في حضرة الماء الأول، تنهض أشياء وتخيب أخرى، ويتخذ العطاء هيئة البراءة حين يجلس في راحة اليد ويقاوم غواية المنح قبل أن يقطع الطريق بين “نون” النية و”نون” النوال، ثم، قد يتمرد الصلصال ذلك القاطن منذ أزل التراب بين حيطان الأجساد وحقول الرغبة وينتفض ساخطاً في براح الأرواح التي لا تخشى “بطلان التيمم” ولكنها ترى حقيقة الارتواء، تنبعث من مبتدأ حتمية الظمأ، وصولاً إلى خبر السقيا، وتتلهف للانصهار مجدداً مع طينها القديم، ويكون الهواء شاهداً لا يكذب أهله.
في حضرة الماء الأول، تقدم الصحارى فروض طاعتها وهداياها للعابرين التائهين، وتختفي سخرية الرمل من سطح ثوبها الشاحب، ولكن ما بال القوم يسعون خلف غبار لا يغري سوى بالمزيد من الدعاء؟ يخبرون الأشجار عن “صاد” عاقة لا تحالف غير الصحارى، وتلك العصية التي في أول الصبر، يراودون الجهات عن أسمائها التي محاها إصرار الريح ووعثاء الضجر، ويسألوننا عن أخبار ما سيأتي غداً وعن أحوالنا، وما عرفوا أننا تركنا تقاويم الحياة خلفنا ببسطام.
في حضرة الماء القديم، تبدأ أولى نهايات العطش، وتنتهي آخر “عِينة” في فصل التمني؛ فالمسافة بين “واو” الوطن و”واو” الوصول، أبعد وأشق مما بين “واو” الولادة و”واو” الوجود، فهل تطيق السعي أيها الرجل؟
وأينما داهم شوك الرجس المقيم فينا أقدامنا، وكلما غزتنا عتمة، تجدنا نعتمر خوذات الخيبة ونتحسر، كيف نسينا مصباحنا ببسطام؟ فمن ذا الذي يهبنا درباً لا تدير الشمس وجهها عن ترابه المحموم، لأننا والحمد والشكر لإله التراب، لنا نصيب وافر من رهق الأيام يكفي مؤونة عامنا ويزيد، ولنا أكثر منه مما ورثنا من بخل الأحلام المضيئة بقمح مواسمها العجولة.
في حضرة الماء القديم، وفي جسارة معلنة، تصبح الوجوه مثل خريطة لا تستسيغ البوصلة أن تشير إلى جهة الابتسام فيها من شدة الخجل، ولا تقدر أن تجلس بين ملتقى خطوط عرضها التي ترسم وتحدد مسافات العناء التي يسمح للدم بالتحليق فوقها، وخطوط طولها النائمة على وسائد قطبي الغناء المتجلد في لهاة النجم، كيف السبيل إذاً، لمحاورة الأفق أو حتى لسؤاله عن أحوال الصلصال بعد أن تركنا نارنا ببسطام؟
فيا أيها الماء القديم، هب لنا من لدنك ناراً وأرضاً، ناراً تضيء بأناشيد الليمون وأهازيج الأعياد، وأرضاً لا يأتيها الشقاء من أمامها ولا من خلفها، ولا تجلس المسغبة فوق جلدها المصبوغ بآهات الحيارى ونزق الشعراء وأمنيات الموتى.
أيها الماء القديم، دعنا نتم صلاتنا أولاً، ثم خذ منا ما تشاء، فها هي نوافذ الليل مشرعة تغازل النجم وتهدي القمر أريكة من فضة الانتظار، أما نحن فقد سكتنا وقايضنا ذهب السكوت بصلصال جديد، دعنا نتم غناءنا، فغيرك لا يستطيع مجاراة غواية الوقت ومحاباة لؤم الأمكنة، خذ ما تشاء، ودع لي أمنيتي الوحيدة العذراء:
أن أكون طيراً تقبله السماء إن طار وارتفع، وتشتاقه الأرض، لا، تدسه الأرض في جيب روحها إن وقع.
*كاتب من السودان