ـ هنا ـ ميكانيزم الهول الأبدي، ووفقاً لتأويلك: “الكتابة ما هي سوى فعل وجود، غير أنه يدشن نفسه بطريقة مغايرة” هل هذا ما أردتَ قوله؟ ثم في الشق الآخر: عن جدلية الانتخاب الطبيعي للذات الكاتبة/ أو دعنا نسميها المبدعة/ وإمكانية بنائها معملياً أو صناعتها، والهتافات التي يملأ صداها عوالم السرد ـ بقوالبه المختلفة ـ في أن الكاتب يمكن صناعته، بينما أنت الآن تقول: “الكائن الذي تم اختياره مسبقاً”؟
– مُطلق الكتابة فعل وجودي، يُمارَس وفق ضرورة ما، لكن عندما تحدد كتابة إبداعية، أو ذات مبدعة تمارس الكتابة، فإن الأمر يختلف، لأن الصفات الذهنية والنفسية للذات المبدعة، عادة تكون في مستوى أرفع من تلك الذوات غير المبدعة.. لسبب بسيط، هو أن الذات غير المبدعة لا تستطيع أن تلامس سقف ما اصطلح على تسميته بشروط الإبداع. وهي متعددة وقد حددها العلماء في ست نقاط أو محاور عرفت اختصاراً بـ    OFF SEA، وذلك يعني أن الانتخاب أو الاختيار يتم بناءً على مدى التوافق بين الصفات الذهنية والنفسية للذات الكاتبة وشروط الإبداع. وبالتالي فإن الذات التي تملك الحد الأدنى من تلك الخواص، يمكن أن يُطلق عليها ذات مبدعة. لكن.. يمكنك أن (تبني في معمل)، أو تصنع ذاتاً تكتب مقالاً أو تقريراً، ولكن من الصعوبة أن تجعل منها ذاتاً كاتبة تبدع في أجناس ذات طبيعة إبداعية، طالما أنها لا تتوافق ذهنياً ونفسياً مع شروط الإبداع.

مشهد ثان:
*أليس الشعر نافذة لإعادة إنتاج العالم؟.. أليس ماعوناً مدهشاً لهندسة الجمال؟.. ألا يمكن أن تكون الروح ذاتها تتجلى جمالياً في شق ما؟.. إذن لماذا القصة والرواية؟ فيما يعني لماذا حفرت طريقاً وعراً في الكتابة.. كان يمكن أن تكون شاعراً؟
–    لا أدري ما المعيار الذي يحدد وعورة جنس كتابي أكثر من الآخر طالما أنها أجناس تتحرى الفعل الإبداعي في المقام الأول. فكلاهما – الشعر والسرد – لا يخرجان من السياق الإبداعي، ربما يكون هناك اختلاف في طرائق الكتابة، أو التجنيس. لكن ليس بالضرورة أن يكون (الطريق وعراً) في كتابة السرد أو العكس. واختياري لكتابة القصة والرواية جاء لسبب أراه منطقياً – على الأقل بالنسبة لي-  وهو أنني لمست نَفَساً سردياً في القصيدة التي كنت أكتبها، كان ذلك منذ بواكير الكتابة، وأن ذاكرتي تحتشد بتفاصيل حكائية قد لا تستوعبها القصيدة، ثم إني وجدت ميلاً لا أستطيع تفسيره تجاه الكتابة السردية.. ولكن ذلك لا يعني أني قاطعت الشعر، فما زلت أكتب النص الشعري من حين إلى آخر. وما ذكرته أنت في مقدمة محورك هذا، حول ما سميته إعادة إنتاج العالم أو هندسة الجمال.. يمكن أن يحدث من خلال الكتابة السردية.
*أنت الآن تلهب سؤالاً فيما يخص نظرية الأجناس الأدبية الكبرى، أو الكتابة العابرة للنصوص، ألا ترى أن نسف فكرة التجنيس تعتبر ضرباً من ضروب الفوضى الأدبية؟
–    المسألة ليست نسفاً لفكرة بقدر ما هي محاولة للمقاربة بين تلك الأجناس التي لكل منها شروطه ومعاييره الفنية التي يكون الكاتب واعياً بها أثناء تعاطيه للجنس الأدبي المعني.. فالشعر والقصة والرواية مثلاً تنطلق من منصة واحدة هي الكتابة الإبداعية، ولكن لكل منها شروطه في الكتابة.. ومع ذلك يمكنك أن تستلف من الشعر شعريته في كتابة القصة مثلاً لتشيد بناءً جمالياً يلامس ذائقة المتلقي، وجمالية ذلك النص تتبدى في اتساق عناصره (الشعرية المستلفة من الشعر والفكرة والتقنية)، والمسألة في الأساس هي ممارسة فن، والفنون عامة تقتفي أثر الجمال، وفي سبيل هذه الجمالية المنشودة تتحاور الأجناس الأدبية مع بعضها البعض وتتجاور لتفضي إلى نسق بهي يبهج النفس.. وبهجة النفوس غاية من غايات الفن.

