ثمار

فصل من رواية (خيانتئذ)

سارة الحاك

أعبرُ الأماكنَ، أحملُ أشواقَ المحبين، أدفعُ الطيورَ الذاهبةَ صباحاً، أناكفُ الغاديةَ مساءً، أحييها جميعاً وأحبها، أُسقطُ أوراقَ أشجارِ النيم الصفراء الذابلةَ، التي تُغطي المكان. أنا أفقدُ أوراقي الخضراء الزاهية كل شتاء، أستعيدُها في الصيفِ، أستورد ذوي الوجوه البيضاء السعّالة العطّاسة. أمي من الهند كانت خضراء، صوت حفيف أوراقي الباقية على أغصانِي يجرحُ الآذان، في كلِّ صباحٍ شتائي، أستعيدُ حيويتي من الشمسِ، أعيدُ حيويةَ من حولِي، أَستمدّها منها وأُمدُهم بهِا.
نحن في بياتِنا الشتوي، نستدفئ بترابِ الأرضِ، في كلِّ بدايةِ شتاءٍ، نحذو هذا الحذو.
أنا أرسلُ النسماتِ المحملةَ بندى قطراتِي من شرقِ المباني، كلّ يومٍ.
نحن نتفرق بإهمال، في منزل هنا، ودار هناك، يفصل بيننا مبنى، ثابتون بلا حراك.
خريرُ مياهِي المنسابةِ العذبةِ، يُغني الأُنشودةَ التي تُبشِّر بقدومِ الصباحِ الأبيّ، كذلك أفعل أنا، لما أرسم ابتسامتي الذهبية على وجه الرُوح. كلٌّ يؤدّي دورَه كما رُسم له.
هي ترفلُ بين شراشفِها في تلك الغرفةِ الطينيةِ المكسوة بالطوبِ الأحمرِ الدافئة. عبد الدائم صاحب الدكان في بدايةِ الشارعِ، يُعد المحلّ والمكانَ لاستقبال زبائنِ الصباح. حاجة خديجة بائعة اللقيمات تُهبِّب النارَ لتُوقدها، ودائماً ما يبدأ نهارها بالشجارِ مع عبد الدائمِ صاحب الدكان، الذي يتوعّدُها يومياً بالطرد من أمامِ دُكانه لكنه لا يفعل.
بس الفقر ده، والله إنت عار على أهلك.
تُلحق تعبيرها ذاك بصقة صغيرة؛ ذات طعم محايد، وتكشيرة مزدوجة من أنفها الأفطس.
عاجباني إنتي الفرحتيهم بالدكترة، تنبحي متل الكلبة النفساء، طيّرتي الراجل فات ليك الدنيا وما فيها؛ وصاقرتيني أنا، مجّججّجم.. حِكْم!! (تعبير يفيد التهكم).
السلام عليكم يا عبد الدايم كيف أصبحتو؟.
وعليكم السلام يا مولانا.
يأتيه من الداخل. يردُ عليهِ التحيةَ حاملاً كوبَ الشاي المُنكّه بالهبهانِ في يدِه، يضعهُ جانباً، بعدَ أن يرتشفَ منه رشفةً كبيرةً، مصدراً صوتَ تلذذٍ يعتبره مولانا من عدمِ الإتكيت، يشفطُ شفطةً أُخرى، يحكّ عجيزته؛ ثم يسأله عن طلباتِه.
الحديث مع مولانا يكونُ بنبرةٍ تختلف عن نبرةِ المشاجرة السابقة مع خديجة.
عايز شاي حب وسكر وصابون و.أصلو أمس ما قدرت أمشي السوق، قلت لي ست عواطف نقضاها ليك من عبد الدايم.
وهي كذلك، عدّلت من جلستها على البنبر، أعادت ثوبها للوضعِ المناسبِ للحديث مع مولانا ذي الحظوة لديهم، قبل أن تبادره بقولِها:
إزيك ي اود أمي إن شاء الله صباحكم أبيض.
الله يصبّحكم بالخير، الحمد لله كويسين، لكن قلقانين شوية عشان نتيجة سماح الليلة.
ما تقلقوا، كل سنة بتقلقوا كدي، وبتنجح.
عبد الدائم يتكلم مع زبونه ويبايعه في ذاتِ الأثناء، ولا ينفصلُ عن هلوساتِه الليليةِ، رقصاتُ بنات الفلاتة والبرنو، التي كان يُشاهدِها في زمانٍ سحيق.
هو لا يتذكّر مِن أين تسرّبت إلى ذاكرتِه؟
لكني أعلمْ، وفي الوقتِ المناسبِ سأروي لكم عنها. على كُلّ.
هو الآن يَتْوَسَّطْ دكانتهُ الطينيةَ العتيقةَ. لِهذا الدكانُ رائحةٌ مختلفة، رائحةٌ حميمة، تَتدَاخل فيها روائِحُ بِضَاعتِه المختلفة: زيتُ السمسم يختلط بنكهةِ طحنية الفول السوداني المطعمةِ باللوز، تُجاورهما جركانة زيتِ البذرةِ، كُلُّهُا تَقبع داخلَ صُندوق الخشبِ المغطى بغبارِ سنواتٍ خلت، تُمسك بهِ قطراتُ الزيتِ الهاربِ، من مواعين عَبّار الزيت، الرّطل ونِصفهُ وربعهُ، الرّوائِح المنبعثة من الصندوق، مع المُرْسَلة من الأرْففِ الخشبيةِ، من صابونِ حمّام سالي ورشا وروس والفنيك، صابون الغَسِيل أبو فيل والحمامتين، وصابون البُودرة فونا، مع روائِح البسكَوِيت في الأرففِ المقابلةِ، بركة وكمبال وحلاوة دربس وورق البرنسيس والسجائر وغَيرها من البضائعِ، كلَتلك المُكوّنَات، إضافةً إلى السقفِ الحصيري المُرتَكِز على شعبةِ السُنطِ الخشبيةِ، المثبت بخفجةِ الطينِ المعجونِ بروثِ البهائمِ المختمرةَ لأيامٍ، أرضهُ المفروشةُ بالرملِ، كلّ ذلكَ يجعل لدكانتهِ رائحةً مختلفةً، ارتبطت به؛ حتى لو رَأيته بعيداً عنها، تشتمُّ الرائحةَ من بين ثنايا عَرّاقِيهِ البلدي؛ المُخَيط من قماشِ الدموريةِ، عبد الدائم يفتخرُ بأنهُ لا يلبسُ من صنعِ الخواجات، إنما من صنعِ والدتهِ فاتلةِ القُطن، طويل التيلةُ ومنتوج الجزيرة؛ بالمُترار خصيصاً لعبد الدائمِ ومن ذاتِ القماشِ، يُفصل السرّوال عند مُحمدين التَرزي بالسوقِ الكبيرِ، هي أيضاً من تُطرزُ لهُ الطاقيةَ بالكُرُشِيه.
عبد الدايييم، عبد الداييم، عبد الدايم.
كان الصوتُ المهتزّ لوالدتهِ العجوز، حاجة السَيّدَة، تُناديهِ حتى يَهبْها مُرتبَها اليَومِي مِن السَجائرِ البحَّاري، سِيجارة الصباح، وما أدراك ما سِيجارة الصباح.
كُويس يُمة أنَّبَايعْ مَولانا.
إزيك يا أُستاذ، كِيفنْك، وكِيف عواطف بتي إن شاء الله طيبين، يا حِليلها وحِليل أُمها صاحبتي وطبيقتي.
الحديث السابق لوالدة عبد الدايم، ذات اللّون الأسمر المَشُوب ببعض الحمرة، والأذن المشلوخة ذات الثقب.
بين الدّكان والحوش بابٌ يستخدِمهُ عبدُ الدائم؛ لِكي لا يضطرّ للخُروج من الدكانِ للشارع حتى يدخل المنزل، أمام هذا الباب رَاكوبة من الحصير، مُثبتة بشعبةِ سُنط تُماثلُ التي في الدكان، تَتخذُها والدتهُ مُتكأ لِمؤانستهما خِلال اليوم، بها عنقريبان تَتَوسطهُما منضدةٌ حديديةٌ ذات ساقٍ وحيدةٍ، ورثها عن والدهِ الذي كان يعملُ بالنقلِ الميكانيكي، في الركنِ المقابلِ للدكانِ الغربي تَجِدُ المُستراح، بينما المطبخ جزءٌ من راكوبةِ حاجة السيدة، وبه منقدٌ ومجوزٌ ومشلعيبٌ، تُظلل الراكوبةَ نيمةٌ عتيقةٌ وُجدت قبل أن يأتوا إلى المنزلِ، هي وتلك المسكيتةُ البعيدةُ غرب المنزلِ وجنوب المُستراح، باب المنزل عديمُ اللّونَ ذو درفة حديدية يتيمة، يفتحُ شمالاً في ذات اتجاه الدُكان وإلى الغربِ منه قليلاً، يسوقك المدخل إلى الغرفتين الوحيدتين، غرفة عبد الدائم التي تُواجه المدخل، غرفة أُمه التي تُلاصقها في البناءِ وتُعاكسها في الاتجاهِ، لغرضٍ في نفسِ عبد الدائم، جعل اتجاه غرفة أمه يعاكس اتجاه غرفته.
معلومة: لحاجة السيدة صوتٌ غريدٌ كبلبل.
كويسة يا خالتي السيدة أمس ما كانت معاك؟
بري والله أظني أسبوع ما شفتها -بصوتِ عجوزٍ متقطعٍ، يَخرُج الرذاذ من فيها عديم الأسنان –
زارتها أمس يا مولانا لكن إنت عارف الوالدة خرّفت.
ما تعتذر يا راجل العمر ليه حكمه، والدتك دي والدتنا كلنا. قال ذلك بصوت هادئ فخيم ورخيم، وحكة خفية بيده اليسرى أسفل بطنه.
قلت لي الليلة نتيجة الدكتورة، زي كل سنة إن شاء الله.
لكن السنة دي مختلفة يا عبد الدائم، دي السنة الأخيرة.
والله بندْعي ليها صباح ومساء البت الرّاسية الهادية السلّامة، إن شاء الله الله يجبر خاطرها.
الكلمات الأخيرة لخديجة.
كيف أولادك يا خديجة ناصر الله ما هِدَا.
ناصر الابن الأكبر لخديجة، رُبّي تحت رعاية والده السِّكير العربيد، قلده في كلّ شيء حتى في ضربهِ وسبهِ لها، ربما لأنه تزوجها بعد أن قاطع مجتمعه؛ الذي رفضها لأنها سرِّية؛ وهي ما فتئت تُؤكلهما  وتُشربهما ولا تحثّهما على العملِ، هي لا ترى في السكر جرماً كحال هذه الأيام، لكنه مزاج يُكمِّل ذُكورة الرجل، ولها مبررها الشخصي الذي ستطلعنا عليه في يومٍ ما من أيامِ الروايةِ، ابنها يعمل فقط ليوفر ما يشربُ به الخمرة، على الرغمِ من أنه أخذ قسطاً من التعليمِ، يؤهلهُ للعملِ في أحسن الوظائف، لكنه لا يفعلْ، انتصار الثانية بعدهُ، زوّجت لأحدِ أصدقائهِ إخوان القعدة، رغم رفضها ورفض أُمها له، لكنه ألح وضربها، وأقنع أمه بأنه ذو مال، زوّجتها له وهي الآن تعيش الأمرّين.
الهادي الله يا مولانا.
نِعم بالله (الله يساعدك يا خديجة).
كانت تستدفئ بنارِ منقدها اللاهبةَ من زمهريرِ الشتاءِ القارس، لا تتلفحُ إلا بالثوبِ البوليسترِ الأسودِ الخفيف.
عبد الدائم متلفحٌ بشالهِ الصوفيّ المترور من قبلِ والدتهِ، التي تتغطى بفردتها القُطنية الدافئة المتشربة برائحةِ دخانِ الطلح. مولانا أحمد يرتدي البالطو الإيطالي، طاقية الصوف السوداء التي تغطي الرأس والأذنين، بتأنٍ وخطواتٍ ثابتةٍ، يقطع المسافةَ ما بين بيتهِ ودكان عبد الدائم المقابل له، يفتحُ بابه المتجه جنوباً، صييير تنفتحُ درفة الباب الحديدي المتحركة، ينسند هو على الثابتة، لونهما أزرق غامق، يقطع الحوش بذاتِ التأني، يقصد عواطف في المطبخِ قاطعاً الزقاق الطويل، فهو لا يحبُ أن يُزعج الأولاد بعبوره بالبرندة، حيث تتجه جميع أبواب غرف النوم، بما فيها غرفة سماح التي تتقلب في مرقدِها الوثير، الذي لم يُعنها دفؤه، ولا ستائرها المخملية المسدلة على النوافذ، التي تحجب عنها أشعة الشمس الصباحية، على النومِ، فاليوم هو اليوم الفصل.
سامح أخوها اللدود، الذي يستطيع أن ينام أربعاً وعشرين ساعة دون انقطاع، وهذا عادة ما يسبب له المشكلات في المنزل، فالجميع يعتبرونه الكسول، أما سماح فتتحاشاه، وهو طالما يناكفها رغم ذلك يحبها حباً لا مثيل له وهي كذلك، على غير العادة استيقظ قبلها؛ هي ليست نائمة لكنها تتناوم؛ هو يعرف ذلك, أثار جلبة في البرندة أمام غرفتها علمت أنه يعلم أنها مستيقظة، استجابت له، وسيييييك فتحت الباب الحديدي الفاخر بتثاقل، حيّته تحيةَ الصباح بذاتِ البُطءِ، كانت خالية من حيويتها المعهودة، نظر إليها وجد عينيْها متورمتيْن من أثر السهر.
فتش منظرها هذا حبه لها فقام ليطمئنها، مربتاً على كتفها: إن شاء الله خير يا دكتورة، سالمة وغانمة والله العظيم.
كانت عبارته تلك بمثابةِ البلسمِ الموضوعِ على مكانِ الألمِ
ابتسمت وقالت:
يسمع منك الله
لكن دي شنو الإنسانية الطافية عليك دي
لا لا بس حالتك تصعب على الكافر.
يا سامح، سامح..
نعم يا أجمل أم سامح في الدنيا..
تعال أدي أبوك الشاي..
هو يحدثها وصوته يقترب منها في المطبخ.
يا والدة خلي توديه سماح، أنا نمت؛ ما صليت الفجر مع الحاج، ح يسألني ويدخلني في سين وجيم وأنا صباحي قشطة.
قطعت سماحُ المسافةَ بين باب البرندةِ والحمامِ، في دقائق كأنها ساعاتٌ ضوئيةٌ، عبرتها معها نسماتُ الشتاءِ الباردةِ، أرادت أن تكون، برداً وسلاماً عليها؛ تطفئُ نارَ خوفها من النتيجةِ ومن النسيانِ، هي تخاف أن ينساها الأستاذ حسام بعد تخرجها، طالما حلمت بأن تُصارحهُ بحبها له، لكن حياءها وكبرياءها وخوفها من أن يردها، يمنعونها من أن تفتح له قلبها.
حسام
يا ربي أنا عاجباه ولا نظراته عادية، ممكن أكون بتوهم لكن كلامه وكل حركاته وسكناته، كلها بتقول إنه بحبني حتى إن كل الزملاء حاسين بكده.
كانت تديرُ حوارها ذاك، وهي تنظرُ إلى نفسها في مرآةِ الحمامِ، تتحسسُ شعرها الممشطِ ضفائر صغيرة، تحيطُ بوجهها وتنزل حتى كتفيْها، ممسدةً عُنقها الطويل الممتد من غزارتِه، هذا النوع من التصفيفِ لا يليق إلا بها، هكذا قال لها حسام لما حاولت أمل مُحاكاتها.
اسمه البوب يا أستاذ حسام، أنا بعمله لأنه مريح خاصة مع قرايتنا الكتيرة دي.
ابتسمت والتفت إلى الخلفِ، أحست أن أحدهم يراقبها، تأكدت من أنها وحدها، واصلت مناجاتها لنفسها، وتفرسها في ملامحها كأنها تراها لأول مرة، سمرتها المشرقة البراقة، ومضتها الآخاذة والتي لا تفارق وجهها.
–هذا أكثر ما يعجبني في الأنثى –
يوماً ما سمعت حسام يقول ذلك دون أن يوجه حديثه إليها، شفتاها القرنفليتان، لم تكن تعلم أن شفتيْها قرنفليَّتان حتى قابلت ذلك الطبيب الطاعن في السنِ، في المستشفى لما كانت مع والدتها في إحدى الزيارات الدورية للعيادة، ناداها بعد أن خرجت والدتها سألها من أيِّ القبائل أنت؟.
قالت من الجعليين.
لكن شفاهك القرنفلية المكتنزة هذه، شفاه كردفاليات، قالت: ربما.
بنفس هذه الربما أجابتها السيدة عواطف محمد عثمان والدتها، لما سألتها هل لنا جدة كردفالية، أجابتها بعد أن تكدرت وتغيرت ملامح وجهها (ربما)، منذ ذلك اليوم وكلما ذُكرت الشفاه، تتذكر قول الطبيب الطاعن في السن عن شفاهها، سمت كل مَنْ علق على شفاهها أو أحبها بأسير القرنفل، بذا كونت جيشاً من الأسرى تعرفهم هي وحدها أو بعض صديقاتها، عندما تتفاخر بجمالها السوداني الأصيل، ذلك الجمال العادي المربك المستحيل، الذي لا يدركه إلا من كان ذا علم بالنساء وماذا تعني كلمة جمال.
ما زالت سماح تناجي عمق ذاتها في مرآةَ الحمامِ، بالبجامةِ البنفسجيةِ المخاطة من قماش الكستور، تحبها لأنها الوحيدة التي تقيها من بردِ الشتاءِ الجافِ، البجامة البنفسجية ذات فتحة عنق واسعة، تُظهر عظام رقبتها، تحسست حنجرتها الخالية من اللّوزتين، تغاضت عن ذكرى الألم، وخرجت من داخلها التشريحي إلى الجمالي، إلى البيجامة التي تبين عظمي ترقوتها مما يدلل على رشاقتها، من ثم تنزل تغطي صدرها الضيق، ذا النهدين الممتلئين الواقفين بإباء وشموخ، يحرسان وبأمانة تامة ذلك الخصر النحيل، من كلِ ناظرٍ معتدٍ أثيم، فهو بعيد كل البعد عن كل خيال استصغره، لأنه أصغر، أما أسفله فيرجع إلى جمال ملكات النوبة القديمات؛ ولك أن تتخيل كيف كن.
تغاضت عن السواد المقيم عند ركبتيها منذ الصغر، لكنها بين الفينة والأخرى، تذكر أن سبب ظهوره هو حبوها على أرض صلدة قاسية لا تشبه أرض منزلهم الحالي، وتبدو مع هذه الذكرى أطياف لنساء كثيرات ذوات رداء أبيض كما اليونيفورم كن يلاعبنها ويهدينها من حنان لا يجدن من يهدونه له.
عادت من سياحتها التعريفية على جمالها، على نظرة خجلة تتوارى خلف عينيها، إذا ما رأت رجلاً قريباً أو غريباً أو مرَّ عليها طيف رجل أو تخيلته _أعني حسام_ عادت على صوت والدتها التي تناديها وتستعجلها، لتأخذ الشاي لوالدها الذي ما زال منتظراً، بعد اعتذار سامح عن مقابلته وجهاً لوجه، لأنه لم يصلِّ الفجر معه، أكملت إجراءاتها وقصدت والدتها في المطبخ..
تمام يا أفندم ورفعت رجلها ضربت بها الأرض، في ذات الوقت الذي رفعت فيه يدها اليمنى لتوازي بها حاجبها الأيمن، بحركة عسكريٍ متمرس.
خلي الفوضى، وأمشي لأبوك المنتظر من الفجر دا
أخذت الشاي وغنت له كعادتها
صباح الخير يالأمير يا الحبك شغل الضمير
علقت والدتها من المطبخ
البركة في سامح الغيَّر قلبه وشك في الصباح ده
مالك عليها يا أمها ما دام راقت
والما بروقا شنو إن شاء الله ناجحة ومنصورة، زي كل سنة
كوب الشاي في يدها وهي الجالسة يمين والدها الستيني الأشيب قوي البنية، ذي العينيْن الواسعتيْن النافذتيْن، بصوته الهادئ الرخيم وكلماته واضحة النبرات، لونه القمحي المسمر، قامته المديدة ببعض انحناء، خلفته السنين على ظهره.
تحبه كذلك وقبلاً لما كان أكثر شباباً كانت تتباهى في المدرسة مع صديقاتها، ومعلماتها اللواتي ما فتئن يتحدثن عنه وعن وسامته البادية لكل راءٍ، لكن عبارة ما كانت تحزنها لما تتردد على مسامعها، عبارة أنه لم يورثها شيئاً من هذه الوسامة، وكانت تجيب المرددين:
أنا بشبه أمي. وكن يجادلنها:
أمك محظوظة والله.
كانت تبكي وتخبر أمها، التي تتوجس عندما تروي لها ما جرى، لكن سرعان ما تعاود هدوءها، دون أن تلحظ الابنة ذلك.
مولانا أحمد عبد الرحمن أحمد هو والدها، تخرج من كلية غردون مطلع ستينيات القرن الماضي، من أبناء الأعيان في المدينة، أخذ حظه من التعليم كاملاً، ابتداءً من السودان واكتمالا بمصر، كان محامياً ضليعاً ثم قاضياً فذاً، أصغر إخوته لذلك لم يتحمل أي أعباء أسرية، حفظ القرآن في الخلوة، والحقيبة من عمه محمد عثمان والد عواطف زوجته، وأيضاً حفظ منه أشعار العباسي وود الرضي ومسادير البطانة، أحبه عمه، حبَّبَ ابنته فيه وحببه فيها. أُبوح لك بسرٍّ، هيا اصغِ إليّ: والد عواطف وزوجها كانا يعزفان العود في ليالي سمرهما السرية جداً في القاهرة، الليالي التي وإن تذكرها أحدهم كمنلوج داخلي يرتجف من أن ينكشف سرها.
على اليسار منه يجلس سامي كالعادة، هو ابنها البكر كان ييامنه منذ الصغر حتى كانت سماح، أزاحته عن مكانته التي يحب، قليل الكلام متعجرف، يفكر في نفسه فقط، يبغض سماح، ينتظر تخرجها حتى يكمل مراسم زواجه، هكذا قرر والداه، هو الآن ساهم سارح، يشرب الشاي بصوت مُنفِّر ينُمُّ عن عدمِ إتكيت، هذه المفردة مفردة عواطفية _ترددها حتى بات الجميع يستخدمها معها _ كأن لا أحد بجانبه.
سمير الثاني بعد سامي، لا علاقة له بما يدور حوله، يحيا لنفسه ولا يؤذي أحداً، يحب والدته كثيراً، دوماً ما يجلس جوارها كجلسته الحالية، هما الاثنان يقابلان المجلس سابق الوصف.
سامح هو ثالثهم، غير موجود الآن، لكنه سيلحق بهم حتماً فيما بعد.
هذا المجلس بشكلهِ الحالي أسسه والدهم وفرضه عليهم جميعاً، قرر ذلك وحدد مكانه هنا أمام المطبخ في العريشة حيث لا تلفزيون يشغلهم عن بعض، بعد أن لاحظ أنه لا يقابلهم إلا لماماً، وأحدهم لا يعرف ما يجري لأخيه. تصالح سامح وسماح مع الفكرة بينما وافق سمير وامتعض سامي. سمح لهم بوجود الراديو لأن عواطف طلبت ذلك، لكن حقيقة الأمر أنه لا يستطيع التخلي عن الراديو نهائياً، خاصة بعد أن أحيل إلى المعاش واقتصر عمله على مكتب المحاماة، وهذا أيضاً بات لا يتردد عليه كثيراً لأن سامي يديره بجدارة واقتدار.
سامي وصِّل أختك معاك الجامعة
هي ما جاهزة ح تأخرني كمان ح أغشى منى عشان أوصلها معاي
بابا بمشي براي بعد الساعة تسعة
كل ذهب إلى مكانِه الذي يريد، دخلت غرفتها الحبيبةَ، غرفة حبوبة السرة، ورثتها عنها بعد مماتها لم تغير شيئاً مما تحتوي عليه، أو تخرج غرضاً عزيزاً على حاجة السرة أم الست عواطف والدة سماح، تلك الحبوبة الحبوّبة، عاصرتها أم سماح كما يحلو لها تسميتها في آخر أيامها لكنها ماتت بشدَّها وعدَّها، دون أن تخرف كصديقتها حاجة السيدة والدة عبد الدائم صاحب الدكان، عواطف تُعزو ذلك لأن والدتها كانت تحفظ القرآن، فحفظها، بالغرفةِ سرير الدبل الكبير الوحيد، زمانئذ تباهت به السرة وبالكمدينو وبالشفونير، أيما تباهٍ فهي الفتاة الوحيدة التي لم يدخل عليها زوجها ويكسر العنقريب، لكنه أثار بعض خلخلة في سرير الدبل، ثم استعان بالخواجة متا صاحب الروببيكيا، في إعادته كما كان لأنه اشتراه منه.
حفظت القرآن عن جدها لأبيها الشيخ محمد محمود الجموعي، صاحب الخلوة في آخر الشارع، التي انقسم منها المنزل الحالي، لكن الشيخ وهبه لعبد الرحمن أحمد جد سماح لأبيها لمودة تربطه به، لتلك المودة أيضاً زوجه حفيدته السر.
مرآة غرفتها المثبتة في درفة الدولاب الثانية من الاتجاهين تقف بطولها تغطي كل الدرفة، لتمكنها من رؤية طلتها الأخيرة كاملة قبل أن تخرج، مما يزيد ثقتها في نفسها، لا سيما تلك اللمسة المهمة التي وبدونها تحس بالنقصان، رشة العطر الباريسي المميزة لها من بين كل زميلاتها، اهتمت سعادتو عواطف بأن تورث ابنتها كل معارفها، ومن ضمن تلك المعارف، ورثتها حبها للأناقة والعطر والحقيبة اليدوية من أهم ما تركز عليه والدتها من كثير، هيي اسمعني وانتبه، كانت تركز عليهما لأنهما يلفتان انتباه حبيبها وابن عمها أحمد عبد الرحمن، أبيها من وشى لها بهذه المعلومة؟.. المهم نظرت إلى نفسها النظرة الأخيرة قبل الخروج، حملت حقيبتها، أخرجت زجاجة العطر الفرنسي الفاخر، رشت رشة، ضحكت عواطف التي كانت تظن أنها مكتئبة من انتظار النتيجة، ضحكة مفادها أنها اطمأنت عليها.
هي لم تكن كذلك، كان لسان حالها يقول:
أنا حزمت أمري
هذا آخر يوم سوف أقابل فيه حسام بصورة رسمية، إلا إذا عُينت معه في ذات الكلية وذات القسم، هذا يعني أن أحصل على المرتبة الأولى، تدخلت أنا وهمست لها بذلك في أذنها، اليوم سأحسم معه الأمر.
يا ماما يا بابا أنا مشيت.
الله يهون عليك با بتي.
بصوت خفيض داخلها رددت: (الله يقدرني وأتم تربيتك وأعرس ليك، وأوصل أمانتي).
بفخامة ذلك الصوت وبحنينه الذي لا يخرج إلا لها ودعها أبوها، رافقاها من داخل البرندة، مرا معها بالحوش والنيمة العتيقة، أجل مروا بي ودعوت لها بالتوفيق، كثيراً ما كانت تنزل أغصاني البالية، وتسقيني إذا عطشت، لعبت تحت ظلي مذ كانت في المهد، الله ينصرها.
يا جماعة أرجعوا
ورجع الجماعة أمها وأبوها، النيمة العتيقة، ودعوات حبوبة السرة عادت من ذاكرة المكان لترافقهم وهم يزفونها لنجاحها.
صباح الخير يا عبد الدائم، بعد أن أخرجت رأسها من خلف الباب الموارب.
أهلاً يا ست عواطف
بصوت رقيق مفعم بالحيوية، حيته سماح
صباح الخير يا عمي عبد الدائم
صباح النور على البللور
لم تكن حاجة خديجة بائعة اللقيمات هناك، ذهبت بعد أن باعت رزقها، وأنهت شجارها الدائم مع عبد الدائم لهذا اليوم، كفراشة عبرت الشارع الملتوي والمتعرج المرتفع من أمام دارها والمنخفض عند بدايته، ينخفض حتى الروح الذي أرسل لها نسماته الصباحية، حملها ابتسامة الشمس التي رسمتها على صفحته عند الفجر، جميعا حيوها وتمنوا لها النجاح والتوفيق.
عليك الله شوف عود البنية دي كان خلتو يتملي حبة.
ردد عبد الدائم تعليقه هذا بينه ونفسه، هو لا يدري بأني حاضر هناك داخله، إلا لما سألته عما قال:
سب عليك يا الفقر إنتي حتى جواي في. ضحكت وتركته.
لأخبركم بما يدور في خلد سماح، الامتحانات مضت ولن أغير فيها شيئاً غير أن أتمنى النجاح، أما حسام فهو الآتي.
في مدخل الحي بعض المتاجر وموقف المواصلات الكبير، المسمى (الشهداء)، منه تبدأ رحلتها إلى الجامعة، يومياً ولخمس سنوات مضت، خيطت الطريق جيئةً وذهاباً وحدها ومع زملائها وصديقاتها، في أوقات متفرقات من اليوم، في الصباح وفي الصباح الباكر، عند منتصف النهار، في المساء، وعند ساعات متأخرة من المساء حتى الليل، مرات قليلة كان حسام معها.
استقلت الحافلة وفي وقت الذروة ذاك، امتلأت دون أن ينادي الكمسنجي، اتخذت مسارها في الإسفلت، اتجهت جنوباً، حيث مستشفى أمدرمان، هنا ماتت حبوبة السرة، انخرطت شرقاً، تقابلها الشمس هي تجلس في الكرسي الأمامي للحافلة، ثم جنوباً تركت معهد القرش خلف ظهرها، لتجد المرور على يمينها، أنا الذي أرسم الطريق هي شردت بعيداً، لم ترَ كل المناطق السابقة، إلا هذا المكان تربطه بها صلة ما لا تدريها، سجن أمدرمان على يسارها، عادت إلى المكان والزمان الحقيقييْن، نظرت ناحيته حيتها تلك العصفورة بتحيتها المعهودة، التي تسمعها وحدها دون غيرها، يراها الجميع لكنها تسمعها وحدها تسمع لحنها الشجي الحنون، لا تخطئه أبداً، مذ أن وعيت بالعالم وهذا الطريق هو دربها اليومي، ذهبت به إلى الروضة، إلى المدرسة الابتدائية والمدرسة الثانوية والآن الجامعة، حتى في العطلات، تمر بهذا الطريق وترى اليمامة هذه، تسمع هديلها بل وتردده معها، إن تقابلتا ذات صفاء.
هي لا تعرف أين يقع مسرح البقعة، لكن للعلم فقط هو يقابل سجن أمدرمان من الناحية الغربية، إلى الشرق وأنت تيمم وجهك شطر البحر، ترى الإذاعة والتلفزيون، المسرح القومي وأشياء أخرى في تلك الأنحاء، جامعات ومستشفيات ودور حكومية، بوابة عبد القيوم أحد رموز الثورة المهدية.
رائحة تلك المناطق سمك، سمك نيِّئ، سمك محمر، سمك مشوي، زفارة قشر السمك، رطوبة، عفونة نختلف ونتفق في وصف رائحة تلك المنطقة، لكنها من سماتها الأزلية، منذ أن وجدت واتخذها الصيادون مورداً، يؤمها الناس من كل الجهات ليتعرفوا على من خلق السمك، وأنواعه وكيف يتم اصطياده وكيف يقدم للأكل، ما زلت هنا أرافقكم كدليل سياحي، انظروا هذه الطوابي التي استعملها الأنصار لمحاربة المستعمر الإنجليزي، كقلاع في حروبهم مع ذوي الوجوه البيضاء، السعالة العطاسة، الذين هزموا من قبل مندى بنت السلطان عجبنا النوباوي، في قصة المفارقة التي كتبتها في وقت مضى. وصلت الحافلة التي تقل سماح إلى كيلو عشرين أو قصر الشباب والأطفال كأبرز معلم أقيم في المنطقة، جنوبه أزيلت بعض المقابر التي دفن فيها أهالي أبو سعد وأقيم على رفاتهم مستشفى السلاح الطبي العسكري، عنده يدير السائق مقوده يساراً يقصد كبري نهر جيجون، بمساراته الثلاثة، مساران خارجيان بطرفي الكبري، أحدهما يدخل الآتي من الخرطوم وهو المسار اليسار، الأيمن يسوق قاصدها إلى مدخلها، مفتوحان على السماء دون حجاب، المنصف لهما به سقف واحتياطات الأمان به أكبر، تركنا كيلو عشرين وما يقف عليه من أثر خلفنا.
أنا أتراقص في زجاج العربة الأمامي، تنعكس أشعتي في عيني سماح، أخطف بصرها، تتبعني به، نرقص أنا وهو رقصة البجع على سطح البحر، نبدو كملاكيْن صغيريْن ذهبييْن، نتبارى في الرقص، تنقطع أنفاسنا، نستريح على الشاطئ الشرقي لنهر جيجون، سبقنا سماح والحافلة، وقفنا نستقبلها عنده، دعونا كل أشجار الشارع، لتقف بجانبي الطريق، ظللنا نصفق لها بحرارة ونهتف باسمها، أُعجب منتزه المقرن بموكبنا، وقف هو وأشجاره الضخمة وألعابه المثيرة لعجب الأطفال، الساقية التي يسرق على متنها العشاق القُبل، عياناً بياناً دون أن يعترض أحد، ربما بدورانها هذا ينفلتون من المدار أو الرقيب، وغرفة الأشباح، أخرجت أشباحها التي اصطفت بأخلاق ملائكية، تستقبل سماح لحظة دخولها للخرطوم، استحالت الحافلة إلى حنطور ملكي يقوده سائق الحافلة، نزل جميع الركاب، صارت النساء منهن وصيفات، انضم الرجال إلى فرقة الحرس، تمدد شعرها من كتفيْها حتى آخر ظهرها، تمطت الطرحة الصغيرة لتكون وشاحاً مغربياً مُهدى من ملوك الجن هناك، إلى مليكة الإنس في أرض السودان، تغطت البلوزة والإسكيرت، بعباءة خليجية ضيقة عند الصدر، مخصرة الوسط، ذات ذيل من الذهب الخالص، بعثت بها لها إحدى أميرات الكتابة الخليجيات، لما قرأت نصاً من نصوص سماح العجيبة، أخرج المتحف القومي كل ملكات النوبة القديمات، أهدينها من حليهن النفيسة، حتى الكنداكة أهدتها وعاء العطر المروي المُخَصِّب على شكل زهرة اللوتس، باركتها أماني شخيتو التي تحارب سرقة الآثار التاريخية الحاكية عنا وعن ثقافاتنا القديمة، أنا شخصياً لا أدري كيف تحورت شخصية سماح لملكة بين سطر وآخر، لا أستطيع إسماعكم صوتي لأن موسيقى القِرب تقترب، تتنافس مع أصحاب الكيتة على من يستحوذ على أكبر عدد من السامعين، بنات الأمبررو بنهودهن العارية وأعناقهن المشرئبة، تحتضن السماء تنزل منها عقود السكسك، كحبات مطر، يرقصن، تطير الأجساد عالياً، تضرب الأقدام الأرض، ترسم الرحوط لوحة سريالية، تتخذ من الأشجار بظلالها ورقراقها خلفية مذهلة، الموكب يكبر، تنضم إليه كل فئات الشعب، عبد الدائم صاحب الدكان يسقي الناس اللِّويزو، حاجة خديجة تطعمهم الزلابية، الشماسة، الشعراء والجوعى وأبناء السبيل، تضمضمت الحقيبة اليدوية، صارت اسطوانية، تصولجت حتى تحملها سماح في يمناها لتحيي بها الشعب المنصور بمليكته، عفت عن المجرمين الذين في السجون، أمرت أن لا يكون بمملكتها جائع، فتحت كل المخازن والصوامع والمطامير، وزعت الأموال من بيت مال السودانيين، بعد أن أخذه خزنتها من اللصوص السارقين، قدمت صديقتها اليمامة فاصلاً موسيقياً بمسرحِ قاعة الصداقة، أبطال الأفلام الهندية اصطفوا ضمن الجاليات المحبة والصديقة، فُتحت بوابة القصر الجمهوري للموكب الملكي، عبر به عبور الذي لا يرى ما يلفت انتباهه، اهتزت أرضه تحت من يقطنونه والقائمين على أمره، انتفخت بطن الغول وداعب أنفه عطر سماح السمحة، لكنه فقد العجوز المنحوس أم منخاراً زيَّ الكوز، يوماً ما ستنفجر بطنه الكبيرة بعد أن تتقيح جروحه وتضحك عليه مندى بنت السلطان، الموكب يقصد جامعة الخرطوم العتيقة، ليشارك سماح فرحة نجاحها الميمون، وقفت والدتها يمينها على بعد شخص، تركت بينهما فراغاً. عينان في مكان ما كانتا ترقبان هذا الفراغ، والدها يسارها مباشرةً، هذا الطريق الذي سلكة موكبها.
أما شارعنا اليومي فينتهي بالسوق العربي موقف أبو جنزير غرب الجامع الكبير، في الشمال الشرقي أراك هوتيل، الجنوب الشرقي مجمع الأوقاف، مكان طباعة البحوث وتصوير المذكرات، مراكز خدمات تقدم كل ما يحتاجه الطالب الجامعي، إلى الشرق المباشر للجامع، موقف مواصلات بحري، كافتريات تقدم الوجبات السريعة، كانت لنا مؤتنساً ومجلساً، نستقلها وبشارع الجمهورية نمضي إلى الشرق حتى نصل إلى الطريق المؤدي إلى الجامعة، نعبر أمام داخلية الأولاد التي تقفل شارع كلية الدراسات الإنمائية، هكذا يسميه الطلبة لست طالباً لكني أرافق سماح، دخلنا من البوابة الجنوبية المقابلة للشارع، سبقنا الموكب كنا في انتظاره مع المنتظرين، وقفت مسلة عبد الفضيل ألماظ تنظم الناس حتى تتمكن الملكة سماح من العبور بحنطورها الملكي المسحوب بخيوله العربية الأصيلة، استأذنت الملكة، وقف الموكب، أسرت لسائق الحنطور في أذنه، أن عليه الاتجاه جنوباً حتى يقاطع شارع الجمهورية، ثم شرقاً ثم شمالاً، لأن شارع الجامعة أحادي الاتجاه، وصلنا الموكب، والتقت السماح الملكة بسماح الطالبة اندغمتا، لا حول ولا قوة إلا بالله، لكم أتعباني.
عند مدخل الجامعة لملمت كل ما أملك من قوى، قرأت كل ما أحفظ من تعاويذ، سألت الله العون، ندهت كل شيوخ حبوبة السرة، يا الشيخ خوجلي أبو الجاز، وحمد ود أم مريوم، إدريس ود الأرباب، حسن ود حسونة، ويوسف أب شرة، إلخ، ناديت شيوخ زار حاجة سيدة الحبشي والخواجة واللولية، كل هذا طلباً للنجاح، لا تتخابث علي فأنت تعلم لماذا أناديهم، كل هذا لتصارحي حسام بحبِّكِ المعتمل بقلبك منذ سنين، أثرتِ شفقتي، سأقوم أنا عنك بهذه المهمة، لا تقلقي لن تجرح كرامتك ولن ينثني احترامك عنده، لكن لنتأكد من النتيجة الآن. تثاقلت خطواتها وبردت أطرافها، وتصبب عرقها رغم الشتاء، صارت المسافة بينها والبورد أميالاً مملينة كالسودان قبل الانفصال، جف حلقها، خلا الكون حولها إلا منها والبورد، وصلته، كانت مطأطأة الرأس، رفعته، رأت حسام، غامت الدنيا، أمام ناظريها، ووقعت ممددة على الأرض، لم أصلها لأن ساعدي حسام استلماها، وددت لو أستطيع مساعدتها لكني صوت فقط، يالله أين صديقاتها، ها هي أمل، اخرجي قارورة العطر الباريسي الفاخر من حقيبتها، أخرجتها ورشَّت منها على منديل كانت تبحث من أين يأتي الصوت -مالها ومالي عليها بصديقتها- لما شمت العطر أفاقت، ولما رأت نفسها بين أحضان حسام، أغمي عليها مرة أخرى، ومرة أخرى استعانت أمل بالعطر. أفاقت.
ظن الجميع أنها فرحة بنجاحها ونيلها الدرجة الممتازة، وكان حسام هناك ليبارك لها التفوق و.
إلا أنها.
أنا وأنتم من يعلم لماذا أغمي عليها.
بعد التهاني والتبريكات، وبعدما ذهبوا إلى الكافتريا، دعا حسام الجميع على نخب النجاح في الكافتريا الجديدة الفارهة المطلة على النهر، تفرق الأصدقاء على المناضد وظلا وحدهما، هامت بعيداً، ناداها: سماح سماح. لم تعد من غفوتها تلك، لمس أصابعها بحنوٍّ، في المرة الأولى لم تجبه، أعنته، ناديتها هامساً في أذنها: استيقظي حسام يكلمك.. عادت نعم أنا آسفة.
أين كنتِ؟
لست بعيدة
كنت عند شاطئ عينيك. أهالته إجابتها.. كيف وصلت؟
لا أدري؟ لكني وصلت
بالله عليك خبريني
تسلقت أهدابك القوية المتراصة هذه، سوادها أعانني على التخفي من بؤبؤ عينيك، متلصصة كنت على من يقبع داخل هذه العيون العسلية الآخاذة التي تسلب القلوب، للأمانة كانت المساحة ضيقة لكني تسللت، وجدت رمال بنية تحيط بواحة عسل نقي، كادت أنفاسي تنقطع ويدركني العطش لولا ارتشافي رشفتين من عسل الواحة
غافلتك أليس كذلك؟.
لم تتخفَّ من بؤبؤ عيني، رأيتك ولكني أردتك أن تواصلي المسير، أنا من أذنت لك بذلك.
هل أفلح تلصصك؟
نعم علمت من يسكن في ذاك الشاطئ المخملي – كان يحضن أناملها بين أصابعه، أصابتني بعض الغيرة لكن.
من؟
يكفي أني علمت
والآن ما رأيك؟
الرأي لك.
أنتظر إجراءات تعيينك كزميلة لي في القسم، وعندها تصبحين ذات رأي لدى أهلي وأهلك، لأن للعمل قدسيته، وعندها أتقدم لخطبتك بشكل رسمي، لترتسم لوحة زاهية لمستقبل مشرق.
بعثت بها كلماته إلى عوالم وردية، حسام الشاب الوسيم طوله نخلة باذخة، ثابت كطود، أسود كعود الأبنوس، ذو صوت عميق يبعث به إلى روحها مباشرة، يزيل حواجز المسافة والأذن وطبلتها والمخ.. ليصل من روحه إلى روحها، تتخاطب نيوترونات الأرواح الخفيفة؛ بلغة ليس كلغتنا اليومية المدركة، تتحدث بلغة الله، لغة الحب، لغة يمثل الحرف فيها ألف معنى ومعنى، تسابيح
تراتيل
ترانيم
ياه.
الآن فقط تنفست الصعداء، هدأت روحها المتعبة من طرح الأسئلة وتوقع الإجابات، لم تعد تتهجس من مقابلته، لن يغمى عليها إن وجدت نفسها بين أحضانه، خرجا ويده تحتضن يدها، دفء بحثت عنه كثيراً، لم تجده إلا الآن، كان موكبها الملكي ينتظرها ليحمل الخبر الأكيد، إلى أهل الديار، إلى أمدرمان، لقصر الشباب والأطفال، بوابة عبد القيوم، الطوابي، المهدي الإمام والأنصار، الأسماك الموردة والعباسية وحي الضباط كلهم، الروح بنسماته الصباحية، اليمامة الهدالة، ميدان الشهداء بشهدائه وسياراته وكمسنجيته، دكان عبد الدائم الذي تركه ليلحق بالموكب، عنقريب حاجة السيدة، النيمة العتيقة الرؤوم، غرفتها الطينية المكسوة بالطوب الأحمر، الستائر وسرير الدبل، الذي ما إن استلقت عليه حتى بارك لها نجاحها، ضمها بحنو ثم بارك لها حبها، كل من مرت عليه، ضمها مثله حتى الفراغ الكائن بينها وأمها الست عواطف فعل ذلك.
ترتبُ الجامعةَ رحلةً سنويةً لطلابها المتميزين، يزورون فيها مدينةً من مُدنِ البلادِ المختلفةِ، في اليومِ المحددِ، تجمعوا عند محطة السكة الحديد بالخرطوم بحري، ركبوا القطارَ المتجةِ إلى الشرقِ، استغرقت الرحلةُ بِضعاً وعشرين ساعةً، مررنا أثناءها بشندي ديار المك نمر، وعطبرة بلد الحديد والنار، ومسمار محطة صغيرة من محطات السكة الحديد، وهيا المينة الموحشة، وجبيت الحامية العسكرية، وهي من أهم مراكز تدريب الجيش في السودان، منها دخلنا مدينة بورتسودان، مر وقت ليس قليلاً بعده، كنا نُنزل متاعنا ونستعد لإقامةِ مؤقتةٍ، ضيوفاً كراماً على مدينة كريمة.

طابَ لهُ المُقامَ بين فخذيها المتباعدين بفجورِ غراء فرعاء مصقول عوارضها، لا تمشي لأن حياتها تنقضي إن غادرته.
منذُ متى وهو مقيمٌ هنا؟
أَظنهُ منذَ أن انشقت الأرضُ واتخذَ الماءُ إلى نفسِه سبيلاً في الأخدودِ، وسمي ببحرِ القلْزم، كانت هي مدينة داعرة، تستقبلُ الذاهبَ والغادي من كلِ بقاعِ الدُنيا، من الهندِ الأقصى إلى أقصى غربِ الصحراء، من فاسِ الما وراها ناس، دون أن تُغفل الشُّوام والأغاريق واليمانية الذين قصدوها عبر البحر، هو من حُراسها وسدنتها، أتوها متاجرين وسائحين، وضعوا بصماتَهم عليها وعلى ساكنيها، اختلفت عن كلِ مُدنِ أرضِ السودِ، تعالت عليهم لأنها الوحيدةُ المطلةَ على البحرِ، الميناءُ الأوحدُ، بانت على قسماتِها ملامحِ المُدنِ الساحلية مدن الشواطئ والحكايات.
ألا ترون أن اليابسة تحنو عليها، حنو الأم المرضعة على رضيعها المدلل في مهده، ترضع لتَشبع هي وتُشبع أمها الأرض الرؤوم، التي تحيطها بسلسلة جبال دائرية، تحبها وتحميها.
أنا أقول إنها طَفلةٌ داعرة بينما سماح تصر على أنها طِفلة مدللة، لا فرق، لأنها في كلتا الحالتين جميلة، لون البحر أزرق يتدرج لونه حتى يكون أسود، لكن الماء سائل شفاف، ألا يشمل هذا التعريف ماء البحر؟.
بلى، لكن البحر يعكس زرقة السماء التي فوقه، وتسهم طبقات الأرض تحته في تدريج زرقة السماء على سطح البحر، لذلك يبدو لكم كما ترونه، بُهرنا به كثيراً.
غاص ماجد في أعماقه وهو يقف على صخرة قرب الماء، تتحطم على سطحها موجات البحر، الشمس تداعب سطحه، تغوص داخله، إلى أن تتلاشى شعاعاتها، تحاول ذرات الماء فعل ذلك، عندما تعلو مع الموجات للحاق بالشعاع والوصول  به إلى حيث الشمس لكن هيهات، فتعود خائبة، تضحك عليها الشعاعات، يلتقيان عند قدميه، اللتين أصبحتا صافيتي اللون بفعل ذلك التلاقي، خرج من أعماقه وغاص في أعماق البحر، ثم خرج صوته من عمق جب بعيد سائلاً:
عارفين البحر ده بشبه شنو
أها قمنا لي عينك الحارة دي
مالكم البحر بنشف كمان
ما حينشف، بشبه شنو؟
بشبه توب الشيفون
لا إله إلا الله –كان التعليق السابق لحسام–
أخيراً نطق حسام، خاصمني بالأمس لما جلست مع ياسر، بعد أن هرب منه الجميع من أحاديثه الفارغة، كما أن الجميع تشاءموا منه، مضى برنامج رحلتنا كمت اتفق عليه، حتى لحق بنا، نفقت مؤنتنا، انقطع اتصالنا بالجميع، سادت الفوضى المدينة، من كل ما سبق، تأكدت من أن استبعاده من مجموعة الرحلة لم يكن من فراغ.
حسام يفهمني أكثر من فهمي لنفسي، لكنه من وقت لآخر يدعي عدم فهمي، ويختلق بعض الإشكالات، أنا لا أثنيه عنها ـ ربما احتاج لأن يبعد عني قليلاً.
وصلنا بورتسودان منذ يومين، ومنذها وأنا أحس شيئاً ما يجري في دهاليز روحه، فكرت فيه وتساءلت عنه، قلقت عليه، لكن عند سماعي لصوته مهللاً، بعد سكوت دام طويلاً، معلقاً على تشبيه ماجد، أثلج صدري بعض الشيء.
سماح سماح، نادتني أمل صديقتي الحميمة الرزينة، قلما نتفق في الصفات، شعرها خمري مسترسل، متوسطة الطول، تصلِّي بخشوع، وتخاف أن تسأل لمن تخشع ولم، تخاف الأزقة والكلاب، تحب محمد، تشفق عليَّ من عفويتي الشديدة، تحايلنا عليها وعلى ذويها لتنضم إلى مجموعة الرحلة.
مالك سارحة وين؟
لالا بس البحر سرقني
أخاف أن ألتفت يوماً ما فلا أجدها، فهي نسمة مشاغبة حبيبة إلى نفسي، لا تهتم للصغائر لكنها ناصحي الأمين في المواضيع الجسام، تستعين بالله من فترة لأخرى، أظنه يحبها لأنها تحب الناس ويحبونها. سابحتان في تفكيرهما، أمسكت كل منهما كف صديقتها ومددتا الخطى على الشاطئ الرملي، تلمستا جماله بأقدامهما الحافيات، في ذات اللحظة تصاعدت رغبتيْهما في الحديث، وتفوهتا قائلتين:
بتفكري في شنو؟
-أجابت أمل- أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي، اشتقت إليهم.
رغم أنك فارقتِيهم ثلاثة أيام بس.
لكن دي أول مرة.. ما تضحكي فيني، وما تستخفي بي.
عارفاني ما أنا البستخف بالناس.
طيب ليه بتستخفي بمشاعر حسام؟
لم أستخف بمشاعره، كل الذي جرى أني تصدقت على مسلم بصدقة، جالسته لما فر منه الجميع، أهذا يوقف الدنيا ولا يقعدها؟
ربما احتاجك في تلك اللحظة بالذات.
أتظنين ذلك، تداعت تلك الكلمات قاصدة أذن أمل، بينما ركضت هي قاصدة حسام ورفيقه اللذيْن كانا يتجادلان.
دوماً أنت لا تثق بالنساء وتعاملهن كأعداء، مرات عدة، تناقشنا في هذا الموضوع، وفي كل مرة ينغلق باب الحوار بيننا، وأنت لا تغير قناعاتك الخاطئة تلك.
لماذا لا تجيب علي؟
لن يجيب عليك –سماح.
أنت تعلم ذلك وتصر على مضايقته، أتيت حتى أعتذر، أظن أنني أخطات.
أمسكت يده وسارا، في الطريق المعاكس من الشاطئ، تركت أمل خلفي دون أن أنذرها بحركتي لا أحتاج لاستئذانها فهي تعلم.
رعشة سرت في قلبي لما أمسكتني، حاولت ردعها وإثناءها عن احتياجها لي، لم تعرني اهتماماً، انسربت عبر أوصالي، خدراً لذيذاً، تراص في صف منتظم، امتد من قلبي حتى أطراف أناملي، تدفعه الرعشة، آمل أن لا تصلها.
عبثا ً كان يحول بيني وبيني داخله، كنت أبعث له بالتحايا والحب، أخبرته عن النعمة والدعة، التي أعيش فيها داخله، وكيف أنه يرعاني، ويعتني بي ولكنه يجتهد في إبداء عكس ما يحدث، تصاعدت رعشته دافعة بالخدر اللذيذ، خارجاً من أنامله منتقلاً إلى أناملي في حركة أيونية، اجتذبتها النواة عندي، وصلت بها إلى مركزها، تكاثف إحساسي بها ومضت، غشا الوميض عيني، غافلني هرب عبرها إليه، هزمني داخلي، هزمته داخله، غفر لي تأبَّطني، تذكر رفيقه الحانق على النساء، التفت إليه، بدا له شبحه سراباً..
عبرنا الجسر الإسمنتي الممتد داخل الماء كلسان، ألفينا أمل ومحمد عند نهاية الجسر، وصلا دون أن ننتبه لهما، كنا نتبادل نخب الغفران.
هذا الجسر نشاز هنا، لأنه مصنوع بيد مخلوق، أرى أن لا يتدخل المخلوق في صنع الخالق مقلداً.
ألم يضايقكن؟ بل يضايقنا فمثلاً، أنا كنت جزيرة مرجانية كبيرة وجميلة، اغتالوني وأزاحوا عني أخوات حميمات، ليحل محلهن هذا الجسر، يقتلون الأحياء ليقيموا جسوراً، تضاءلت وانكمشت إلى قلب البحر، بعيداً عن شعاع الشمس، التي كانت تمدني بلوني البرتقالي المقرمز هذا، ترونه باهتاً لم يكن كذلك لولا تدخلاتهم، حاولت جاهدة الحفاظ على المتبقي منه.
بحثنا عنها لنساعدها ونمدها بما تتحتاجه من ضوء، إلا أن عبورنا للماء حتى ندركها، يكسر أجزاء كثيرة من درجة لونك الذي تحبين، لكن يمكننا إكسابك اللون الأخضر تحت الماء، سيكون مشعاً ويكسبك بهاءً وليلعن الله المتدخل في صنعته، أرى أن أشاور بقية المرجانيات، حتى يوافقن وإن وافقن سأعلمكن لتمدونا باللون الذي تستطيعون.
تتلاطم الأمواج عند أقدام محمد وأمل، اللذيْن يسندان وجهيهما إلى كفيهما، المسنوديْن إلى رجليهما، يتابعان حوار المرجانيات مع أشعة الشمس، يسمعان أصوات بعضهما بصمت، عند نهاية اللسان، سماح وحسام في بدايته ينظران للشمس بجلال كجلال العابد لمعبوده، استحالا إلى تمثال فرعوني قديم، أشرف البائس فاقد الثقة في النساء يبدو من بعيد كهلام، يسارهم ياسر المتشائم، يتلازج على حنان، التي تعاني كساد سوقها هذا الصباح، لذلك لم تجد بُدَّاً من ملاطفته، في البناية الحصيرية، خلف ماجد الواقف عند الصخرة يمتد الشاطئ برماله الناعمة الرطبة، البحر ممتد إلى ما لا نهاية، الشمس تعلو الجميع، فجأة يشق صوت سارية الآفاق، تصرخ وتنادي الجميع وتلوح بورقة ما.
أنا سارية من بورتسودان، كنت أؤَمِّنُ زيارة المجموعة لمنزلنا، أقيم يوماً في الاستراحة، ويوماً في منزلنا، أنا دليلهم السياحي في مدينتي، ناديتهم بصوتي العالي الأجش، ماجد، حنان، ياسر، أشرف هيا اقتربوا، لماذا أنتم بعيدون؟ انزعجت السمكات الصغيرات في الماء، أثرن حركة احتجاجية، وباغتن أمل وعضتها إحداهن في إبهام قدمها الأيمن، صرخت، رفع محمد قدمها مستطلعاً الأمر، وجد احمراراً طفيفاً، واساها، اجتمعنا جوارهما، كنا عشرة شباب وست شابات، لا يمكن التمييز بيننا من ملابسنا، لأننا جميعاً ارتدينا البناطلين الجينز مع التشيرتات القطنية الفضفاضة، لأننا نستقل اللوري في ترحالنا، أتيت وفي جعبتي تصريح الزيارة إلى مدينة أركويت السياحية أعلى العقبة، أنا فرحة بهذا التصريح، أخبرتهم بمحتوى الورقة التي لوحت لهم بها، ساد جو المرح المكان، صفرت أنا في الوقت الذي فرقع فيه محمد أصابعه إيذاناً ببداية دندنة، وورطنا ماجد في أغنيته التي يحب، ولا مفر من أن يغنيها، تمنعت وأنا أرغب في الغناء، لأنه  يخرجني خارج المدار يبعث بي لدنيا غريبة للموسيقى، سلطة خامسة وبعد سابع يخلخلني، ويجرجني لكنهم لا يفهمون يصرون على إرسالي إلى هناك.
حبيبي آه
قلبي تاه
في يوم الزيارة
تناولنا منه صوته ورددنا الأغنية في تناغم وحب، صارت الشمس إلى تعامد، تكون عينها وعيني ماجد في خط مستقيم، استجار بكفيه من النظر إليها، لما رفع رأسه عالياً، هرباً منا ومِنْ مَنْ هم حوله، وأتت السمكات الفزعات من صوت سارية عند قدومها، وافقت المرجانيات على اكتسابهن اللون الأخضر، بدلاً من البرتقالي المقرمز، لما علمن أن من بني آدم من هو جميل وغير مؤذٍ، ذو صوت رنان، صفا ماء البحر رقراقاً، بدا ياسر وكأنه ملاك سماوي، تنزلت العذراء على حنان، تنقل صوته بين حدائق الغناء، حديقة حديقة وروضة روضة، إلى أن وصل روضتي الغناء التي أعشقها، غنى القبلة السكري لعثمان حسين، تغافل بصري عن رؤيتهم جميعاً إلا حسام، انساب صوت محمد انسياباً، كوسوسة الحية لحواء وآدمها في الجنة، سمونا عنهم تأبطت ذراعه ثم اندسست فيه، تخللته خلية خلية، تشربتني خلاياه قطرة قطرة، كدت أذوب فيه، لولا سارية التي صفعتني بصوتها المزعج، فرأيتهم جميعاً حولي، كدت أضربها إلا أن احتفاظي بمشاهد من تلك اللحظة كان أجدى.
الحب أخرج ماجد من الدنيا، لأن محبوبته تركته، جعل سماح وحسام في هيام دائم، بينما تمطيه أمل كبساط ريح يوصلها إلى جنتها الشرعية بسلام، حنان تبحث عنه بين أفخاذ الرجال.
هل أصابكم الحب أم المس حتى نسيتم الأكل؟ هيا للفطور.. وتراكضنا نحو العريشة الحصيرية، على مسافات متباعدة، جهزنا الإفطار، تناولناه بصخب، هذا يخطف من ذاك، طعمه مختلف من العدس المتعارف عليه، فهو عدس بقدحة الحب، كان طيباً ازدردناه برضا تام، كأنه لحم أو ثريد من شدة الجوع، ولولا سارية العزيزة ما تذكرناه، بنطالها الجينز وقميصها الرمادي، شعرها القصير الممشط كثمرة تبلدية متوسطة الحجم، وعيناها النافذتان إلى الأعماق بلا استئذان، قامتها المديدة الممتلئة، تذكرني بالأختين (وليمز) لاعبتي التنس الأمريكيَّتيْن السوداوين، اللتيْن حرمهما والدهما من المدرسة، لأنهما هزمتا في إحدى مباريات التنس، لونها أسود براق، قلبها أبيض ناصع مشع، تجذب الحب الذي تهزأ به من الجميع، يحفظه سوادها في قلبها الأبيض الكبير، تخاف عليه من أي شيء، ودوماً تردد: “قليبي خفيف وما بقدر على الهبباي في عز الصيف”، بعدت عنهم دون قصد، أردت أن أغسل يدي بعد الأكل، رمقت اليمامة الهدالة التي تركتها في أمدرمان، لا بل تذكرت أني رأيتها في هيا، تلك المدينة المقيتة التي تصدِّر الغربة إلى زائريها، حتى قبل أن يحطوا رحالهم فيها، تتبعني إلى هنا، ذات يوم حطت على النيمة التي تتوسط منزلنا بأمدرمان، كان الوقت ضحى وحبوبة السرة، تقلب حبات البن الحبشي على قلايتها النحاس، بإيقاع ودوزنة، حطت وصارت تردد هديلها، رشقتها ببعض الماء، طارت وشردت حبوبة السرة بعيداً، ولما أتت والدتي الست كما يحلو لها منادتها، وشوشتها ببعض كلام، أظنه تفسيراً لهديل اليمامة، لكن أمي هزت رأسها نافية توقعات حبوبة السرة، ومطمئنة لذاتها، ماتت حبوبة السرة وما زالت اليمامة الهدالة تتبعني دون كلل أو ملل، تثاقلت خطى الجميع، بعد تناولهم وجبة الفطور الدسمة بوجودهم، وصلنا إلى مكان مجلس مناسب سبقنا إليه الأولاد وزعوا أوراق اللعب، كذلك تقدمتا حنان وأمل، تشاغلتا بحديث عام عن المدينة، بعد أن اتخذتا لهن متكأً على مبعدة من الأولاد، لكنهم لم يسلموا من تغزل حنان واستجدائها لرجولة أحدهم، بحركاتها التي تبدو بريئة، تتمطى فيبرز صدرها، أو تنثني ليتكور كفلها خلفها مسافة ليست بالهينة، يتابعها أشرف الشهواني الذي لا يثق بالنساء، تابعت وسارية ما تفعل حنان وضحكنا عليهم لسذاجتهم، وعليها لبساطتها واعتقادها أن ما تقوم به يمكنها من حل إشكالاتها، اقتربنا منهما ببطء، صحنا خلفهما عالياً، هربت أمل وبكت بينما تسمرت حنان مدعية الخوف والرهبة، اعتذرنا منهما وجلسنا جوارهما نتجاذب أطراف الحديث، بدأت ذنوب الآدميين تتعلق بالشمس الذهبية الصافية، مما كدر لونها وناء بها الحمل مما جعلها تختار سبيل الهبوط، معلنة نهاية يوم مميز من أيام الرحلة، أخذتنا الأحاديث وأخذهم اللعب، إلى أن حان أوان مغادرتنا لمنطقة حلوت الرملية الساحرة، إلى منزل سارية حيث العشاء والدار المعدَّيْن لاستقبالنا، براحلة أكثر تحضراً من اللوري سابق الذكر، وأقل ارتفاعاً بكنبتين متقابلتين وسقف، نقلتنا إلى قلب المدينة إلى حي سلالاب، جاورتني أمل كالعادة، وضعت رأسها في رجلي من الإرهاق، واستخدمتهما كوسادة، تفرس ماجد في جلستنا وهمهم همهمة، مما أفقدني طعم العشاء والمؤانسة مع ذوي سارية، بسبب الحمَّى والهذيان، بينما تصلَّبت أعصاب ساق أمل تماماً، ورجعنا إلى الاستراحة في حالة يرثى لها، ونمنا جميعاً كالمغشي علينا.
صوت صراخ يصُمُّ الآذان، بادئ الأمر ظننتني أحلم، إلا أن الأمر حقيقة، تبينتُ صوتَ حنان من بين الصراخ، إنها هي التي تصرخ من داخل الغرفة، هي وأربع من البنات، بينما أنا وأمل ننام في البرندة، تقاعست أمل عن الصحيان، لكني أيقظتها من الخوف مما يدور قرب البوابة الكبيرة، كان الوافر الذي يحرسنا يأتي بعد أن ننام ولا يتعدى مكانه، فتحت باب البرندة منادية إياه، لم أنتبه لأني بجلباب منزلي عادي فضفاض وشعري الممشط، شعيرات صغيرات يبدو أكثر تناثراً من المعتاد، دون ثوب أو ستار أو خمار، لحقتني أمل في ساحة الاستراحة، كان القمر لامعاً ومدهشاً، لكن لا وقت للتأمل والصراخ يتحول ما بين الأنين والعويل، أيقظته صحا مذعوراً مخلوع القلب، دعك عينيه حتى استحضر المكان والزمان، أوشك أن يسألني عمن أنا؟.
ومن هو؟
وأين نحن؟
لكن صراخ الفتيات لم يجعل له بُدَّاً من لحاقهن، ذهبنا جميعاً لنرى ما الأمر. كانت حنان تصرخ وترفس وتشير إلى اتجاه ما، هرعت جاراتها من جوارها، ينظرن إلى حيث تشير مرددة: البعاعيت، عيونهم حمراء وشعرهم أبيض، رؤوسهم سود، رجولهم قرود، جمعت أمل كل مروءتها، وتذكرت ما تحفظ من آيات السحر والخضة، بدأت تتلو بأنفاس متقطعة، وشفاه راجفة، وكل قلوبنا واجفة، سكنت الرعب الذي دخلنا وأصبحنا نردد معها ما نحفظه من قرآن، هدأنا قليلاً، لحق بنا البقية من استراحة الأولاد، أوقدنا المصابيح، كانت حنان نائمة تحلم.
رشَّ محمد حنان بكوب ماء مثلج، صحيت من حلمها مفزوعة، وجدتنا متحلقين حولها، سألت عما يجري بالغرفة، سبَّها ماجد بصوت عالٍ لأنها خربت مزاجه الذي عمره بعناء، ضحك الأولاد على أشكالنا ونحن نائمات مفزوعات منكوشات، سرق محمد الدقائق، وهو يتفرس في قسمات أمل التي لم يَرَهَا في حياته، قال حسام إني أشبه القط المتهيِّج، تنابذنا بالألقاب، وساد جو المرح والأمن بعد صراخ حنان وعويلها، في الصباح وعند الشاي روت أنه وعندما كنا ننزل متاعنا بالاستراحة، دفن رهط من الرجال ميتاً لهم بالمقابر المقابلة لاستراحتنا، وسمعت بعض الصبية يرددون، أن من مات في هذا الوقت من العام، ينتظر إكمال إجراءات دفنه، ثم يعود بعاتياً، ربطت بين حديثهم والجنازة المسجاة أمامها يوم وصولنا، وثالث الأثافي التعب وكان ما كان، اعتذرت منَّا وقبلنا عذرها، لم أكمل الرحلة مع المجموعة، لاستدعائي بشكل شخصي في الجامعة، عدت وعاد معي حسام بالطيران الداخلي، وبعد سويعات كنا في الخرطوم.
الفضول أصل الخيانة.
*المقولة تخصني
ما أصاب الإنسان الأول قد أصابني
والسيف الناري الذي طرده من الفردوس
هو كالسيف الذي أخافني بلمعان حدِّه
وأبعدني كرهاً عن جنة المحبة
قبل أن أخالف الوصية
وقبل أن أذوق طعم ثمار الخير والشر
*جبران خليل جبران
ثمة الكثير الجديد الذي أدركه
وكان، قبل، حماقة في بصيرتي

الكونُ مظلمٌ، الضُوءُ ينبعثُ من كوةٍ بعيدةٍ، اقتربْ لِترى مصدرهُ، اقتربْ أكثر، لا يُوُجدُ ما يدعو للخوف، اكسر حاجز الرهبة هذا، اكسره وتقدم.. تقدم.
هيّا هيّا هيّا.
الضُوءُ يَأتي من الجنوبِ، أنت عبرت البحر بسلام، مصمماً على الوصولِ، لم يتبقَّ لك من الرحلةِ إلا الصحراءُ الخاويةُ هذه، وقد عبرت منتصفَ المسافةَ التي تُغطيها، لا مشكلة؛ تقدمْ هيّا بِشوِيش.
هل تسمعُ صوتَ المُوسيقى الهادئة المنسابة تِلك؟
تعزِفُها موجاتُ الرُّوحُ مرحبةً بك، عند التقاء قيشون بجيجونِ، عند المُقرّن هيا تقدم، اعبر الجِدار الذي لا وجود له إلا داخلك، اخترقه، اخترفه وتسلل، من بين عراميسه المخلخلة.
ت،س، ل، ل.
ه،يَّ،ا.
أرأيت، الأمرُ بسيطٌ، هو لم يَرَ؛ لأنه كان مندهشاً، لجمالِ الأقدامِ، الراقصة السمراء، اللّدنة لُدونة بنت اللّيون التي تستعصي على الوصف، السُلم الذي ترقصُ عليه، من المرمرِ الأبيضِ، المزيّن بألوان الزهور، فإن أهل هذه المنطقة عارفون بالمعمارِ، هم أبناءُ المرويين، الرقصُ مستمرٌ، بنعومةٍ ولدونةٍ، اللّحنُ ينسابُ كاللص الذي يتلمس خطواته بين حنايا روحك، يتسحّب حتى يجد باب قلبك وينسرب، يفتحه أو ربما لا يفتحه ليكون متسللاً مثلك، يدخل كما دخلت لكنه لا يندهش.
اللحنُ والموسيقى لم يكونا مرحبين بهِ، لكنهما يُسمعان هنا منذ أمد بعيد، لا يأبهان بمن أتى أو ذهب، المكانُ موحشٌ، موحشٌ جداً، والأقدامُ مخيفة الشفافية وسمراء، الأقدامُ ذات أربع أصابع، تنزف دماً أسمر، ربما كانت لشبح راقصة من العصر العباسي، أو لراقصة تجيد مهنتها على إيقاع الدليب. المُوسيقى حديثةٌ وجنائزيةٌ رُغم جمالها، الوحشة تقتلك، الوحشة تقتلني، أنا الذي دفعتك إلى هذا المكان، كنتُ أودُّ اكتشافه لكن ليس وحدي، لذلك أرشدتك إليه، يا ليتني أستطيع إرجاعنا، يا ليتني أستطيع إخبارك بالأمر، يا ليتني أستطيع أن أُعرفك عليّ، فات أوان كل ذلك، نحن الآن أمام الأمر الواقع، المعرفة مدعاة للسؤال، ما سنعرفه رقص على _. _. _. _
لا أتوقع أن تكون النتائج طيبة إن عدنا.

 

*روائية وقاصة من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى