في مديح القراءة.. أو سحر العالم ودهاليزه المفتوحة على الخيال
(1)
محبة شاهقة في قلبي تنمو وتكبر كل يوم لمدينة ودمدني، التي شهدت سنوات تدفقي الأولى في دروب القراءة، وشغفي بالمعرفة، ولحديقة “وقيع الله” تحديداً حدائق نضرة من الحب في دمي، التي تعرفت فيها على كثير مما أباهي به الآن، وأشمخ بمعرفته، فلقد قدمت اليها وأنا أتشمم رائحة الكتب والمعرفة، وقد كانت دواءً شافياً لكثير شغف كان يتدفق في شراييني آنذاك للقراءة والإطلاع والمعرفة، حيث عثرت عليها بالمصادفة وأنا برداء المدرسة الكاكي والقميص الأبيض بأكمامه القصيرة وحقيبة المدرسة، وأنا أغيِّر شارعي لأول مرة، فوجدت ويا للهول كتباً كثيرة متراصة على الأرض “مفروشة” من بداية الحديقة وحتى نهايتها، كان منظراً جميلاً ومدهشاً جداً لي، وأذكر أنني أمضيت ذلك اليوم كل الظهيرة وحتى مغيب الشمس، وأنا أتجوَّل من عنوان الى آخر، حيث لم أكن حتى ذلك الوقت قد عثرت على هذه الكمية المهولة من الكتب في مكان واحد، وكانت المكتبة التي أعثر فيها على “رجل المستحيل” و”ملف المستقبل” و”المغامرين الخمسة”، عبارة عن كشك صغير في السوق الكبير بمدني، يبيع في الأصل أدوات مكتبية ويضع في الواجهة مجلات “ميكي” و”ماجد” الجديدة، وعناوين قليلة من سلسلة كتب مصرية للجيب، وكان “الكشك” ذاك أيضاً مدهشاً جداً لي، حيث كنت أجمع مصروف المدرسة واقتصد جداً لدرجة الامتناع عن وجبة الفطور لأستطيع في نهاية الاسبوع أن أشتري كتباً ومجلات، وعندما عثرت على حديقة “وقيع الله” أغنتني عن ذلك الكشك الجميل الذي أتذكره الآن بمتعة كبيرة، ولايزال منظر المطر الذي بلل بضعة كتب وغسل الكشك في يوم ما، عالقٌ في ذاكرتي كلما تخيلت تلكم الأمكنة الزاهية.
(2)
كان مثقفو مدني الشجعان والنادرين يتراصون هناك على رصيف الحديقة، فكنت تعثر على محمد عزالدين بنظارته الطبية السميكة جالساً على كرسي من البلاستيك تحت شجرة عتيقة، واضعاًَ بين يديه كتاباً ضخماً وكوب قهوة وهو يتحدث مع أحد المشترين، وكان الشاعر محمد محي الدين صاحب “الرحيل على صوت فاطمة” وعشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر، والقاص أحمد الفضل أحمد والناقد جابر حسين ومجذوب عيدروس لايغيبون يوماً عن الشجرة التي أمام الحديقة ويجلسون فيما يشبه منتدىً يومي، وكان غريب بـ “موتره الفيسبا” غير بعيد يخرج بعض الكتب من جوال عتيق لسائل ما، وهناك “موسى” و”صالح” وسعيد، كلٌ قد حجز مكاناً ما، ويبيع ويشتري، وظلت الحديقة حتى يومنا هذا منبعاً يرفد ودمدني وجمهور قرائها.
(3)
ثم اكتشفت وبالصدفة المحضة أيضاً “المجمع الثقافي” الذي كان يربض في شارع النيل قبالة نادي الجزيرة، والذي صار فيما بعد قصر الثقافة، اكتشفت المجمع الثقافي في يوم ما وأنا أعبر شاعر النيل راجلاً، بفضول وتردد دخلت الى تلك الصالة الكبيرة والتي لاتزال صورتها محفورة في ذاكرتي، بتوجس سألت موظفة تجلس وراء منضدة منهمكة بفهرسة بعض الكتب عن هل يمكنني الجلوس في المكتبة والقراءة؟؟ ابتسمت وقالت لي مكتبة “الأطفال بي هناك”، ذهبت الى حيث أشارت، وجدت كتباً كثيرة ومجلات، أراني الموظف طريقة الاشتراك في المكتبة، طالبني بصورة وبعض البيانات والرسوم، ركضت الى المنزل فرحاًَ، عدت في اليوم التالي بعد الدوام المدرسي ومعي المطلوبات، ومنذ ذلك اليوم صرت حضوراً في المكتبة، حتى شكلنا فيما بعد جمعية أصدقاء المجمع الثقافي وأذكر كان معنا في الجمعية الصديق المسرحي والكاتب ـ فيما بعد ـ قصي مجدي سليم، والذي تعرفت عليه أكثر حين تزاملنا في مدرسة السني الثانوية.
بعد فترة قصيرة لم تعد مكتبة الأطفال مرضية لي، حيث كنت قد التهمت كل مافيها، ولم يكن المجمع يحدِّث كتبه بالسرعة المعقولة، فتسللت الى المكتبة الكبيرة والتي صرت أمضي فيها ساعات أطول، وصارت تمنحني جرعات أكبر، وتبلل شغفي الذي يكبر كل يوم تجاه المعرفة والقراءة.
(4)
والقراءة سفرٌ جميلٌ وفاتن داخل كثافة اللحظة الواحدة، وهي متعة أن تحيا الاف وملايين الحيوات في حياة واحدة، وبهجة التنقل بين خبرات ودروب ومعارف، ونزق، وأحلام، وغيوم، والام، ودموع، وابتسامات، وشجون، وأنت في ذات المكان بعد أن تكون قد تجولت في أمكنة كثيرة ومناخات متعددة، وتعرضت لتجارب ما كان لها أن تحدث في حياتك القصيرة أبداً، وعشتها بكل جوارحك، وكأنك داخل التجربة نفسها محكوماً بشروطها.
(5)
منحتني القراءة الكثير، وتعرفت فيها على محب وعاطف ونوسة ولوزة وتختخ والشاويش فرقع، وأدهم صبري رجل المستحيل، ونور في ملف المستقبل، كوكتيل “2000” بكل غرائبه، الشياطين الـ”13″، بطوط والأشبال سوسو، ولولو، وتوتو، ميكي وبندق، وزيزي، الذين كانوا يهرِّبوني الى عوالمهم الجميلة الشاسعة حتى أنسى وجودي في المكان المعيَّن، ماجد والنقيب خلفان والمساعد فهمان، عمك تنقو، صباح، عزو، نجيب محفوظ بفلسفته الكثيفة، جبران خليل جبران وأجنحته المتكسرة وسلمى كرامة، تنزهت في غابات مقدسة وسمعت أصوات الناي في هضبة التبت رفقة كهنتها الأسطوريين بطمأنينتهم الملائكية وحكمتهم المفزعة، تسكعت مع ثوار امريكا اللاتينية في أحراش شاسعة، وتجولت مع أبوالطيب المتنبي بين دمشق وحلب سيف الدولة ومصر كافور الإخشيدي، وعشت معه طموحه الملوكي وأحلامه المشرئبة، وعانيت مع أبوالعلاء المعري، وتنزهت مع الجاحظ، والخليل بن أحمد، وايزابيل الليندي وشخوص رواياتها التي تنضح بالحياة والحب والشغف والمعاناة، دولوز، وهنري لوفيفر، وبورخيس وكافكا، وسليم بركات بعوالمه الغريبة الباذخة ولغاته المتطاحنة الفريدة، غابريل غارسيا ماركيز وواقعيته السحرية المدهشة، خوان رولفو “العجيب” وكيف شيَّد مدرسة روائية كاملة برواية واحدة ونسفها وشيَّد مدرسة روائية أخرى برواية ثانية، وتعرفت مع عبدالهادي الصديق الى “أصول الشعر السوداني” وتسكعت مع علي المك، وصلاح أحمد ابراهيم، وتشارلز داروين، ومحمد المهدي المجذوب، والطيب صالح، وإنجلز وديالكتيكه المٌحكَم وكارل ماركس، والشيخ عبدالله محمد يونس وحاج الماحي بمدائحهم النبوية السامقة، وأجاثا كريستي، وحسين مروة ونزعاته المادية، وطفت مع سيغموند فرويد داخل النفس البشرية رفقة جاك لاكان، وقضيت ليالٍ طويلة أناقش إدوارد سعيد ونظرياته المذهلة في النقد الأدبي والفلسفة والاستشراق، وكان محمود درويش وقاسم حداد وأدونيس وكاظم جهاد، وأمل دنقل وعاطف خيري وهاروكي موراكامي يرافوقنني كل يوم من الجامعة الى الداخلية في المواصلات والشجر والأمكنة التي كنت أرتادها، وأسماء وأسماء لن أجد الوقت لكتابتها أبداً، منحتني حياتي، وشيَّدت نسيجي، وقدمت لي كل ما كنت أحتاجه، وأتوق اليه.
(6)
وأنا طفل تخيَّلت الجنة مكاناً واسعاً وأخضرَ، وبه الكثير الكثير من المجلات ـ التي كنت أتوق للحصول عليهاـ فقد عرفت حينها أنها مكان يمكن للمرء الحصول فيه على كل ما يشتهيه، وكانت المجلات كل ما أتوق اليه حينها.
والقراءة طبعاً جنة الأرض، وفردوس الخيال والذاكرة والأحلام، وهي موئل الطلاقة وبرية النزوع الى فضاءات شاسعة ببهاء الحرية ومباهج الحياة وأنساقها المذهلة.
* كاتب وصحفي من السودان