مشهد ثالث:
*ثمة لعنات دائماً تلاحق الشخوص في نصوصك – الطائر المعدني نموذجاً – هل هذا مرايا للواقع أم حيلة لبعث الواقعي من المتخيل، أم ماذا؟
–    قصة (الطائر المعدني) هي محاولة لكشف واحد من مظهرات لعنة القهر.. هو نص يمكن اعتباره أداة وصف ظاهري لعملية الانتقال من حالة الأمان إلى نقيضه. مثل أن تخرج لشراء حلوى وتعود لتجد مأواك كومة رماد.
والقهر لعنة أساساً، تتفرع منها لعنات أُخر، لعنة تلاحق الشخوص الحقيقيين منهم والمُتَخيّلين، تلاحقهم.. تطاردك.. تقتفي أثراً، تتبع المزارع في حقله، العامل في مصنع، الطلاب، الطالبات.. كلهم تلاحقهم لعنة واحدة هي لعنة القهر.. ليس قهراً سماوياً، إنما قهر ممنهج، قهر الآدمي لأخيه الآدمي.. الآن نحن محاصرون يا صديقي بهذه اللعنة. كأنما هي أداة لإجراء تغيير كامل للمجتمع الذي نشأنا فيه.. على سبيل المثال، أنظر إلى مشهدك الحياتي الاجتماعي والسياسي الآن.. ستجد صوت الجهة والقبيلة هو الأعلى، هو الخطاب الذي يطغي على خطابات المواطنة والانتماء لرقعة واحدة.. وعندما يعلو صوت على الآخر، ذلك يعني قاهر ومقهور.. وتلك هي اللعنة الأساس.
*ثمة نافذة موصدة فتحتها أنت للتو: وأعني هنا العلاقة الأزلية التي تربط ما بين الأدب والسياسة، والأدب وما هو سيو ثقافي وهي علاقة دائماً مرتبكة، يكسوها توتر-  خصوصاً هنا في السودان.. كيف تقرأ ذلك؟
–    في كل البلاد ذات الساسة الأغبياء يبرز هذا التوتر، توتر ناتج عن عدم إدراك أو إدراك. فللأدب وظيفة دائمة ومبادئ سرمدية غير محددة في مكان أو زمان. الارتباك والتوتر ناتجان من تقاطعات ما هو سياسي بما هو أدبي، وثمة رابط بينهما يغذي هذا التوتر، هو ثيمة الصراع، فالسياسة فعل قائم على ثنائية الهدف والوسيلة، والهدف السياسي دوماً يعلي من قيمة الأيدولوجي، ويبرز الصراع حين تأتي الوسائل التي تحققه، صراع بين القيم الأيدولوجية والمجتمع، وهنا يحدث التقاطع مع الأدب حين يمارس وظيفته في رصد هذا الصراع بمستوياته المختلفة. ومفهوم الأدب في النظريات الحديثة لم يعد هو تلك التعريفات ذات الطابع التفسيري للكلمة بدلالاتها الحسية والذهنية، بل صار جزءاً من التاريخ السياسي والأيدولوجي للمجتمع البشري في أي مكان وزمان. وبإسقاط هذا المفهوم على الواقع السياسي والأدبي في السودان، فإن الشواهد تشير إلى أمرين لا ثالث لهما: إما أن يكون الأيدولوجيون – أعني من قُدِّر لهم الإمساك بمقاليد السلطة – لأن السلطة من أقوى آليات نشر الأيدولوجية؛ فإنهم إما أن يكونوا قد استوعبوا مفهوم الأدب بتشابكاته المعقدة وسعوا إلى محاربته والحد من دوره عبر تهميشه وعدم الاهتمام به، أو أنهم لم يستوعبوه. وفي كلا الحالتين هي الكارثة عينها.

