ثمارغوايات

ما أريده من شجرة.. ما أخذه مني طائر

أصمعي

(1)
منذ زمن طويل
وأنا أجرح النهارات بمشاويري الحادة
أقطعها بنفس حزين جداً
وأحرّض ضدها أطفال الشوارع, والمتسولين والمقابر
هكذا
منذ زمن طويل
أتمشى على ظهر العابرين بحذاء وحيد
وأدخن كل أنواع اللغات، وأتعاطى كل شجرة صالحة كوهْم
وأجزم بكل شظية تطلع من فوهة مجنون
أن الله ما زال يدس في ملكوته أسئلة ميتة منذ هابيل وقابيل

(2)
قلتُ لك بأنني طائر
بلا أجنحة
بلا زعانف
فقط رجل بذكريات حزينة

قلتَ لي: لماذا الدرب استطال
وسماواتها جفت من الخبز والضوء
وصارت الأرض محض مقبرة
والريح حبلاً سرياً لليتم
والضجر..

(3)
غزالتي المريضة
تركض في برية موحشة
تركض وهي جائعة لحليب الأمهات
وخائفة من أزيز نحاس الموت الملكيِّ
ارتدت الصقيع وامتلأت بجنوح العاصفة
لم تترك لصغارها قطعة نسيان
ولا لحلمها تفاحة أزلية!!

(4)
أريد منك طفلاً يانعاً
يشبه حنين أسلافه الطيبين
يتذكرهم كغبار عالق في أسمالهم
كنسمة عابرة من أرواحهم النازحة
يشبه رائحة دروبهم الموحشة بين ممرات الذاكرة
يتوسمهم في حروبهم المقدسة
وهجراتهم الغامضة
فارعاً أيضاً
كصرخاتهم في باطن الحقول المغبونة
أريد منك طفلاً أخضرَ
كسِيرة نساء القبيلة
وطويلاً كصبرهن على جلافة الأرض البدوية
والحنان الغور
أريد منك طفلاً يشبهني
ويتبعني حين أحمل جثة غابة بأكملها على كتفي
طفلاً
واحداً
شقيا بلغة الفئوس الجارحة
وغفوة الرعاة وجوع البعير
كتابه من خدعة الريح
ومعارفه من خصومة المطر
وعرسه في شهقة الجدار ولعنة السماء
أريد منك طفلاً واثقاً
يدفن سره في رمل الصحراء
ويعود بالحقيقة لدم العائلة
بالعصافير
والفراشات
طفلاً واحداً
ما أريده منك أيتها الشجرة الواقفة عند بابي طويلاً منذ البارحة

(5)
الحرب انتهت
لكنني حائر في وزرها
أين أخبِّئه؟
كلما دفنته في قاع نهر العمر
نفقت أرواح الحياة
روح لمحبة الناس
روح لليل الأصدقاء
روح للتي تروح في ضفة الحلم
وروح لها في طقوس الرحيل
بين حزن الطير وأشجار الندم!!

(6)
في هذا الصباح
لا جدوى من البكاء
على جثة امرأة ماتت البارحة في كهف صمتي
في هذا الصباح
سأبكي وحيداً
على امرأة نامت في كهف بعيد!!

(7)
شجرةٌ تشهق في ليلي
تقيني شرور هجرة العائلة
تخصني ببهجة قدميها الباردتين وسحر غوايتها
تحرضني دائماً لوليمة القصائد
تفتح لي أسرار ظلالها كلما أحرقتني نيران الرغبة بين يديها
لغتي تقتات كل مساء وجهها الشهي
وفراشاتي النهمة تحط على رحيق جسدها
تحضن النهر عند نافذتي وتبلل صمتي بتأويل الزوايا
زاوية للأمل
زاوية للحنين
زاوية للمطر
وزاوية لسرب عصافير غربتي على غصن الوطن
بعد قليل سيجيء الليل برعبه ورماد ذاكرته
بعد قليل ستجيء شجرة تشهق في ليلي
أنتظرها بقميص خضرتها
انتظرها بلساني الممدود من هوة الشبق
ينتظرها طائر بديدان الموت.

 

*شاعر من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى