توتي
شغوف قلبي، لا يزال بالقصة الأمريكية القصيرة. لا أعرف متى أو كيف التقينا. لكنه حتماً، كان لقاء مصادفة كمعظم تلاقي العناصر في هذا الوجود. أنا الآن منحدر في الجانب الأبعد من تل الحياة، وأمامي يتمدد، بلا انتهاء، أمامي ذلك الأفق الغامض الذي سمَّوه بداية الأبدية. هو أفق لم يتمهل كثيرون ليروه، لأن الحياة كانت بالنسبة لهم مجرد قصة قصيرة كحياة واحد يدعى “روبرت”، سنلتقيه صدفة بعد قليل. على الرغم من هذا بدأت تنتاشني عناوين وشخصيات ومواضيع الكثير من تلك القصص التي شِيِءَ لها ألا تزيد من ربع الساعة، وعلى الرغم من ذلك ظلت حاضرة مع الزمن.
ورائي الآن العشرات من سنين الكآبة والجنون والجوع، بيد أنها ما أفلحت أن تحُول بيني وبين تلك اللحظات القصيرة التي لا تهل إلا في أيام الجمعة بالتحديد، كما يقول الشاعر محمد المكي إبراهيم. وقتها كنت منغمساً في حضن “توتي”، جزيرة نهرية حفت بها ثلاثة أنهر: اثنان أزرق لونهما، والثالث أبيض، وعلى مبعدة، ومن تحت أحد الكباري العابرة كان النهر الرابع ينتظر.
ومثلما أحاطت أذرع الماء بتلك الجزيرة المسماة توتي، أحاطت هي نفسها بإزار أخضر كذاك الذي تلفه العذارى حول الخصور، ثم يطلقن سهام الجمال بدقة لا تخطئ حتى الأحداق. ركام من غابات الليمون والمانجو والنخيل، كلها غفت وتوسدت رملاً جميلاً هناك عند المبتدأ. كل ذلك يحدث في قلب الخرطوم وبحري وأم درمان وتوتي في سرة الماء، في سرة السودان، في سرة أمريكا.
محمد المكي إبراهيم اغتالته صباحات الجُمع بالتحديد، وأنا اغتالتني مساءات ذلك اليوم، في ساعته الحادية عشرة إلا ربعاً، وبالتحديد أيضاً، من تراه لا يعرف أنني لا أغادر غرفتي في تلك الجزيرة عندما تمر تلك الدقائق. قلب الليل اقترب، يحث الخطى نحوي وأنا مسمر أمام جهاز راديو ضاع عني الآن شكلاً ولوناً وماركة. ما تبقى فقط هو صوت عبد الرحمن أحمد، مذيع سوداني هاجر إلى أمريكا قبل أن تستقبل الدنيا سبعينيات القرن العشرين. انتهى “نادي الجاز الأمريكي”. رانت ثوانٍ من صمت ذلك اليوم إلا من أصداء الطبل تخربش على حافة القلب. أقول هذا إذا لم تكن العناصر والأيام قد تخالطت عندي. ما يهمني في هذه اللحظة عندما أنعزل عن كل الوجود، صوت عميق ينساب كبحة البوق في مزارع القطن في ألباما أو جورجيا “صوت أمريكا يقدم…. القصة الأمريكية القصيرة… وقصة اليوم عنونها She met Lincholon، أي قابلت لنكولن”. بعدها يجيء، وبذات الصوت القوي، اسم الكاتب، تعقبه موسيقى من نوع سيمفوني تتدفق كالنهر الساري على مهل، وفجأة تنتشر الكلمات كالزوارق الصغيرة أطلقها أطفال في حفل ديني في بقعة نائية من هذا العالم. هكذا قابلت العشرات، أو المئات من كتاب القصة الأمريكيين، أو فلأقلْ أسطولاً منهم فيما أنا قابع وحدي في غرفتي الصغيرة، وحولي البقية من بيوت التواتة. بيوت جلست كلها على الأرض، تتلوى شوارعها كشيء لا يُفهم.
في سنوات متأخرة وجدت أن معظم أولئك الكتاب عاشوا في القرن التاسع عشر، أو في مستهل هذا القرن العشرين الذي كاد أن يمضي هو الآخر إلى الأبدية، منحدراً إلى الجانب الأبعد من التل، تتمدد أمامه تلك الآفاق الغامضة بلا نهاية، إلا نهايته هو. لكَم حلمت، وحلمت بإصرار، بأنني سألحق بهم ككاتب عالمي، تساورني هالات الاشتهار، بينما تبقى قصصي ورواياتي من بعدي تصادم الزمن على قمة ذلك التل. وحتى لو أنجبت أحلامي تلك، أحلاماً مثلها، مجرد أحلام، فإنني قد اكتفيت بما أمتعتني به تلك الأعمال الأدبية بلوحاتها الشاعرية التي تتراقص في ثناياها كلمات وتعابير مضيئة لا يخبو سناها الأبدي. وإلا فكيف يتأتى لي أن أنسى الشَّعر الكستنائي المنسدل على أكتاف نساء تلك القصص، والعيون والشفاه والفساتين المورّدة بأزاهير تلك الأزمنة؟ كيف بالألوان القرمزية التي تكتسي بها قرى أولئك الناس. خضرة حدائقهم. مزارع القمح. بساتين البرتقال قبعات أبطال تلك الأعمال، سهول أمريكا، أنهارها، جبالها وتلك التلال. مغامرات بحارتها. السفن في رحمة الأمواج والقراصنة، السكك الحديدية، المكتشفون في القطب الشمالي والجنوبي أيضاً، ومعاناتهم إنابة عن البشرية عندما مضغوا أفراخ الطيور حية. أحسست أن كل البشرية قد شاركتهم تلكم اللحظات، وهم يجالدون الدببة القطبية والبرد والموت، فيما الثلوج تحوِّل الدنيا حولهم إلى عالم فضي يشبه غيبوبة الجوع في جل ملامحه.
ربما لن يكون بمقدوري أيضاً أن أغادر محطة ذلك الوازع الذي منع قصة She met Lincholon تحديداً. س دون هي ماثلة أمامي دون المئات من تلك القصص. قصة مهما ادعى كاتبها أنها طفرت من تلاقح أفكاره مع تاريخ أمريكا العام، فإنه يظل كاذباً والحقيقة تسطع شمسها بالنقيض. باختصار، حكى الكاتب عن سيدة، أُرجِّح أنها سوداء، فأنا لا أذكر اسم ذلك الآن، جُنّت إلى آخر ما يكون الجنون، لأن جيلاً لاحقاً كذب قصتها بأنها قابلت إبراهام لنكولن في شبابها قبلما يقارب ثمانية عقود. إبراهام لنكولن وجدوه مرسوماً أمامهم فوق سطح الدولار. زعيم أبيض حرر العبيد السود في الجنوب الأمريكي ووحد عشرات الولايات الأمريكية. يا لها من عجوز سيئة الحظ كونها لم تمتلك صورة لتلك اللحظات الأغلى تثبت دعواها.
قصة اليوم، وليس بالضرورة أن يكون اليوم جمعة، لا أذكر لها عنواناً، ولا اسماً لكاتبها، ولا بطلها. هذا الأخير أفترض له اسم “روبرت”؛ فتى يافع في المدرسة الثانوية، أما عمته فلتكن ” أو “آنا” أو “روزا”، حسناً، فلتكن روزا. لكم أفلح الكاتب في أن جعلها تفتتح فضاء قصتها بكلمات حماسية كأحد أناشيد البطولات، أو دفاع عمال عن حقوقهم المدنية. أكاد أسمع الممثلة التي لعبت الدور، أو أسمعها هي ذاتها تخاطب روبرت ابن أخيها، أو أحد الزوار، أو إحدى الزائرات، قدموا من مكان بعيد نوعاً. اسمعوها…
“انظر.. انظري هذا الكساء الملوكي القاني اللون والموشى بالخيوط الذهبية.. لقد ورثناها عن جدنا النبيل “توماس روبرتسون”.. لا بد أنه أثر نوعاً ما في تاريخنا الأمريكي.. لكم آسف أنني لم أقابل اسمه في حصة التاريخ الأمريكي حتى عندما كنت طالبة في الثانوية.. يبدو لي جلياً أن تاريخنا الأمريكي يحفل بالثقوب والأكاذيب والادعاء الفارغ.. ويهيل التجاهل، بل يهيل أطنان النسيان على صفحاته، وإلا كيف أفهم أنه أغفل جدي النبيل “توماس روبرتسون” من ولاية أنديانا؟… هذا فظيع… فظيع… فظيع غاية الفظاعة.. لا يحتمل.. لا.. فأنا لا يخالجني شك مهما كان في شعوري، حتى في أحلامي بأنني أنحدر من أسرة برجوازية.. إن لم يكن هنا في أمريكا، فحتماً هنالك في إيرلندا أو بريطانيا أو اسكتلندا أو إسبانيا.. أقول إن مبادئ WASP متحيزة حتى ضد بعض البيض مثلنا.. جدي لا بد أن يكون قابل لنكولن.. لا بد.. وإلا فكيف لبس هذا الزي الذي لا يلبسه سوى النبلاء.. كيف؟”
مضى عبد الرحمن أحمد السوداني ليصف بحنجرته الآسرة جو الغبطة والاعتزاز الذي سبق اللحظات التي غادر فيها الفتى “روبرت” بيت العائلة في طريقه إلى واشنطن العاصمة ذاتها، ليلتحق بالجامعة ويدرس التاريخ نزولاً على رغبة العائلة، وتحديداً العمة التي افترضنا أن اسمها “روزا”. ها هو صوتها يكاد يفيض رقة وأملاً، وهي توصي الفتى عند العتبة الخارجية للبيت قبل أن يتوجه نحو محطة القطار الذي أزف وصوله.
(…. روبرت يا صغيري.. للمرة الأخيرة أوصيك بأن تفهم أنك حفيد أحد نبلاء أمريكا.. النبيل توماس روبرتسون.. والكساء يثبت أصلنا النبيل.. قلِّب يا حبيبي ثنايا كتب التاريخ جيداً، وحتماً ستعثر على اسم جدك النبيل.. اجتهد يا روبرت.. وداعاً.. ولا تنس أن تراجع جيداً، وبعناية استثنائية أسماء من قاتلوا بجانب لنكولن..).
مرت السنوات كما قال الراوي، وعاد الفتى، واستقبلته عمته روزا بكل رحابة أحضانها. أمسكت بشهادته الجامعية التي حازها من جامعة ييل الشهيرة، وهي تقول كأنها تغني:
(مرحباً.. مرحباً.. بحفيد النبلاء.. حفيد الملوك.. حفيد توماس روبرتسون نفسه.. توماس روبرتسون الحاضر أبداً في هذا الكساء الأحمر الموشى بالذهب.. أهلاً ومرحباً. والآن انظر لهذا الكساء بعين دارس التاريخ الذي تخرج من الجامعة.. قل لي أيها النبيل الصغير، لا بد أنك عثرت على اسم جدك.. لا بد أنه كان على الأقل أحد جنود إبراهام لنكولن وقام بعمل بطولي واستثنائي في توحيد أمريكا القوية.. إن لم يكن أحد القادة المقربين لذلك الرئيس مباشرة. تفضل بالجلوس.. ملك واقف كتمثال من برونز يا صغيري؟).
– عمتي.
ابتدر الفتى عمته بنبرة مفعمة بالأسى، والصوت تلجلج وتلعثم مقهوراً حتى صمت. بعدها ما لبث الفتى أن ألقى بعينيه الذكيتين إلى أرضية الخشب البارد، تحت ظلال مساء زحف حثيثاً على البلدة. جذعت العمة، وثانية أخذت ابن أخيها إلى صدرها القديم المضطرب، وهي تقول مشجعة الفتى:
– روبرت، ما هذا الجمود؟ لماذا لا تبتهج بالعودة إلى بيت أحد النبلاء.. أو.. أو فلنقل أحد الملوك.. فالمسألة كلها لا تستدعي سوى كذبة صغيرة إذا دعا الأمر، ولن يفطن لها أحد من هؤلاء.. وهكذا يرتفع الجد من مجرد نبيل إلى ملك أو حاكم.
أغمض الفتى جفنيه وقال بذات لعثماته:
– عمتاه.. أنا جد آسف كوني ذهبت لأدرس تاريخ أمريكا، يدفعني حماسك الجم، والذي أسبغَتْه عليّ كل الأسرة.. إنني جد آسف يا عمتاه.
– متأسف؟!.. ما الذي دفعك لتقول مثل هذا الكلام؟.
كان صوتها يرتعش وهي تشد الكساء الأحمر بخيوطه الذهبية اللون، حيث اعتملت صنوف المخاوف. فالفتى روبرت، وحتى عندما فتح عينيه أشاح ببصره بعيداً قبل أن ينظر مرة أخرى في حقيبته تحته، ثم صعد ثانية ببصره قريباً من سقف الدار. في تلك اللحظة الصامتة علا صفير القطار وعلا دخانه فوق سماء البلدة وهو يهم بالمغادرة. قال روبرت:
– هل تصدقينني يا عمتي؟
قال ذلك في تؤدة، بل استرجع رباطة جأشه، إلا أن عمته تلقفت السانحة، وقد انتقل الخوف إلى عمق قلبها.
– روبرت.. كيف لي ألا أصدقك؟. ألست ابن أخي دونالد روبرتسون، الرجل الرائع، والذي تشبهه أنت بكل قسماتك. كان رجلاً شهماً كأبناء كل النبلاء.. لقد استطاع أن يربينا ويحمينا في أكثر ظروف أمريكا حرجاً.. وعندما رحل عن الوجود، كنا قد شببنا عن الأطواق. أطواق بقيت على أعناق الكثيرين في أمريكا. دع عنك الزنوج جانباً. هكذا استطعنا نحن أيضاً أن نربيك. أنت وديعته التي تركها لنا.. حتى شببت أنت أيضاً عن الطوق. أشعر وكأن عليّ الآن أن أجري إليه في المقبرة وأخبره بعودتك يا روبرت.. لكم أود لو كنت أعود به مهما كان ليرى، ولو لثانية واحدة ابنه الخريج من الجامعة. والآن.. هيا قل لي عن ذاك الذي تريدني أن أصدقه.. هيا، وسأصدقك مهما.. مهما.. مهما قلت يا روبرت.. ما الذي يثقل عليك إلى حد الأسى، كما أراك؟
طويلاً.. فتح الفتى فمه قبل أن يقول:
– عمتاه.. التاريخ كله، وليس تاريخ أمريكا وحدها.. يقول بأن هذه الملابس ليست سوى ملابس الخدم.
لم تسمع العمة روزا كلمة أُخرى، أو لعله الفتى قد صمت، بل راحت تردد في هستيريا وسعار:
ملابس الخدم؟!.
أنا فاضل كباشي المشتغل على هذه القصة، توقفت مع كاتبها وهو يضع قلمه جانباً، فهذا كل ما تذكرته من تلك القصة. لكن، بالنسبة لي وللكاتب الأصلي، أيضاً مخرج برنامج (القصة الأمريكية القصيرة). مد إصبعه إلى حيث جرى الشريط الإذاعي بذلك النهر الموسيقي الهادئ، والذي يندفق وينساب هادئاً في ليل الجمعة، والساعة تشير إلى الحادية عشرة تماماً بتوقيت شرق البحر الأبيض المتوسط. سرى النهر وغاب. تراجعت كل هاتيك الكلمات الأخاذة، بعدها زانت الدنيا طوال ثلاثين دقيقة كاملة، ليقول المذيع: (قدمنا لكم قصة كذا للكاتب الأمريكي – مارك توين مثلاً – أو وليم فوكنر، أرنست همنجواي، هنري، سومرست موم، أو ستيفن كرين)، أو للآخرين ممن تعرفت عليهم في غرفتي الحقيرة هناك في جزيرة توتي. أنا الآن في مكان آخر، وفي زمان آخر.
– مستحيل.. مستحيل.. ملابس الخدم؟.
رأيت العمة روزا وقد ألقت بالكساء الأحمر على أقرب كرسي قبلما مرت خارجة من الغرفة، بعدما دارت قليلاً حول نفسها والمكان، وهي تضرب الأرض الخشبية بحذائها قبل أن تغادر الدار مثلي، وكأنها عزمت ألا تعود البتة.
باستطاعتي إعادتها، فأنا أيضاً كاتب. جعلت العمة روزا تعود بإصرار غريب بدا من وقع خطواتها التي تصاعدت حدةً كلما اقتربت من الفتى روبرت. لكأني أرى العمة روزا وهي تقتحم الغرفة، وقد صحت شيئاً من غيبوبتها وصدمتها. قالت بعدما تماسكت كإحدى نبيلات القرون الماضية؛ ملكة فعلاً كانت عندما انتصبت كشجرة سنديان في واحدة من غابات جبال روكي، تتحدى حطاباً جاء بفأسه وكاد يهوي بها على أصلها.
قالت:
– ماذا قلت يا فتى؟
– قلت إن هذه ملابس الخدم يا عمتي.
– أمريكا هه! أنت لم تتحدث عن ملابس خدم أو نبلاء.. إنك تهرف بتاريخ زائف.. تريد أن تنزع عني لقب نبيلة ولن.. ولن.. ولن تقدر.
– عمتي..
قال روبرت متوسلاً، ثم واصل يقول:
– هذا ما يقوله التاريخ، وهذا واجبه.
– وهل واجبه أن ينزع عني تاريخي وأصلي النبيل؟ عن أي تاريخ تتحدث أيها الفتى؟ تاريخ أمريكا؟.. هؤلاء الذين يرمون من خلال أقاصيصهم الزائفة أن يقولوا للعالم، وحتى للرب نفسه: ها أنظر! نحن عظماء لدرجة أن خدمنا، حتى الخدم في أمريكا يلبسون ما يجعلهم نبلاء في عيون أنفسهم رغم أنهم خدم.. وعلى العالم كله أن يتقبل تلك الحقيقة صاغراً. أليس كذلك يا فتى؟
– عمتي المسألة ليست كذلك.
– بل هي كذلك. ليست كذلك! ليست كذلك! هه! ما يهمني أنني سوف لن أتنازل عن حقي كنبيلة وحفيدة جد نبيل.
– أقول لك إن المسألة ليست كما تريدين يا عمتي.
صرخ الفتى روبرت حانقاً، بيد أن صرخته لم تلقَ أذن عمته لأنها غادرت خارجة وهي تردد بكل الحنق:
– بل هي ذلك.. هي كذلك، وسأريك بأنني على حق.. تاريخ!!.
هذه المرة عادت روزا كالبرق وبقبضتها اليمنى سكيناً تناولته من المطبخ، واتجهت مباشرة نحو روبرت. ضحك الفتى بعدما تبسم في البداية، حتى أغمد السكين مباشرة تحت آخر ضلع من ضلوعه اليسرى. إذ ذاك صمت. توانى زمناً قبل أن يصدق تلك الحقيقة الساطعة. بعدها خذلته رجلاه فهوى في مكانه وارتطم بأرضية الخشب. أرضية صلدة تطاير منها الدم لحظة هوت الجثة، حتى وصلت إلى وجه العمة قطرات منه، ثم همد بعد ذلك. وثانية جرى نهر على مهل، انكفأ عليه الفتى وكأنه يسبح إلى بر الآخر كيما ينجو بنفسه. أما العمة روزا فما كان منها إلا أن أشاحت بتعابير وجهها بعيداً عن المسرح، ثم فرت إلى الشارع العام الذي جرى أمام الدار. كانت تردد بصوت مجنون:
– أنا نبيلة.. وحفيدة واحد من نبلاء اسكتلندا.. ليس بمقدور أحد مهما كان أن ينازعني في نبالتي. لا..لا.
قَرْقَفْ. غرب أريتريا. السودان هنا، وإثيوبيا هناك على مبعدة إلى الجنوب. قرقف قرية زراعية صغيرة يمازحها أهلها دوماً باسم ينبئ عن تبرمهم منها وبقطاطي قشها التي ليس من بينها بناء واحد من الطوب، إلا المستشفى الصغير وسطها. سوقها يتألف من أكواخ الزنك، والأغلب من رواكيب القش.
كنت قد عدت لتوي من مزارع السمسم، حيث عملت مع غيري من اللاجئين في حصاده. كنا ثلة من اللاجئين، سمحت لنا إدارة المعسكر بمغادرته والعمل كإجراء في مختلف المزارع، ريثما يهل ميعاد مجهول تنقلنا فيه مفوضية شؤون اللاجئين إلى وطن جديد وحقيقي، ربما يكون أمريكا، استراليا، السويد، نرويج، هولندا. الوقت قارب المغيب، وإناء طبخي داخل قطيتي القش، يغلي فوق لهب النار. مضنىً من العمل طوال النهار في الحر، ثم المشوار البعيد ذهاباً في الصباح، ورواحاً قبل قليل. هكذا ألقيت جسدي المنهك على برش في فناء القطية. كان هناك قطيع من الحمير يدور حول المكان ويجوس بين حواجز الشبك التي فصلت بيوتنا عن بعضها. حواجز شوك غمرتها أعشاب خريف ثقيل.
ومع أجفاني المثقلة بالنعاس الباكر هذا المساء، قفزت أمامي فكرة مجنونة لم أدرِ لها معنى. تساءلت بيني وبين نفسي: ماذا لو جاء وفد من الحكومة الأمريكية، وقال إنه يريد شخص سماه باسمه ليكون أول المختارين من اللاجئين ليسافر إلى أمريكا. أمريكا؟ هل بمقدوري أن أصير كاتباً كما تمنيت قبل عشرات السنين عندما كنت هناك في غرفتي بجزيرة توتي. سأؤلف قصصاً تفيض بعبق زهور الليلك والكستناء، وأحاور شخصيات تنزل في آخر محطات القطارات، وآخرون يزورون حراس الفنارات على الشواطئ ليعزفوا أرفع الألحان في حيواتهم لأولئك الحراس المستوحشين طوال حيواتهم.
ستسمع أجيال وأجيال قصصي في برنامج (القصة الأمريكية القصيرة). بل سأصيب كبد الجرأة وأقول إنني سأكتب قصصاً على غرار (She met Lincholn). وتلك التي تقول.. تقول.. تقول عن فتيات درسن التاريخ.. خاطفاً ما هبطت على ذاكرتي الناعسة حكاية ذلك الفتى المسكين الذي نبش في التاريخ فغاص في وحل العبودية، ليس هذا فحسب، بل مات. كل ذلك لأنه نبش ماضي العمة روزا، فخبأت مدية مطبخها عميقاً في قلبه وهو ابن أخيها. بعدها اندفعت إلى شوارع البلدة الصغيرة في ولاية انديانا – أن صح ادعاء ذاكرتي – وأنا الآن أغازل الستين. على الرغم من ذلك، أكاد أسمعها قبيل انعطافها وغيابها في أحد الشوارع قبل ثلاثة عقود من الزمن. ولو قُدِّر لي وأخذتني مفوضية اللاجئين إلى أمريكا، فإن أول ما سأفعله هو أنني سأزور ولاية انديانا، مهد تلك القصة التي افترشت ذاكرتي وغفت.. الآن أراني أسير تحت صف طويل من الأشجار، وصوت يقول لي: يا هذا الطريق سيوصلك إلى واشنطن.. سر.. لا تتردد. الأشجار بدأت تقصر كل مرة وتتهاوى من علوها الهائل، إلى أن اضطرتني لأن أخفض رأسي قليلاً لأتحاشى هذه الأغصان وقد تدلت بأوراقها الكثيفة تضرب وجهي. الدرب ضاق بما أحنى ظهري. ناضلت وهذه الأغصان بأوراقها تخرش ظهري وتمزق ردائي للبرد. الصوت انفعل.. هيا.. هيا.. تلك هي واشنطن.. أنت الآن في أمريكا، والأمر ليس حلماً.. هيا I have caught you.. you raskal .
أقسم أن هذا ليس سوى فحيح العمة روزا ذاتها، وليس صوت ممثلة راديو صوت أمريكا التي لعبت دورها الإذاعي قبل.. قبل.. قبل زمن. كان لا بد أن ألتفت. أمامي امرأة في مثل عمري. في مستهل خمسينياتها. امرأة بيضاء مثل شعر رأسها، وقد ارتدت فستاناً طويلاً من الدانتيلا. لن أجادل في تلك الخطوط الدائرية التي عبرته.
– انهض.
سمعتها رددت بصوت عاجز تماماً والوَنى يهدني إلى الآخر.
– سيكون بإمكانك أن تنهض. حاول.
حاولت.. رباه. صعدت الأغصان من ظهري قليلاً.. قليلاً.. قليلاً حتى استطعت أن أقف على ساقي. أمامي وقفت العمة روزا ذاتها، وقد أفاقت شيئاً من صدمتها القديمة عندما افترقنا. كفّاها ارتعشتا وراء خضاب من دم داكن انتشرت فوقه شقوق الجفاف.
– Aunt Rosa?
ابتدرتها بصوت شابه الخوف نوعاً ما.
– أجل هي ذاتها.. روزا النبيلة والمهاجرة من اسكتلندا. . اتبعني.
هكذا أمرتني المرأة العجوز. ما من مكان أذهب إليه في أمريكا عدا المكان الذي ستقودني إليه مضيفتي.
– مرحباً.. مرحباً يا عمتاه.
سِرت أتبعها إلى داخل منزل. لست متأكداً إن كان له منزل مجاور.
– آه.. فهمت. قالت العمة روزا ونحن نكاد نرتقي الدرج الإسمنتي لنقتحم باباً اتسع جداً. باباً خشبياً ذا لون بني غامق. سمعتها تقول:
– هذه محكمة.
– محكمة؟.
– سأحاكمك اليوم ولن يراني أحد.
أحسست بساقيَّ يغادرانني وأنني أمشي في الهواء.
– علام تحاكمينني يا عمتاه؟
استدارت وواجهتني. وجه يرتجف بالغضب. حاولت أن أهرب. لم أجد ولا ساقاً واحدة. استسلمت لقدري عندما سمعتها تقول وأسنانها تصطك في مسامعي وهي تطحن الكلمات كأنها تطحن أحجاراً.
– تسألني أنا.. أيها الوقح؟
– لماذا؟
عاجلتني بصفعة أرسلتني للوراء إذ قالت:
– تسألني أيها العبد الوقح؟
– روزا!.
صحت في وجهها. كانت رابطة الجأش بصورة أذهبت عقلي. قالت:
– لقد نسي العالم كله قصتي إلا أنت.. أتسمعني؟
– عمة روزا.. قلت ضارعاً بيد أنها سحقت فرصتي في الحوار عندما قالت:
– أنا سحقت ابن أخي روبرت ولم يمضِ أسبوع على تخرجه من جامعة ييل.. قسم التاريخ.. لديّ طن من الأسباب لفعل ذلك، فكيف يكون الحال مع عبد مشرد ومجنون يساكن الحمير؟
– هذا يكفي وأكثر يا روزا. صحت في وجهه. أحسست بساقي يعودان. هذا شجعني لأسترسل وأصيح بصوت أعلى، فلربما يأتي جيران، إن كانوا هناك، ليشهدوا لي ضد هذه العجوز الفاجرة.
– لكل شيء حدود أيتها الفاجرة.. ولصبري كذلك.
جمدت العجوز إلا من بؤبؤي عينيها الحادتين يغوصان كالنصلين في لحم وجهي، وربما ينفذان إلى جمجمتي. أخيراً استدارت على عقبيها وخطت بعيداً. لقد انتصرت أنا. لن تهمني طرقات نعلها على الأرض الخشبية. تبعتها في زهو الانتصار. لحقت بها لحظة أن انعطفت يميناً. في البدء حسبتها في طريقها إلى الفضاء وذاك الدرب بأشجاره في صفها الطويل الذي لا أعرف أين بدأ ولا كيف انتهى.
روزا دخلت باباً فدخلتُ وراءها. إنه المطبخ. ساورني جوع لدجاج أمريكا. أغمضت عيني هائماً في رائحة ذلك الدجاج، بيد أنها سرعان ما تبدلت إلى رائحة نفذت عبر خياشيمي. لا.. فتحت عيني من هيامها الكاذب إلا لأرى جثة ممدة على بحر جاف من الدم الداكن لونه.
– روزا.. أردت أن أقول وأسألها. ما هذا؟ لكني رأيتها ترتفع ذراعها إلى وجه الحائط. هناك تراصت مختلف المُدى البارقة. مُدى جاءت من كل بقاع الأرض. كلا، أنا تعلمت. لن تكون هذه المرة كسابقها. هيا، لا تدع هذه الفاجرة تغتالك أنت أيضاً. هيا! لا تتوانَ! أسرع.. هيا اخطف روحك من بين يدي هذه القاتلة. هيا!!!.
كأسد هصور استللت مدية في اللحظة التي حازت العجوز خنجراً طويلاً في قبضتها.. يا أنثى البروق، سأريك كيف يكون البرق رجلاً. وكالبرق الفحل أغمدت المدية تحت آخر ضلوعها اليسرى فهوت فوق تلك الجثة التي أشبهت جثة فتى تخرج للتو في جامعة. جامعة تشبه ييل. فتىً كأنه درس التاريخ.
ألقيت المدية فوق جسدها المنطرح على الخشب البارد. كانت عيناها مفتوحتيْن وباردتيْن كأنهما تحدقان فيّ من وراء عالم آخر. دلفت خارجاً. لم يكن هناك من أية أشجار سوى أشجار اللعوت في قرقرف. هذه رائحتها عندما يلامسها أحد الحمير.
أرجوكم، لا تخبروا أحداً، فهذه مجرد قصة قصيرة وصلت إلى نهايتها.
* قاص من السودان