مشهد رابع:
*دائماً ما تحصد الجوائز الأدبية في مسابقات القصة القصيرة، هل ثمة ناقد يتوارى داخلك أم أنك ملم بالأدوات النقدية بصورة احترافية؟
–    ليس دائماً يا صديقي، فثمة معايير جديدة ظهرت في مشهدنا تنسف فرضيتك هذه.. فقدحدث أن شاركت في مسابقة نظمتها جهة ما، لكن أحد المنظمين للمسابقة أتى بمعيار جديد لاستحقاق الجائزة، وهو أنه لا يجوز لمن فاز في مسابقات أخرى أن ينال هذه الجائزة!!! فتم استبعاد النص الذي شاركت به بحجة أن هذا (الهادي راضي فاز في مسابقات كثيرة قبلاً)!!!. – حدث ذلك بعد فوز النص الذي شاركت به.
لست نادماً على ذلك بقدر حسرتي على استشراء قيم سالبة ذات طابع إقصائي وظالم في وسط يفترض فيه إعلاء شأن قيم فاضلة.
وفيما يخص الشق الثاني من المحور أعلاه، فكما ذكرتُ في محور سابق أن كتابة القصة هي فن كسائر الفنون الأخرى، له معاييره وشروطه التي تحدد صفته الفنية، ومن البديهي أنك إذا أردت أن تتقن شيئاً ما، عليك بامتلاك مفاتيح الدخول إليه ومعرفة قوانينه التي تجعل منه عملاً ناجحاً – والنجاح نسبي ههنا – وأعتقد أنني استصحبت هذه القاعدة في مسار ممارستي لفن القص، واطلعت على الكثير مما كتب عن هذا الفن من وجهة نظر النقاد، وما كتبه أصحاب التجارب الكبيرة، بالإضافة إلى النتاج القصصي سواء أكان لكتاب سودانيين أو غيرهم باللغتين العربية والإنجليزية، وأعتقد أنني استفدت من تلك القراءات إلي حد ما.

مشهد خامس:
*هنالك علاقة ما، سرية تربطك باللغة، تتجاوز الاستخدام الأداتي لها، مع القدرة على الإمساك ببقية مكونات القص، هل ثمة عشق يسكنك تجاهها؟ أم أنك مسكون بهاجس جمالية اللغة؟
– بالاثنيْن معاً.. أعشق اللغة، وأبحث عن جماليتها أثناء التعاطي مع نص ما. والتسكع في مضمار اللغة أمر ممتع وآسر، تدهشك مفردة ما بدلالاتها المتعددة بتعدد السياقات التي ترد فيها، يبهرك معنى مجازي، وآخر غير ذلك ورد في جملة أو فقرة، تقف كثيراً أمام كلمة ذات مترادفات.. تفعل ذلك أثناء الاطلاع، أو غائصاً في جب القص، حتماً ستنفصل عما حولك، شيء كما السحر يتبدى أثناء صياغة الفكرة بنسق من الرموز والإشارات يسمى لغة.

مشهد قبل أخير:
*أنت وفقاً لمتابعاتنا اللصيقة لمشروعك الإبداعي.. مصاب بما سأطلق عليه (قلق التكنيكات)، وثمة من يسميك إلهاً لها.
يضحك.. ثم يجيب:
–    كل ما في الأمر هو أنني أتخذ من فن القصة حقلاً للتجريب في الكتابة الإبداعية، وهي أنسب فنون الكتابة في اعتقادي لممارسة مسألة التجريب لكونها فن لا يخضع لمفهوم متفق عليه بقدر ما هي تعريفات متعددة لمهتمين وأصحاب تجارب أشاروا إلى أهمية وجود سمات أساسية لهذا الفن – العناصر- تقود إلى تحقيق غرض سردي في مساحة موجزة نسبياً. وما تسميه (قلق التكنيكات)، هو محاولة لابتداع سمة مغايرة لكل نص قصصي يُكتب لكي تميزه عن النصوص الأخرى، سواء أكان ذلك على المستوى اللغوي، أو التقني، ولكنه بالضرورة يتفق معها في تحقيق الغرض السردي آنف الذكر.

مشهد أخير:
مشهد الخروج:
*إلى أين ستؤول الكتابة؟
–    إلى كتابة.

 

* قاص من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى