ثمار

ثيمة الغياب والحضور في رواية (366) لأمير تاج السر

قراءتي لرواية 366 للروائي السوداني أمير تاج السر تمثل قراءتي الأولى لأيٍّ من أعماله، وبمتابعة تاريخ صدورها (الطبعة الأولى 2012 عن الدار العربية ناشرون)، وجدت أنها مسبوقة بعدد آخر من الروايات يزيد عنها شهرة. لا شك أن تراكم الإنتاج الروائي للكاتب يتيح له قدراً أكبر من السيطرة على “الإكراهات الروائية”، كما يعرفها السيميائي أمبرتو إيكو، وأقصد بذلك إكراهات المعمار الروائي وبالتحديد زمكان السرد وروافده الأساسية.
وبالإشارة إلى معمار رواية 366، نجد أنها غير معقدة البناء، وقصتها الرئيسة هي الحب، وفيها يكابد بطل الرواية حُبَّاً غريباً يفضي به في النهاية إلى الموت. أحاول في هذه المتابعة تجاوز مستوى القراءة الأول، أي المستوى المستلذ بالنص، والذي يأخذ النص على عواهنه، إلى قراءة ثانية تحاول سبر الدلالة، وأخيراً أنتهي إلى مستوى ثالث من القراءة، وهو مستوى القراءة “اللئيمة”، أو الماكرة، وهي التي تعمد إلى “التلصص” على “عدم قصديات” السارد، أو ما يمكن الإشارة إليه بغير المصرَّح به، أو الميتا معنى، إن جاز الاجتراح.

يرتكز السرد على قصة معلم كيمياء سوداني، في مدرسة متوسطة بإحدى مدن السودان الساحلية. يقع المعلم في حب امرأة من نظرة أولى؛ وبما أنه لا يعرف عنها شيئاً، فإنه يبدأ سعياً محموماً لتعقبها رغم ضالة ما يدله إليها. وتصبح هذه المرأة والتي رآها للحظات في زواج أحد أقاربه، هي حلمه الوحيد، الحلم الذي نسافر عبره في إدراكه لذاته ولواقعه المحيط. يكتب السارد قصته في رسائل على مدار سنة كاملة، وهو يعلم يقيناً بأن هذه الرسائل لن تصل إلى حبيبته في نهاية المطاف.
يسلمنا السارد العالم إلى الشخصية الرئيسة، وتمضي رحلة الرواية حتى نهايتها بانتحار المعلم وهزيمته أمام طيف حبيبته المستحيلة.
تبدأ الرواية بترنيمة تشبه الترنيمات الهومرية في الميثولوجيا الإغريقية القديمة، والتي تحكي عن عاشق يبلى في حب أحد الأجرام السماوية، وتحيل بأثر رجعي ومستقبلي شكسبيري المهارة إلى أحداث تقع في المستقبل:
في الزمان القديم كان ثمة عاشق،
كان مغرماً بالشمس،
يغازلها حين تشرق
وحين تغرب، يبكي غروبها
يناديها لتشرق من جديد
سألوه عن سر ذلك العشق،
فالتقط رمحه وأصاب قلبه.
لم يسقط مطر ساعتها،
تلك كانت دموع الشمس
تبكي عاشقها.
من عند هذا المدخل الشعري تبدأ قصة الحب المستحيل.
وبما أن (الحبيبة / الطيف) ظهرت في حياة العاشق المتيم للحيظات معدودات، فإنها تماثل في استعارة دالة معنىً دفيناً مقارباً لحقيقتها، حين يخاطبها باسمها:
أسماء أيتها الومضة، أي الومضة سارقة البصر، والتي يعقبها انطفاء، وتضعنا الاستعارة أمام زمن الظهور الخاطف، ثم يمضي ليصفها بالزهرة، الزهرة صنو الذبول؛ وأخيراً يصفها بالسحابة، أي أن العاشق يعرف فيها كل صفات الزوال من الانطفاء حتى تبخر الأجسام الأثيرية.
ويصف حبه لها بأنه كان بلا أمل منذ البداية (الحب المستحيل)، والذي لا يُرجى منه نوال. ويذكِّرنا بأنه أحس برعشة المحبين لأول مرة، رغم غشيانه مواخير بائعات الهوى اللائي لم يروين له عطشاً لحب مستحيل.
الرواية تقع في مائتين وخمس صفحات من الحجم المتوسط، ولا تشير إلى إحالات تناصية خارجية، بل تعمد إلى قصديات وغير قصديات سردية إلى ذات النص. نحن أمام حالة عشق عربيَّة، عندما نرخي ستارة خلفية ثقافية للنص، نجد حُبَّاً مشابهاً لحب بني عذرة، مقطوع الوصال؛ وإزاء تباريح الهوى يحس العاشق بأنه قبيلة عشاق موءودة. والإحالة الدلالية إلى القبيلة تشير إلى إرث الأجداد الحزين وبطلاته ليلى وعزة وعبلة، والوأد بكل قسوته ولكأننا أمام قصة حب تستقى من سراب الصحراء.
ليس مصادفة أن يكون بطلنا معلماً للكيمياء، هذا العلم والذي تطور من الخيمياء، كان صنواً للحكمة ورغبتها الطامحة والجامحة، وطموحها اليائس في تحويل الخسيس إلى نفيس، وإيجاد إكسير الحياة. هذان الطموحان، يقابلان محاولة المعلم تجسيد الطيف “ضاعت المرأة العاشقة والمعشوقة من حياتي بشكل مؤسف دون أن تكون قد تجسدت من قبل، كانت محاليلي الحامضة والقلوية، ومعادلات تركيب المعادن وتفتيتها، وقوانين خلق الجزيئات وإنهاء خلقها تترحل في الذهن باستمرار”.
تمثل ثيمتا الغياب والحضور والدلالات المتولدة عنهما مدخلاً إلى رواية استهلال. استهلال يقود السارد أولاً لمعرفة ذاته، ويتيح للقارئ تدرجاً في إدراك البعد النفسي للوجد.
نبدأ تتبعنا حين يخاطب العاشق الحبيبة متأوهاً: “لقد ذهبت يا أسماء، ذهبت ولم تتركي عنواناً، أو موعداً، أو شبعاً راسخاً، ليتجشأ به الجائع في ما تبقى من الليل المختلف”.
بالنسبة لاسم (الحبيبة / السراب)؛ نجد أنه سمعه لأول مرة في نفس المساء، عندما نادت إحدى صديقات حبيبته باسمها والذي كان أسماء، ولم يكن مزنة، أو وردة، أو نور المقابلات التالية لومضة وزهرة وسحابة، وكلها استعارات الرحيل الوشيك، بل كان الاسم أسماء: أسماء اللغة واسم المعرفة الأول، أسماء التي تبين عجز الملائكة أمام آدم عندما تلقى الأسماء كلها بعلم إلهي خالص. تحيل الدلالة الثاوية في الاسم لا إلى عملية تلقي العلم، ولكن إلى كينونة وطبيعة المعرفة.
فقدان أسماء منذ الرؤية الأولى هو فقدان للمعرفة؛ وبتعمق السرد يزداد السارد جهلاً بأسماء، ولكنه يمارس استبطاناً عرفانياً لحالة مشاعره تجاهها. تسقط معرفة الكيمياء أمام قدراته على تنمية حواس جديدة، وقدرة على التخمين، هذه القدرة على التخمين تجسد بعداً آخر لغياب المعرفة، إذ أنها تعتمد على خيوط الظن لتتجمع في بركة استنتاج قد يصح ولا يصح وفقاً للحدس، والذي يمثل غاية ووسيلة في آن واحد دون وجود لمنظومة معرفية متكاملة.
ويستبطن حاله بالظن: “أحياناً أظن أنني غير سويٍّ، وأن في عقلي بقعة اضطراب ينبغي أن تعالج عند طبيب نفسي، أو عالم روحاني، ثم أعود وأنتصر لحياتي الراهنة، كرجل تجاوز الأربعين بقليل، لم تعبر بحياتي سوى النواقص التي لم تعد في نظري نواقص أبداً بمرور الوقت”.
هنا وإزاء غياب (أسماء/المعرفة)، وحضوره ذاته العرفاني، يحاول السارد الانتصار لحياته الراهنة، وهي حياة في أصلها حياة كسيرة لمعلم مغمور، أعزب، يسكن في حي شعبي بائس، وحيداً بعد وفاة أبويه واختفاء أخيه الغامض على خلفية انتمائه لحزب سياسي راديكالي؛ حياة خائبة تمثل أمام حالة اختفاء الحبيبة استجارة برمضاء واقع ممض.
ونستدل على غياب المعرفة بالواقع، على أزمة عثوره على ثلاثة قتلى في بيته في الحي الشعبي البائس، دون أن يكون له بالطبع يد في الجريمة والتي كان يحدس مسبقاً أن زميله معلم الكيمياء الذي يفتقر إلى مهر زواجه سيرتكبها بشكل ما في يوم من الأيام. ولدى صديقه معلم الكيمياء هذا فوبيا تتمثل في مسحه الدائم لحذائه من الأوساخ، وهو ما يظنه السارد يخفي عِلَّة نفسية، دون أن يفطن هو إلى أن هيامه وتدلهه ونسجه لأحلام يقظة لا تفضي سوى إلى دهليز آخر من دهاليز الغياب.
ورغم حالة غياب (الحبيبة/الطيف) والذي يجرف السارد جرفاً عن الحضور في الواقع، نجد أنه نجح في خلق حضور نفسي موازٍ استطاع عبره تقصي رغباته الدفينة وخيباته، وعملياً استعاض عن هوايته في تخطيط المدينة بتخطيط الجمال الغائب، هو ما يصفه بأنه عمل آخر في الدنيا لم يجده سوى جبابرة قليلين.
نتعرف على كل هذا الحضور النفسي مقابل غياب (الحبيبة/المستحيل) عبر الرسائل التي خطها السارد بخط يده، ووقعها قبل موته باسم المرحوم. كتب المرحوم رسائله باللون الأخضر، لون الحياة ولون الهدوء، وهما اللذان افتقدهما واحداً إثر آخر: الهدوء أولا والحياة ثانياً. يمثل استخدام اللون الأخضر في كتابة الرسائل محاولة استزراع حياة موازية عبر سرد المأساة، كمقابل للجدب الذي تشهده حياة السارد الواقعية. إنه يعيش حالة جدب عبثية. وضمن سياق الميتا معنى، يمكن القول بأن السارد يحقق ذاته الكاتبة محاولاً تخضير حياة اتسمت بهذا الجدب العبثي.
وفي الأخير، ينهي السارد حياته بتناول ستين قرصاً من مادة منومة. ودلالة موته أو دخوله عالم هادز عبر بوابة النوم هو دلالة أخرى للغياب، وليس الغياب المعاش، بل (النوم/الموت) فالحالتان اللتان يتوقف عندهما (الإدراك/الحضور)، ولذلك وضمن سياق المعمار الروائي، لم ينتحر المرحوم بوسيلة عنيفة كالرصاص أو الشنق أو التردي، بل اختار النوم لفتح بوابة الموت.
وصرح أخيراً بعلاقته بالوعي/المعرفة حين كان آخر ما خطه هو: اعذريني لم أعد قادراً على الوعي أو فقده………………. المرحوم.
الخلاصة: تمثل ثيمة الغياب والحضور في رواية 366 لأمير تاج السر سياقاً سردياً “تطهرياً” بالمعنى الأرسطي، مسكون بالعذاب في إرث تليد، غابر؛ أبطاله قيس وجميل وكثير عزة. إرث ثقافي انقطع في لجة الحياة، وكان يحتمل قدراً لا متناهياً من المازوشية والتلذذ بتعذيب الذات إرضاءً لحبيب غائب.
إرث يجسد حضور في غياب الآخر، وغياب في حضوره في جدلية شبه محتومة.
وليل الأسى نار على القلب تلفح     ودمع على الخدين يحمى ويسفح
إذا كتم المشغوف سر ضلوعه       فإن دموع العين تبدي وتفضح
إذا ما جفون العين سالت شؤونها      ففي القلب داء للغرام مبرح
كما قال صاحب طوق الحمامة.
يقول ماركيز لو أنني قلت إني رأيت فيلاً طائراً يطير في الخارج لما صدقني أحد، ولكن إذا قلت إني رأيت مجموعة أفيال طائرة فسوف يصدقني الناس.
ولو قال أمير تاج السر إنه رأى قيساً أو جميلاً في أحد أحياء مدينة سودانية ساحلية، فمن الذي سوف يصدقه؟
تلك قصة إرث قبيلة موءودة.
لا تهدف هذه القراءة لإدهاش القارئ، فحسب، بل تهدف أيضاً، وفي خبث، لإسقاط فك الراوي من الدهشة.

 

*قاص وصحفي، ودبلوماسي إريتري

زر الذهاب إلى الأعلى