ثمار

نشيج الروح… ضحكات مؤلمة وحزن خاص

حاتم الشبلي

هكذا حكم قدر ود مختار بأن ينتقل إلى شرق المدينة، في ضاحية يملأها الأجانب الفارون والمتسكعون، وبعض من أهل القرية الحقيقيين، يقضي نهاره على موسيقى الصخب الحياتي الغنية التنويعات، والتي تدور على نفس ثيمة حياته الأساسية، لحن حياته الخاص المنساب كأودية الخريف من مرتفعات التأريخ الأبيقوري، الذي يتسع لكل شيء يضع العامة داخل حريق الصراع الداخلي الذي يظلل صهده أرض الحياة، بينما يظل يضحك ساخراً من ملل الوجود ونفاق العالم، وجبن الإرادة البشرية، تقرفص ذات يوم على الأرض أمام راكوبة القش التي تتخذها حواية زوجته كغرفة نوم حسب مواصفات البيئة ومستوى التريّف السائد. تكرّع إثر إفراغه لكورة البغو نصف ممتلئة، ثم صافحني بطيبة وكرم واضح. أجلسني على مقربة منه، وأخذ يحكي دون توقف عن مغامراته وتجاربه وحياته السابقة، ولم ينتظر من أحمداي صديقي الذي هو شقيقه الأصغر أن يبتدأ بروتوكول التعارف. أعتقد أنه تجاوز ذلك عن قصد، لأنني استنتجت فيما بعد قانون علاقاته الاجتماعية الذي يفرز به الناس ويقسمهم إلى قسمين: الأغبياء والجبناء والهوانات، وهم كل من لا يشربون؛ والشجعان الطيبون والأذكياء أصدقاؤه بالطبع، وهم كل من يشربون، سواء كان من مريسة حواية أو حتى في بارات الواق الواق. لا أظن أنني قابلت إنساناً  يعيش  حياته التي يريد بصدق، ورغم كل شيء مثل ود مختار؛ لذا سحرني بشخصيته التي لا تشبه لي سوى الشخصيات التي قرأت عنها في الروايات. أول بادرة للنزوح إلى ما وراء الحقيقة في تلك المنطقة الوعرة المسالك، كانت بواسطة ود مختار. وقف وسط الجميع بقامته الفارعة وصوته المتراخي الأبح وقال: (ترى الحصل حصل نشيف الجديد شنو).. وقعت كلماته المنتقاة بعناية وحكمة على الجميع كصوت ملائكي رحيم، جاء من مكان ما، من السماء ربما ليؤشر باتجاه مختلف كان مغموراً لم ينتبه إليه الناس، لانشغالهم بأمور أخرى (ضنك العيش- كلام العمدة الجديد- موسم زراعة الفول- وما وصل من نتف إخبارية وقصص مروية عن آخرين في مكان ما). في ذلك اليوم العجيب لم يكن ود مختار إلا (حكيم القرية)، ليس الطامع في شيء، وكذلك ليس بالخائف من صلف وبطش العساكر الجدد، وهكذا انحسم الأمر للقائد الجديد الذي  شكر ود مختار بشدة، وخطب في الناس من بعده، ووعدهم بالحرية والعيش الرغيد، وبعد أن صفّق الجميع ورقص المنتصرون مع أهل القرية الصغيرة المهملة، دعاه القائد إلى المعسكر ليتفاكرا في بعض الأمور. من المفترض في مثل هذه اللقاءات أن تكون دفة الحوار والحديث بيد القائد؛  لكن الأمور مع ود مختار تمشي وفق منطقه الخاص فقط،  تبادلا أقاصيص عن مغامراتهما، وبالأخص ود مختار الذي روى للقائد قصته مع العمدة الجديد، وكيف صفع ود مختار على وجهه لأنه أهانه في سوق السبت أمام الجميع. حدث ذلك قبل شهر من المعركة الأخيرة، كانت عربية المحلية الكروزر البيضاء والتي يسمونها Buffalo)) مع راكبيها الثلاثة موظفي وزارة المالية وشيخ السوق واقفة أمام راكوبة مستورة التي تجمعها صلة قرابة مع أحد الموظفين الثلاثة. أبدت كلتومة احتجاجها على الفرز الواضح في كيفية دفع رسوم إيجار السوق. وصلت موجات الصوت الكادح إلى مسمع كبار القوم، فلم يطيقوا تلك الجسارة، وبالذات لأنها كانت تلمح بشيء ما عن مستورة. وبغض النظر عن منافستهما المستمرة على زبائن سوق المرين، وعلاقتهما المحكومة بالغيرة وشيء من الحسد أحيانا؛ إلا أن ود مختار المنشغل بمعركة خاصة مع منصاص التيس، أرسل تعليقاً حادّاً وصل إلى المكان المجاور. اعتبر العمدة الجديد أن كلام ود مختار موجّه إليه شخصيّاً، أو ربما اختزن رد فعله الأول على طنطنة كلتومة على مضض ليتضاعف عليه الحنق وتستبد به الرغبة في الرد والانتقام بعد تعليق ود مختار، فوقف ممسكاً بعصاته المعكوفة وملوّحاً بها في الهواء مهدّداً ومزمجراً فيسارع أحد الموظفين بتهدئته قائلاً: (دا واحد سكّاري ساي ما تشتغل بيه)، ليلتقط العمدة خيط البداية وينهال على ود مختار بالشتائم والإهانات من جديد، ولم يكتفِ بذلك حين رأى جمهرة الخلق ولحق بود مختار رغم محاولات الموظفين وملازميه منعه، وانهال عليه ضرباً بعكّازه ويديه. حكى بعض من شهد تلك الواقعة، أن ود مختار صرّح بكلام يسيء إلى العمدة، وهو بدوره لم يحتمل. كانت الأيام الأخيرة وبالاً على ود مختار وزوجته حواية. أنفق ود مختار وبعض أصدقائه حوالي الخمسمائة جنيه لدفع الكفالة وإخراج حواية من السجن، تعرض لطلق ناري أثناء عودته  إلى منزله في نفس يوم الحادثة، ولكنه لم يُصبْ بأذى، لأن الظلام كان حالكاً في تلك الليلة ولأن المؤجر لتنفيذ المهمة كان ثملاً جدّاً مما أفقده التركيز فأخطأ هدفه، أيضاً وجدت كلتومة عن طريق الصدفة رصاصتين مدفونتين برماد اللداية في صباح اليوم التالي للحادثة، ولم تنقطع سلسلة الانتقام، وفقد بعد أسبوعين ثلاثاً من أبقاره مع غنماية وتيس صغير. كل أهل القرية تقريباً توقعوا أن ينضمّ ود مختار إلى القائد الجديد، ويصبح  ذراعه اليمنى، وينتقم من العمدة وأهله ومعاونيه؛ إلا أن علاقة مختار والقائد اقتصرت على طابع ليلي وجد فيه الطرفان نفسيهما لبعض الوقت.  وأثناء تلك الأوقات الخالدة غرق القائد في أجواء ود مختار، وأدّى مهمته الإدارية والسياسية مستعيناً بالوزن الرمزي لود مختار، دون أن يكلّفه بشيء بشكل مباشر. توفي القائد في إحدى المعارك، عُيِّن قائد جديد، تأزمت الأمور لدى الإدارة الجديدة. استطاعت الجنيهات أن تشق صفوف قواته، ثم انعكس ذلك علي ود مختار، في إحدى المرات وبينما الأحوال تزداد سوءاً طلب القائد الجديد منه أن يقود إحدى العربات العسكرية، وفي الحقيقة لم يكن طلبا، بل أمراً مباشراً فظاً. ضحك ود مختار، ورفض، لم تشفع له علاقته السابقة بالقائد المتوفّى، ولا مجهوداته الرمزية في مساعدة القوات، ولا حتى كرهه للأوضاع السابقة في عهد العمدة الجديد. كان مصيره السجن العسكري. وحين سأل لماذا السجن العسكري، كان رد مساعد القائد، بأنه يواجه تهمة الخيانة العظمى. كانت ثلاثة أشهر مرّت ثقيلة ومزعجة. أخيراً عرض عليه أحد معاوني القائد الجديد وهو عسكري من دولة مجاورة، أن يتوسّط بينه والقائد لإطلاق سراحه مقابل خمسة آلاف جنيه. قبل ستة وعشرين عاماً، كان ود مختار يتاجر في بعض المحاصيل والسكر والأجهزة الكهربائية. استوقفته كثيراً حاجته لامرأة بجسد حواية وبمهارتها وصدقها في صناعة مشروباته المفضلة. وبعد زيارتين متقطعتين، قرر الزواج منها، وعاد بها إلى البلاد ليعيشا في حب وانسجام طيلة تلك السنوات. كان معاون القائد الجديد أحد مترددي راكوبة أم حواية، ولاحقاً علم ود مختار أنه متزوج من بنتها الصغرى. وفي يوم مالح، أمطرت السماء حزناً كثيفاً على ما تبقّى من أهل القرية. رحل ود مختار وزوجته وبناته إلى حيث يجدون أمْناً ومساحة ليحكي عن مغامراته بعيداً عن البطش المزاجي، والظلم الموروث إلى فضاءات أخرى تقتطع من سماء الأرض دواءً ومسكناً آمناً وبعض حرية. وعاد ليعيش من جديد خارج أسوار الموت المجاني، في كنف القوانين التي استزرعت قسراً، وبمحاولات مضنية للعالم الإنساني، رغم المحاولات المضادة من أنصار ومعاوني وأشباه العمدة الجديد.

 

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى