الكتابة وسط الحريق..حوار مع الروائي حسام الدين صالح
في هذا الحوار أسئلة عن الحياة والكتابة والراهن، يجيب عنها الروائي والقاص والصحافي حسام الدين صالح، ويخلق فضاءً للتداخل بين العام والخاص. ويقول: (أظن أن السودانيين عموماً مسجونون في قدر الانتظار، وما الكُتّاب إلا تجلٍّ صارخ لهذا الانتظار القدري للحياة، التي ينبغي أن تعاش لا أن تُمَثّل..)، فالكتابة لدى حسام هي نتاج رحى الواقع، ويقول واصفاً حال من يكتب في السودان: (نحن الآن في السودان وسط الحريق: في أيماننا أقلام وفي شمائلنا طفايات.. ماذا نفعل؟!).
لحسام الدين صالح ثلاثة كتب أحدها مجموعة قصصية (المتدحرجون من الخرطوم)، والآخر رواية عنوانها (زيدان الزقزاق)، والثالث (ما قبل التنمية: حول قضايا الإعلام التنموي في السودان).
****
*من هو حسام صالح؟ وماذا يريد من الرواية؟
السؤال الأول صعب جداً، لأني ظللت أسأله على نفسي مذ وعيت على الحياة بمعناها المترامي والمقلق. وحتى هذه اللحظة لا أملك إجابة يقينية ونهائية؛ لكل واحد منا مرآته الخاصة التي يحاول أن يرى بها نفسه، مرآتي معتمة حتى اللحظة، أما مرايا الآخرين فتقول الكثير بالطبع عمّن يكون حسام صالح، وعمّا فعل ويفعل، وأحياناً أصدِّق ما تقوله مرايا الآخرين، وأحياناً كثيرة أكذبها. لكن ما هو ثابت ويقنيني أني مولود بحي الدباغة بمدني في العام 1982م. رأيت الدنيا بمدني ثم رأيت الحياة بحي العباسية بأمدرمان.. ذلك الحي العريق العجيب الذي قضيت فيه أيام الصبا والدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية.. في هذا الحي تفتَّحت مداركي على عالم الكتابة.. أستطيع القول إنني دخلت الكتابة من باب الرسم.. كان الرسم هوايتي الأولية وكانت الكتابة على الأرض وسيلتي للمتعة.. أكتب وألعب بالحروف وأشكالها على الأرض حتى أنسى الدنيا.. واصلت الرسم على الورق إلى أن أوصلني هو إلى باب الكتابة، وكنت على موعد لدخول كلية الفنون الجميلة، إلا أنني لأسباب كثيرة تركت الفنون للإدارة، ودرست بمدرسة العلوم الإدارية بجامعة الخرطوم. الآداب والفنون التي تركتها انتقمت من الإدارة التي أدرسها، ودفعت الثمن غالياً؛ وتأخرت فترة من الزمن، حتى أكملت الجامعة؛ وكنت طيلة هذه الفترة رفيق الكتابة الأدبية والصحفية.. كتبت في الجامعة أولى قصصي القصيرة، التي نشرتها في الصحف (الرأي العام، والحياة، ألوان) ثم نشرتها بعد ذلك في مجموعة (المتدحرجون من الخرطوم)، وفي ذات المرحلة بدأت أولى خطواتي في عالم الصحافة محرراً وكاتباً للرأي. تخرجت من الجامعة وفي يديّ شهادتين: الأولى أكاديمية في علوم الإدارة؛ والثانية مهنية في احتراف الصحافة. ورغم كل شيء ما زال حسام صالح يبحث عن حسام صالح.
* وماذا يريد من الرواية؟
السؤال الحقيقي هو: ماذا تريد مني الرواية. بدأت الكتابة الإبداعية بالقصة القصيرة وما زلت وفياً لها.. كانت لديِّ مشاريع روائية عدة تجول في رأسي، لكني كنت دوماً أؤجل تنفيذها لوقت أكون فيه مستعداً بما يكفي لخوض هذه المغامرة، وأصدقك القول: لم أكن أتوقع أن أكتب رواية في هذا الوقت من عمري، والسبب كله يعود إلى زيدان الزقزاق.. تلك الشخصية التي هبطت عليّ ذات جلسة كتابة اعتيادية في أحد صباحات الجمعة لتفرض عليّ كتابتها وكتابة محنتها ومحنة أهلها الزقازقة.. كنت في طريقي لأكتب قصة قصيرة جداً، فوجدت نفسي أمام حكاية أكبر من أن تحتويها قصة قصيرة جداً، تقرأ في ثوانٍ.. ولهذا لم أكن أريد شيئاً من الرواية في هذه المرحلة من رحلتي مع الكتابة.. كنت أريد منها أن تتركني فقط في حالي؛ لكن يبدو أنني وقعت في ورطة الرواية مثلما كان يقول أديبنا الراحل الطيب صالح: “لا أُخفي أنني وحتى أواسط الستينيات كنت أكتب للمتعة؛ ومن ثم تورطت”.. ولهذا أفليس من الأوفق أن أسأل الرواية: ماذا تريدين مني؟!
*أخذني عنوان الرواية” زيدان الزقزاق” وقبل القراءة إلى “سليمان الزغرات”؛ بعد القراءة فكرت هل منح المحكي الشعبي والموروث القصصي حسام طاقة للذهاب إلى روايته هذي؟
لن أتجرأ على القول بأن زيدان الزقزاق لم يخرج من معطف سليمان الزغرات، كما لن أستطيع القول إن زيدان الزقزاق لم يكن ليعيش ويحكي قصته لو لم تظهر شخصية سليمان الزغرات.. هنالك بالطبع تأثر عام بالمحكي الشعبي والموروث القصصي يجده الكاتب قابعاً في مكان ما في لا شعوره.. لكني لم أنتبه لهذه العلاقة الممكنة لسليمان الزغرات بزيدان الزقزاق إلا بعد صدور الرواية بعدة شهور، حينما لفت انتباهي أكثر من شخص لتشابه أجراس الحروف بين سليمان وزيدان والزغرات والزقزاق، ويمكن أن يكون وجه الشبه بين الشخصيتين في التحول الموقفي: سلمان الزغرات فارق درب الغواية إلى الهداية، وزيدان تحول من انتهازي منتفع إلى مناضل مضطهد، وكان سبب هداية الزغرات دعوة الفقراء وسبب تحول زيدان الجرائم في حق أهله.
* كيف ينظر حسام الآن إلى تجربته الكتابية عقب صدور مجموعته القصصية (المتدحرجون من الخرطوم) وروايته الأولى (زيدان الزقزاق)؟
أية تجربة كتابية إبداعية جادة ستكشف لك عن كثير من الخبايا، خبايا حول ذاتك الكاتبة وخبايا حول موضوع الكتابة، ويمتد الكشف إلى صف القارئ المتلقي للعمل الكتابي الإبداعي.. سيعرف الكاتب خلال رحلته الأولى لماذا يكتب وكيف يكتب ولمن يكتب، حيث سيكون أقدر من ذي قبل على التعرف- نوعا ما- على قارئه المحتمل.. ماذا يريد منه وماذا يريد له.. تجربتي المحدودة والمتواضعة والمبتدئة في الكتابة والنشر أماطت لي اللثام عن بعض ما سبق.. أدين لهذه التجربة القصيرة وغير المكتملة بالكثير من الفضائل، أسقطت أصناماً وأوهاماً كثيرة، أكلت من الطموح وزادت عليه في نفس الوقت، بيّنت أن اليأس أقرب للكاتب السوداني من النشر، أوضحت أن الكاتب السوداني لا بد أن يدفع ثمناً غالياً ليكتب ولينشر ما يكتب.. والمؤكد أيضاً أنني ما زلت أجلس في شغف تحت عتبة الإبداع عسى ولعل أن أدخل.
* كيف تنظر إلى حركة السرد في السودان الآن؟
مذهلة ومخجلة.. والأسوأ من ذلك أنها حركة متقدمة جداً في مسار مظلم جداً.. لقد قدِّر لي خلال تجربتي بصحيفة (حكايات) كمحرر عام ومشرف على صفحات الرأي والشباب والطلاب، أن أقف على كمٍّ هائل من المبدعين، لكنهم لا يجدون طريقهم إلى القراء، بسبب أزمة النشر المزمنة في السودان، وبسبب ضيق المواعين الثقافية أو اختزالها في ضرب من الآداب والفنون دون غيرها، أو بسبب سوء الإدارة الثقافية في البلد واستخفافها بأبجديات صناعة الثقافة في العالم.. أنا مستعد أن أحصي عدداً كبيراً من الشابات والشباب يكتبون الشعر والقصة والرواية والمقال الأدبي بطريقة متقدمة، إما أنهم يئسوا أو ظلوا يبحثون عن ناشر جاد ليبدأوا رحلة الكتابة الإبداعية التي لا تعترف بالمشافهة أو الكتابة الصحفية فقط.. حركة السرد في السودان تنتظر الرعاية الثقافية والكشف النقدي.. وستبقى حركة عبثية وغير مجدية ودون تأثير في واقعنا السوداني ما لم تعالج مشكلات النشر والنقد ومن قبل ذلك كله الأمية القرائية.
*الوقوع في براثن الشعر داخل منظومة السرد أصبح تياراً عريضاً داخل مجرى الرواية؛ كيف يرى حسام إلى الأجناس الأدبية؛ وماذا يعد من فخاخ لغزال الكتابة؟
الشعر موسيقى، ولا يمكنك الاستغناء عن هذه الموسيقى داخل النص السردي الجديد، ذلك النص المتفتح على عنف يومي ودماء يومية. أصبح النص مجبراً على مواجهة عقارب الساعة المتسارعة بموسيقاهُ من ذات النوع.. السرد الشعري ملح في وجبة الرواية، إن زاد عن المعقول ربما شممت منه رائحة الطهو لكنها ستكون وجبة فظيعة المذاق. أنا أقف في صف الحكاية والقص والحبكة، وأرى أن الأجناس الأدبية تتداخل وتتجاور ويخدم بعضها بعضاًَ، وتبقى الوجبة اللذيذة في مهارة الطاهي.. أنا حاولت ذات الشيء في روايتي (زيدان الزقزاق)، وستجد فيها بعض الشعر، وبعض القص، وبعض الحبكة، وبعض الكتابة الصحفية.
*يقول درويش إن الصحافة ضيعت شعراء كثراً؛ وكم ضاع أديب في الركض وراء خبر؛ بالمقابل نجد أن هنالك أدباء وكتاباً كثراً خرجوا من قلب الصحافة، ربما أبرزهم ماركيز ودرويش؛ وأنت ماذا أضافت لك الصحافة كروائي وقاص؟ وماذا أخذت منك ككاتب؟
لولا الصحافة لربما فارقت الكتابة. كانت فكرتي تقوم على نظرية (خليك قريب) لو ما كنت كاتب متفرغ.. لكن هل تستطيع في السودان أن تصبح كاتباً متفرغاً لا تعمل في مهنة سوى الكتابة؟! هذه الاستحالة المحدودة بالمكان والزمان السوداني، جعلتني أفضّل أن أكون قريباً من الكتابة، فاخترت مهنة الصحافة التي بدأتها منذ سنتي الثالثة في جامعة الخرطوم. أنا مدين للصحافة في رحلتي مع الكتابة؛ ولهذا لم أنسها في روايتي (زيدان الزقزاق).. احتفيت بشيء من لغتها وأساليبها في معالجة الواقع، لكنها في ذات الوقت أخذت مني كثيراً من الوقت، وجعلتني أتحسس جيوبي جيداً قبل أية كتابة إبداعية، حتى لا أقع في تقريرية اللغة الصحافية، لربما نجحت في ذلك وربما فشلت؛ والأمر في ذلك للقارئ والنقد.. أنا من المعجبين بتجربة الصحافي والقاص والروائي والناقد أيضاً الأستاذ عيسى الحلو؛ وما زلت أنظر لها بإكبار واحترام.. رجل استطاع أن يحافظ على حيويته الكتابية في الإبداع وفي الصحافة الثقافية؛ وما زال في ذات الطريق منذ عشرات السنين.
* يجابه المبدع السوداني أقداراًً عصيبةً؛ فبالإضافة إلى كدحه اليومي للعيش وانتزاع فرصة حياة داخل هذا العصف الوجودي المفزع داخل هذه البلاد الكبيرة؛ تجب عليه القراءة والكتابة ومتابعة المنتج الأدبي العالمي والمحلي؛ قياساً بأقدار أخرى رحيمة تصيب كتاب بلدان أخرى؛ كيف يرتكب حسام الحياة ككاتب الآن؟
حسناً فعلت، وصدقاً وصفت الحالة بأنها (ارتكاب)، بكل ما يحمل معنى الارتكاب من خطايا.. أقول دائماً لأصدقائي أحس أننا لا نمارس الحياة، وإنما نحن نمثّل أننا نمارس الحياة.. الحكاية كأنها بروفة لمسرحية ما ننتظر أن تعرض يوماً ما على العالم.. أظن أن السودانيين عموماً مسجونون في قدر الانتظار، وما الكُتّاب إلا تجلٍّ صارخ لهذا الانتظار القدري للحياة، التي ينبغي أن تعاش لا أن تُمَثّل.. أنا صرخة في هذا الصخب المنتظر.. وجدت نفسي مثل سائر أبناء جيلي مغضوباً علينا اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً وسياسياً.. جيل فتحت أزاهير شبابه على ميدان نظام سياسي يزعم أنه ثقافي ولا يفتأ يقتل في كل ما هو ثقافي.. نحن يا عبد الرحيم (نضرّس بأنياب ونوطأ بمنسم)، كما يقول الشاعر زهير بن أبي سلمى، ولهذا تجدنا (نصانع في أمور كثيرة)، نكابد أكثر من مشغلة، لنتمكن من توفير الحد الأدنى للمعيشة والأسرة إن وجدت، ونكابد لنجد وقتاً لنقرأ ووقتاً لنكتب.. وفوق كل هذا العذاب نتنازع أمام منادي الوطن والجراح والدماء والشتات والهوية الجامعة والمستقبل الضائع، ونكابد حتى لا نصل إلى المرحلة الخطيرة التي وصلها الأديب المصري الكبير يوسف إدريس، حين كانوا يأخذون عليه انكبابه على كتابة المقالات الصحفية دون الاهتمام بكتابة القصة والرواية؛ فقال لهم قولته المشهورة: “يا ناس، أتريدون من رجل يرى الحريق يلتهم بيته أن يترك إطفاءه للآخرين، وأن ينتحي ركناً من هذا البيت المحروق ويكتب قصة أو رواية عن هذا الحريق الذي بدأ يمسك بجلبابه؟”.. نحن الآن في السودان وسط الحريق: في أيماننا أقلام وفي شمائلنا طفايات.. ماذا نفعل؟!
*القصة القصيرة طفلة اللغة؛ فهي تلثغ وتنطق السين شيناً والراء لاماً؛ ولا تقول كل شيء؛ بينما الرواية ثرثارة؛ هل ضبطت نفسك متلبساً برواية بدأتها بقصة قصيرة أفلتت من يديك؟ كيف تحكم الوثاق بين الأجناس الإبداعية المتداخلة هذي؟
متعة القصة القصيرة في أنها لا تقول كل شيء.. أنا عن نفسي أملُّ من الذي يقول كل شيء.. لهذا قلت لك إن الرواية هي التي اختارتني.. كنت أراها مثل جبل على صدري.. منذ بداياتي في كتابة القصة القصيرة في بدايات الألفية، كنت أكتب القصة القصيرة جداً، ولا أنشرها، وأستمتع كثيراً، بها لأني وجدتها تشبهني بعدم ثرثرتها. أعترف لك حين جلست لكتابة رواية (زيدان الزقزاق) كنت أظن أني سأخرج من مولدها بقصة قصيرة جداً، لكنها أبت إلا أن تلد نفسها كرواية، وورطتي معها أنها ما زالت تلح عليَّ لإكمالها بجزء ثانٍ، يكشف مصير بطلها زيدان الزقزاق.. أما الوثاق بين هذه الأجناس الإبداعية، فلا أظن مرحلتي المبتدئة هذه قادرة على إحكامه، ربما يتحقق ذلك مستقبلاً.
*هل يستطيع الروائي أن لا يتسرب إلى نصه؟ أعني كم (حساماً) زججت به في كتاب؟ وكيف تعتني بسكانك الحساميِّين؟
الروائي بوصفه المتحكم في اللعبة باستطاعته الوقوف بعيداً والنظر إلى شخصياته المصنوعة، وهي تتفاعل في حيواتها المحبوكة بخيوط الواقع أو الخيال. في اعتقادي أن الروائي الماهر هو الذي يستطيع أن يقف بعيداً عن الملعب، وقد يقصد أن يسرِّب نفسه إلى داخل النص بقصدية إبداعية أو قد يكون فعلها مرغماً، والمرغم في هذه الحالة هو المنهزم.. في روايتي (زيدان الزقزاق) لم أستطع أن أزق حسام وسطها وتركت الملعب لزيدان وأهله الزقازقة؛ لكن يمكن أن المدسوس من حسام في الرواية هو المكان باعتبار توحد مكان نشأتي مع مكان الرواية في أم درمان.
*يقول الشاعر محمد عبد الحي: ينتصر الفنان على العالم في اللحظة التي يخسر فيها العالم”؛ ويقول السيد المسيح: “إذاً ماذا يستفيد الإنسان إذا خسر نفسه وربح العالم؟”. ماذا يقول حسام في علاقة الفنان بالعالم؟
الفن يكشف العالم ويريد أن يتجاوزه بتشكيل عالم آخر بشروط أخرى مغايرة للعالم الحقيقي. والعالم في هذه اللعبة لا يقف مكتوف الأيدي، إنه يعرّي الفنان للدرجة التي ينكشف فيها جوهره المختبئ عن الأنظار، وفي هذه اللحظة -كما يتراءى لي- ينتصر أحدهما على الآخر، أو ربما تتطور العلاقة إلى نوع من (التوازن الحذر)، الذي لا يفضي إلى هزيمة ماحقة أو انتصار دائم. لكن هل سألنا أنفسنا: ماذا ستكسب الإنسانية من انتصار العالم على الفنان أو هزيمة العالم أمام الفنان؟!. الحكاية غامضة وملغزة إلى حد كبير، لكن الصدام بين الاثنين محسوس بشدة للدرجة التي أودت بحياة الكثير من الفنانين لا سيما الأدباء منهم. هل تعلم أن الشاعرة جمانة حداد أعدَّت أنطولوجيا رصدت فيها حياة 150 شاعراً انتحروا من 48 دولة، منها 28 شاعرة منذ العام 1906 وحتى 2006م؟! هذا الصراع نفسه خسر فيه السودان، والإنسانية من بعد، الكثير من العبقريات.
* أجل قرأت الأنطلوجيا؛ وكان من بينهم الشاعر السوداني عبد الرحيم أبو ذكرى؛ لكن هل يسعى الفنان لإنتاج عالم موازٍ داخل العالم؛ أم لإعادة إنتاج نفس العالم مرة أخرى بصورة مغايرة؛ فيخسر الرهان مرات ويحاول مرات أُخر؛ أعني بالإشارة إلى صراع الفنان مع ذاته أولاً (الأنا والأنا المتجدد، الأنا الطارئ الأنا القديم؛ ومن ثم مع الآخر؛ ثم العالم كاملاً؟
هي أكثر من عقدة على الفنان أن يحلها ليكون على علاقة ندية مع العالم، ثم علاقة متفوقة عليه، يبدأ الفك والتركيب كما قلت من الأنا والأنا المتجددة ثم يمتد ليشمل الآخر المتَّفِق أو المختلِف ثم لا ينتهي الصراع مع العالم حتى يتجدد مرة أخرى بصورة دائرية قد تستمر باتزان لتمد الحركة الحيوية التي يتميز بها العالم أو قد تخرج عن المسار بالتوقف أو بالإنهاء الكلي للذات، كما هو متجلٍّ في الانتحار الذي فضّله كثير من الفنانين في العالم.
*بمن تأثر حسام من الكُتَّاب؛ أية كتابات غيَّرت في كيمياء حسام صالح؛ وأمسكت بيده وقادته لهذه المهنة المرهقة؛ أعني هذا الشيء المسمى بالكتابة؟
الكتابة هي إعادة قراءة مثلما القراءة إعادة كتابة، ولهذا يكون التأثير والتأثر بين الكاتب القديم والجديد مسألة حتمية.. لو قلت لك إني تأثرت بكاتب معين لظلمته أشد الظلم. لم أكن في صغري دودة كتب.. كنت دودة كتابة.. أقضي أغلب أوقات فراغي في الكتابة على التراب.. أحببت الكتابة بطريقة بصرية، وجاءت القراءة متأخرة بعد التفكير الجاد في مزاولة الكتابة كمهنة أو مزاولة مهنة لصيقة بالكتابة كالصحافة، لكني مغرم بلغة الطيب صالح وستيفن زفايج، وبحبكة يوسف إدريس وتشيخوف، وبنكهة إبراهيم إسحق وماريو بارغاس يوسا، ونسقيَّة روايات “العجوز والبحر” و”رجال تحت الشمس”، و”امتداح الخالة” و”أيام الموحييه” و”موسم الهجرة إلى الشمال”.
*أترى أن ثمة نقداً يوازي المنتج الإبداعي السوداني؛ أعني كل جيل ينتج نقاده أو يجيء بنقاده.. أين نقادكم يا حسام؟
نقادنا لم يظهروا بعد على ما أرى، ربما لهم أعذارهم، وربما حجبهم عنا حجاب الزمان والمكان لنبدو بعيدين في نظرهم عن زمنهم وذائقتهم ووعيهم، وربما كتاباتنا أو كتابات بعضنا لا ترقى للمستوى الذي يرونه، لكن أليس في هذا ظلم لجيل كامل ألا تظفر منه بعدد من المبدعين الحقيقيين؟!. قابلت عدداً من الكتاب الشباب يتوقون إلى نقد ولو سالب لأعمالهم، يقولون لك: نود لو نسمع كلمة (تافهة) وصفاً لأعمالنا إن كانت كذلك، المهم أن يقول النقد كلمته، لكن هذا يظل غائباً في السودان، لذلك يتفوق المنتج الإبداعي عددياً ونوعياً على المنتج النقدي بصورة واضحة ومخجلة.
*زيدان الزقزاق لم يفعل ما يوازي ثقة الزقازقة فيه إيجابياً؛ كانوا يؤمنون به وبقدرته على حل مشكلتهم؛ هل اكتسب ثقة الزقازقة من حجم أذى “الجماعة” له؛ صحيح أنه عرض مشكلتهم على الإعلام لكنهم بالمقابل تفرقوا “أيدي سبأ”؛ النص يكتب نهاية تراجيدية للزقازقة ولزيدان؛ ولمصير الزقزقة أيضاً.
هي تراجيديا نعيشها بشكل يومي في السودان.. تيه وشتات في كل الجهات ونهايات مفتوحة على لا شيء.. ربما هذا ما أراد أن يقوله مصير زيدان الزقزاق الذي اختفى وحده، وترك الزقازقة وحدهم ليتفرق بعضهم، ويعود بعضهم الآخر إلى جبال النوبة. الرواية زاخرة بالمجازات الموازية للحياة المعيشة في السودان، ولولا زيدان البطل لما تقدمت قضية الزقزاق خطوة، ولولا زيدان اللابطل لانقشعت محنة الزقازقة. الرواية تشير إلى هذا المعنى المركب في بلد مليء بالتناقضات والتقابلات، وزيدان كان يشعر بالمسؤولية دون أن يكون مسؤولا عن النتيجة.
*هل تحررت من (المتدحرجون من الخرطوم) و(زيدان الزقزاق) عقب الدفع بهما إلى أيدي القراء؟ ما علاقتك بالكتابين الآن؟ هل يرتاح الكاتب مثلاً؟
لا راحة لكاتب مع شخصياته خاصة المقلقة، ربما تحررتُ من (المتدحرجون) نوعاً ما، لكني ما زلت أحس بـ(زنّة) زيدان الزقزاق في رأسي، وأتمنى أن أنساها لأعود لقراءتها، كأي عين تقرأها للمرة الأولى. أتوق للمتعة التي منحتني إياها عند كتابتها.
* شاعر وصحافي من السودان