قراءة في مجموعة (أُنثى المزامير) لـ إشراقة مصطفى
مدخل
من أبهى هِباتِ الأُنثى لمحيطِها الشاسِعِ الحُبَّ والإِشراقَ، وتتجلى أروع ما تتجلى إبان تفاعلِها وفاعليتِها حيال ما يمسّ محيطها أو أحد أركانِهِ..
ولئن دققنا التنبه أبعد بمدائنِها (حتى وإن اشتطَّ الشغبُ بأرجائِها، وأرعبتْ بهديرِها فرائصَ التأملِ بما هو مقبول أو مرفوض، ما هو جائز أو ممنوع) فإننا سنلقى {كما الحال بمُقابلِها (آدم)} بأن كُلّ اهتمامِها يتمطى بمسرحِهِ ولا يتعداهُ البتة، فالأكوانُ وما حوتْ والرُّوحُ وإن علتْ، ذرائعُ وصولٍ ونهجُ تأملٍ وبراحُ انتباه… إلخ.
لعلنا بهذا المدخلِ المخصوصِ (في عموميتِهِ) المُفصِّلِ لجسدِ سِفرِنا هذا، بهذا المدخلِ المُبهمِ رغم جلائِهِ نقولُ ونحجمُ، لكنّا حين سنرصدُّ بعينِ الإعزازِ والمحباتِ قبل النقدِ ما ناولتهُ لأرواحِنا من تداعٍ يخصُّنا فيه أنه يقولُنا بإبهارٍ فاتِكِ الجلاءِ، وأنه يهزمُ خنوعَنا للوساوِسِ التي تهدمُ إنسانيتنا وتدفعُنا بحذقٍ إلى الحضيضِ، لعله بذلك تتضحُ حينها معالِمُ مدخلِنا الفائتِ.
ونعلمُ يقيناً بأنه تصعبُ في الكتابةِ المحاورةُ بأوجِ الاشتعالِ، يصعبُ المروقُ كليةً إلى العقلنةِ والمضي قُدماً والمِداد، فتتمادى العذريةُ/ الجُنونُ في السَّطوةِ، فيُقبلُ في السِفرِ قولها “أكتب الجنون إلى أقصاه” كرفيقٍ/لازمةٍ لكُلِّ صفحاتِهِ، فالكتابةُ ذاتُها لا تستوي عقلنتها وإلا أضحتْ خطابةً ممقوتةً ممجوجةً ناعمةَ الملمسِّ مُهلكةِ العاقِبة.
فترصينُ الجُنونِ وتحويلُهُ إلى لُغةٍ (شعريةٍ) مُتماسِكةٍ مرحلةٌ لا يسهلُ الإمساكُ بتلابيبِها، إلا أنها – قد- تدينُ بُعيد رصدِ الجُنونِ ذاتَهُ إلى أقصاه، وعلى ميلي للترصينِ في حينِهِ، في مشاداتٍ تتناثرُ فيما بينها العباراتُ بين الرّوحِ والعقلِ والمِدادِ، إلا أني بذلك أخالني كالسامِحِ بتوقفِ اللهاثِ والإعياءُ يتقاذفه، السامحُ بالسَّكينةِ في أوجِ الضَربِ على نعشِهِ المُفتتِ.
أنثى المزاميرِ.. هكذا تلقُفُ عِبارتين فيهما من الحميميةِ ما فيهما، وفيهما من التأويلِ ما لا يُحصر.
فأن تقولَ إنها تنداحُ وتمنحُ المُستطابَ شِعراً ووهجاً وروحاً ووو مع المزاميرِ الصادِحةِ ــ يُقبلُ.
وأن تقولَ إنها لها ترتفعُ وتيرةُ انسجامِها.. تفاعلِها مع أصواتِها القابِضةِ على رسغِ الهمودِ لتبث بأنحائه صخب الحياة ـــ يُقبلُ.
وأن تقولَ إنها منها ممزوجةً بانزياحِها متناغِمةً وإرهاصِها مُندغِمةً بالأرواحِ المُتلقيةِ ــ يُقبلُ.
“أنثى المزاميرِ” يجعلنا في حِلٍّ من البحثِ عن المغزى واللهاث خلف شطحاتِ العناوينِ المُطلسمةِ، على أنه منها لو امتطينا ولم نُلجمْ رسنَ الخيالِ أو نقبلُ بقربِها مِنا كجُملةٍ ناجزةٍ وموجزةٍ لكُلِّ المُرادِ.
يجعلنا ندرك باكِراً أنا سنخوضُ في أبعادٍ تخصُّ شاعِرتِنا وبها تماسات مُتماسكة تلملمُ شعث الصمتِ البهيمِ عن ما ينبغي لها كأنثى فاعِلةٍ مُتفاعِلةٍ في هذا الكونِ المُتماحِكِ في استلالِ ما يثبطُها ويحيلُها إلى ديمةٍ تهطلُ بالنّماءِ والدفءِ ولا تحصد إلا الشوك، وعلى غيرها من الإناث ينسحبُ الأمرُ.
أنثى المزاميرِ تمردٌ فاضِحٌ جلي الاتجاهِ..
إنه نقراتٌ تخدشُّ السكونَ وتُعري ما يتوجبُ أن يكونَ من تلاقُحٍ لا أحد فيه بالمؤخرةِ يلهثُ خلف ركبٍ لا يأبهُ له وهو يحملُ لذاتِ الركبِ – في الوقتِ عينه – نبيذَ روحِهِ واكتمال حبورِهِ…
أنثى المزاميرِ حَمل إليّ “وقد يطالهُ التعديلُ حذفاً أو إضافة… لاحقاً”:
1/ أنثى المزامير
2/ في تمام الرغبة ………. إلا اشتعال {تمت إضافته من قبلي}
3/ إلى حبيبي في ورطة الروح الأزلية
4/ صخرة النسيان
5/ أنا الغول…….
6/.. صي وصهد
7/ صحراء الجسد – جسد الصحراء
8/ صهوة النار
9/ لا تراهن…
10/ آذار وبعض من جنون
11/ وصدحت كمنجات الجسد…..
12/ هل لي بجبريل………
13/ وشوشة
14/ جبريل
لملمة العناوين
حوت عناوينُ النصوصِ التي بمتنِ السِفرِ مضامينَ وأبعادَ عِدة، إلا أنها اتفقتْ جميعها في أنها لم تخرجْ من (الأنا)، وتلك الأنا الخفيضة المُرتبكة رغم علوها هنا لم تحملْ لنا على الإطلاق ما يشي بما عُرفت به (أي أنا العليا بنبرتها التي تؤخذ إلى منحى الكبر والخيلاء وما شاكل)، إنها هنا تحملُ الجانبَ الآخرَ منها، تحمل إلينا دلالاتَ الجُرأةِ على التفجّعِ، دلالات الجُرأةِ على البُكاءِ والحنينِ والجُرأة على تسطيرِ ما يعتملُ بالرُّوحِ والنفسِ والجسد، والجُرأةِ على ما شاكل، وأيضاً يمكنها أن تكونَ أنا نائبةً ومُفضيةً إلى القولِ عن الكثيرِ من الإناثِ.
فالبدءُ (أنثى المزاميرِ) إعلانُ الانطلاقِ في السِفرِ وعنوانه الرئيس الذي أشرتُ إلى بعض ما يعني من دلالات متسعة آنفاً، يليه (إلى حبيبي في ورطة الروح الأزلية) كإعلانٍ بأن تلك الأنثى (أنثى المزامير) التي لا تحيد عن كونها أنثى للمزامير أو منها أو لها وكيفما اتفق، تهدي كل هذا التفجع/الحنين…الخ إلى حبيبها في ورطتهما الروحية والأزلية، وهي ورطةٌ تقولها بملء الفم لأنها تحسب الهوى ورطة، ولا أحسبه كذلك غير ذلك، لأنه يحيلنا إلى ما يحيلنا إليه من فقدان للتوازن وووو، وأحسب مثلها أن الهوى ورطة من أهم الورطات التي تلحق بالمرء بل إنه أجملها على الإطلاق، ولأنها تعي ذلك بالطبع وتعنيه لا سواه فإنها عنونت قولها بأن أنثاك يا ورطتها تهديك هذا السفر.
تلا ذلك (صخرة النسيان)، وأحسبها بالتحديق مجدداً إلى العناوين التي سبقته على التوالي (أنثى المزامير) و(إلى حبيبي في ورطة الروح الأزلية) إنما عنت أن الهوى الذي لف روحها في ثناياه كالصخرة {على رغم كراهة التشبيه في أمر الهوى} التي يتكسر عليها النسيان فلا يمكن أن يكون لهذا النسيان مجال في روحها.
إذن فإنه يلي ذلك – بداهة – (أنا الغول) مواصلة في تخويف هذا النسيان الذي استل غمده للهوى بل وإراقة دمه.
ثم ليمضي الأمر في مجراه الطبيعي فتأتي (صي وصهد) ومن ثم ليعقبها (صحراء الجسد.. جسد الصحراء) و(مرجانية) {التي استبعدتها من المجموعة لأنها جاءت بلغتنا الدارجة وهي لا تتناسب وهذه المجموعة} ثم يليهما (صهوة النار).
وتنبري أنثى المزامير مجدداً لتؤكد لحبيبها هذا الهوى الذي ملك جنانها بنصها (لا تراهن) وهو ليس بالضرورة موجها إليه أو إليها، لكنما عنوان كهذا ينحو بنا جهة التحدي والتحدي يقبل فيه في سفرنا هذا الموجه برمته للحبيب بأنه تحدٍّ في أمر الهوى لا سواه، يعقب ذلك الرهان (آذار وبعض من جنون) وهو يُحصى لديَّ بأنه من النصوص التأكيدية أيضاً على امرأة هي (أنثى المزامير) التي تمتطي أو تمتطيها (صهوة النار) فتنبري لتتحدى النسيان أن يطال روحها وقلبها وجسدها، كأني بها تؤكد أن النسيان هو ضرب (جنون) والأكيد أنها ترصد كل ما من شأنه أن يصب في تأكيد ما بها من هوى ولوعة، ثم يلي ذلك (وصدحت كمنجات الجسد) كمحصلة طبيعية لـ (انتظار)ك {الذي استبعدته من المجموعة أيضاً لذات سبب استبعادي نصها مرجانية – ذا ما أرى ولها ما ترى}، (هل لي بجبريل) لـ (وشوشة) مني/من روحي وقلبي وجسدي لك (جبريل).
وأن تختم بنص (جبريل) فهو التأكيد الأكيد على أن كل هذا الماء الرقراق يصب منذ بدئه حتى الختام عنده وهو له لا لسواه.
لعلي أفرطتُ في التفاؤل بخصوص ترتيب العناوين على هذه الشاكلة/النسق فلربما لم تعنه وجاء من قبيل الصدفة المحضة، لكنه ترتيب أثارني وحركني كقصيدٍ بُني على فتنةٍ بالغةٍ من لغة ونغم وفحوى وأبعاد، وترتيب العناوين/النصوص (بمنحى عما حوته أو بناءً عليه) ضربٌ من الشعر أيضا.
تنويه
جاءني السِفرُ يحمل جُملةً تعدُّ كلازمة أعلى كُل صفحاته فجعلتُها (أكتب الجنون إلى أقصاه) لاعتقادي بأنها هكذا أوقع وأقرب وأكثر تكثيفاً، وذلك لأنها تعني لدي (ضمن ما تعني):
لا أكتب بحبر العقل والتعقل بل بدم الجنون من مبتداه إلى منتهاه.
وتعني ضمناً:
أيها القارئ لا تدلف إلى نصوصي وأنت تعتمر ذهنك بل جنونك المشتعل.
وأعتقد أن العبارة تمهيد حذق للتخلص من المتنمرين أمثالي الذين يحلمون بعقلنة النص حتى في أوج جنونه.
فإذن (مُقبلاً) {وعملاً بما أوصت به سيدة المزامير – كما أسميها} سأدلف بجنوني فقط وليكن ما يكون.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه لديّ مجموعة تحمل عنوان (ترانيم الموج) ولجت إلى فحواها بجملة افتتاحية هي {سأكونُ عاقلًا جدًّا وأفتَّشُ عن جُنوني}. وأظننا تشابهنا في المفتتح واختلفنا في الجنون.
وقد اقترحتُ على (إشراقة) إضافة بعض النصوص الأخرى إلى السفر، وأشرتُ عليها أن تختار تلك التي لها علاقة مباشرة بمنحاه، وقد سبقتها إلى ذلك بنصها (في تمام الرغبة… إلا اشتعال) ورتبته تالياً لـ (أنثى المزامير) لاعتقادي بأنه يكمله {أنثاك (أنثى المزامير) في تمام رغبتها… إلا اشتعال} تهديك هذا السفر.
ثنايا النصوص
تمهيد:
عن انطباعي الأول الذي بعثت به إلى إشراقة في حينه (بطلبٍ منها)، قلتُ:
باعتقادي أن نصوصك تحتاج إلى تقطيع، فتقطيع النصوص يوصل قارئها الفطن إلى الإدراك باكراً بأنه أمام شاعر يعرف ما يريد قوله وكيف يقوله،
والتقطيع سيدتي هو كتابة مضافة وشرح للكتابة وإظهار لما خلفها من إلحاق ووقف/قطع وشرح وغيرها، وبخاصة في قصيدة الانفلات (فلا أحب تسميتها بقصيدة النثر) وكمثال على ذلك {وهو تقطيعٌ مقترحٌ من عندي لا يستوي الأخذ به فللشاعر مراده وأبعاده وكيفيته التي يرى في التنقل من مقطعٍ إلى آخرٍ بقصيده:
النار على ضفة الغابة..
البارود في قلبي:
عصافير تنقر كهوف اللهفة..
فيا دفوف النار..
ارشقيني ببعض طمأنينة،
وحلقي بي عبر سماوات الرغبة…
الآن تمام الشهقة..
فالأرض على جسدي خصبة،
وأشجار الكون الشهية تنمو على بطن البحر،
وأنثاه البهية سحابات تندلق.
“النار:
نداء الجسد،
أغنيات الانهمار”
الآن قد حانت مواعيدالانفجار،
هيا…
على تسابيح الروح/
ركعة الحزن/
استواء الجسد على عشب حبيبي…
الآن تمام الغليان…
.
.
.
وهكذا.
هذا من جانب، ومن جانب آخر:
تمضين في وتيرة تحمل نغماً صاخباً ثم بجملة (يمكن تحويرها إن أردتِ ذلك، على أنه لا ضير من ترك الأمر على ما هو عليه على أن يكون ذلك في أتون توافق داخلي منتظم النغم تبثه العبارات المتلاقحة معنى ونغماً) تنقلبين على ذلك النغم، مثلاً:
الآن تمام الشهقة….
فالأرض على جسدي خصبة
ثم يلي ذلك قولك:
وأشجار الكون الشهية….
تندلق.
ولكِ المقارنة بين المقطع الأول والمقطع الثاني الذي يليه مباشرة، حيث يلاحظ أن الكلام وإن اتسق المعنى انفرط النغم فيه في انقطاعٍ فجائي، ولا أعني الاسترسال على عواهنه وإنما أعني الإحلال، وأحسب أن نصوص الانفلات تأتي منذ البدء غير ملتزمة بنسق عروضي.
إضافة إلى ما تقدم فإني أرى أن تتم إعادة النظر في النصوص من جهة ما لا ينبغي إعادته/ اجتراره، بمعنى:
إن قال الشاعر جملة شعرية مكتملة مفادها (مثلاً):
إنه الآن يموت في طمأنينة..
فلا يعيدها وإن بعبارات مختلفة إلا إن لزم الأمر ذلك وفق رؤية مقبولة (وهذا درب آخر شائك وطويل كثير التفرع أحسبه).
والمقصد أن النصوص من وجهة نظري (حامل أفكار محددة)،
فلا ينبغي علينا أن نزايد على فكرة واحدة باجترارها طوال النص وإن بعباراتٍ وجُملٍ مختلفة.
كما وإني أتفق أن النص دائماً يتوجب في مفاده أن يكون حاملاً لشيئين (معضلة وحل/ وفق صاحبي الطيب البرير رضي الله والشعر عنه) وذلك كمحصلة نهائية للنص: بيت قصيد/زبدة/خلاصة جلية أو مضمرة تلمح، أو لتُطرح المعضلة مثلاً ويترك القارئ ليحلها بنفسه (وذلك وفق رؤيتي)..
ولعلنا أن أردنا التثبت وإثبات ذلك، فإنه يمكننا ملاحظته سريعاً، حيث وبالنظر إلى أول النصوص (أنثى المزامير) يتضح ما عنيت:
النَّارُ على ضَفَّـةِ الغَـابةْ.. “وأظنها بعبارة الغابة تعني الجسد”
البَـارودُ في قلبي: “والطبيعي أن يكون غذاء تلك النار من القلب/ مكمن الهوى ومحرك الاشتعال ودافعه”
عصافير تُنَقِّرُ على كُفُوفِ اللَّهفةِ.. “وهذا البارود كعصافيرٍ تنقر فتستشري اللهفة على الغابة وتلوح”
يَـا دفوفَ النَّارِ: ارشقيني ببعضِ طُمأنينةٍ، وَحَلِّقي بي عبرَ سَماواتِ الرَّغْبَة..
الآنَ تَمامُ الشَّهْقَـةِ.. الأرضُ على جسدي خِصبة.. وأشجارُ الكونِ الشهيَّةُ تَنمُو على بطنِ البَحْـرْ، وأنثاهُ البَهيَّـةُ سَحَاباتٌ تندَلِقُ…
“النّارُ: نِداءُ الجسدِ/ أغنياتُ الانْهمارْ..”
“وبهذه الترجمة/الشرح (رغم جمالها كجملة شعرية) أعلاه ضمن النص فإنها كمن ينسف ما قدم بإخراجه بذلك من سياق المواراة الذي ابتدر”
ومن ثم يستمر الأمر على ذات المنوال – أو بما يشابه – في كيفية تطمر الإدغام، وبذلك فإنها تفيض/تزايد على ذات الأفكار التي أوردتها ضمناً في أوجه عدة، ابتدرت بها أو ألحقتها للنص، والشرح عندي يقتل النص، وهنا وجه خطورة مضاف لما عنيت في البدء، ذا على الرغم من أن هذا لا يمس تكوين الجمل الشعرية بالنص التي اعتبرها مثاليةً في الكثير منها، إلا أنه ينبغي عليها توخي الحذر في إيراد الجملة حين لا تضيف جديداً للنص.
وأقول أيضاً:
أنت تكتبين من بعد يخصك/ أو تخترقين عبره وتطرحين ما ترين أو ما ترغبين في أن يكون نهجاً أو دليلاً لثورة ما أو لنقل تجاوزاً للسائد وفضًّا للمسكوت عنه.
تدلفين إليه بقوة لا تأبهين إن جاء مغلفاً أو بمنتهى الوضوح.
وما يهمني حقيقة ما دام أنه شعر أن يأتي بمنتهى الشاعرية والاختزال والدفء وووو الخ مقتضيات الشعر في حال كونه ملتزماً أو مُنفلتا..
وحسناً تفعلين:
أن تكتبي ما لا يكتب فهذا بحد ذاته منحىً أُثني عليه.
وقد قيل في ما معناه: (الكتابة التي لا تخلق عداوات لا يحق لها أن تخلد)
فبلا شك حين تكتبين بعيداً عن وخزِ أشواكِ الحذر سيخرج عليك من يحملون نبالهم وذخيرتهم، وأنا منهم بلا شك لكني سأكون بخلافهم فلسوف أقسو عليك في الشعر وبه وله لا عداه هذا إن أفلحت وقلت رأياً سديدا.
الفحوى
مُحددات:
1/ تتوالى/تتكرر عباراتٌ بعينها في السفر، ولعله من الطبيعي المتوقع والبديهي أن نمسك بهذه العبارات دون سواها ونقبل اندغامها في النصوص، نظراً لما تشير إليه ويخص منحى المجموعة الذي لم تحد عنه، ومن هذه العبارات التي نجدها في أغلب النصوص إن لم تكن كلها: الجسد، النار، الرغبة، الخصب، الشوق…الخ العبارات المتوقعة من أنثى رهنت سفراً بأكمله للحب والحنين والجسد في تجلياته الواضحة والخفية وووو.
2/ التوتر العالي باعتقادي كان السمة الغالبة على جميع النصوص مما يجعلنا نتجه إلى أنها نصوص بكر لم يطلها الكثير من ريح التغيير أو لم يجانبها في ذلك التوفيق، ونتجه كلية إلى أنها – ربما – لا رغبة لها في ذلك المنحى، الأمر الذي يدفعنا للقول وتأكيده بأن بها رغبة كامنة في ترك هذا السفر وفقاً لما جاء عليه لحظة مخاضه للاحتفاظ بعذريته وطزاجته والأهم أنه بذلك يدلل على صدقه الأكيد في الهوى والأسى وخلافهما، وهذه رسالة يشق على الشعر قبولها إلا أنها تعد أجمل ما يمكن أن يناله الآخر (المُهدى إليه السفر والقارئ الشريك) من هذا السفر برمته.
3/ جاء غلاف المجموعة {تصميم الفنانة التشكيلية ميترا اشترومايرا} صارخاً بالإيحاء والدلالات التي تشي بالكثير وتمضي منصبةً كليةً باتجاه العنوان وفحوى السفر، وعلى الرغم من أنه لم تبن ملامح أحد اثنين ممن علت جسديهما حُمى الانسجامِ في رقصٍ ضمخ الأرجاءَ بألوانٍ قانية ضاجةٍ تشرحُ حدةَ الانفعالاتِ التي توشحت فرشحت من هذين الجسدين في ثورتهما وتمايلهما وانسجامهما بهذا الرقصِ الماتِعِ، إلا أنه يمكننا القول إنه {أي الجسد الثاني} هو آخر تلك الأنثى المنبثق من بينها أو لنقل خيالها الذي ضرج أرجاءها بكل هذه الرغبة القانية، ولربما هو ذاته/الرجل مجابهها في الرقص والرغبة ما عنته…، والإرهاصات جمة.
وعلى مدى واحد وخمسين صفحة (قد تزيد أو تنقص) تعالت إلى سماء القلوبِ والأذهانِ صرخاتُ وشهقاتُ وآمالُ وموسيقى (تخفت وتعلو) أربعة عشر قصيد بين الطويل والقصير، بين الذي يهدر بالنشوةِ والحبورِ والذي يقضي في المرارات ويقتات اللوعة والاحتياج.
تحديقٌ في ثنايا النصوص
في شدوٍ متناثر الأحاسيسِ تخترقنا أنصالُهُ الرحيمةُ المُباغتةُ بين الفينة والأخرى بأحوالٍ شتى تشي بها الجُملُ إن من بين ثنايا النص الواحد أو النصوص مُجتمعة، حيث إننا نرى (مثلاً) الرّغبةَ الطافِحةَ بأشكالٍ وعباراتٍ مُختلفةٍ، منها:
من نص (أنثى المزامير) نقرأ (والنار حاضرة) على سبيل المثال لا الحصر:
يا دفوفَ النّارِ:
ارشقيني ببعضِ طُمأنينةٍ،
و حلقي بى عبر سماواتِ الرّغبةْ..
ثم نقرأ (كما التعريف الفطن للمعرف):
“النّارُ:
نِداءُ الجسدِ/
أغنياتُ الانهمارِ..”
ونقرأ (الاندغام في حلم اليقظة، ويقظة الذاكرة وسطوة الجنون والوطن):
ثمِلةٌ أنا بين ذراعيكَ،
مخضب القلبِ حين يناديك..
يا شهوةَ الحياة..
لا تكُنْ {طُحلباً} يهوى الطفحَ..
كني عُشباً يُزينُ وجهَ الشمسِ،
أكونكَ غيما يغسلُني معكَ من خطايا الانتظارِ،
أكونكَ هديرا/
جنونا/
وزهو وطن..
ونقرأ، ونقرأ، ونقرأ…الخ.
ثمة مقاطعٌ لا تُحصر تنادي دون كلل كي تضاف إلى الأمثلة أعلاه، وجميعها حملت كماً هائلاً من الدلالات، كأنما النص كله انعكاس تلك السمة التي تجولنا بحثاً عن عبارات صارخة تفضي بها أو مشفرة تدل عليها، فألفينا كل حروف النص تنضح بها، ولربما إن صح أمر البحث عن دلالات لسمات مختلفة أفضت بها النصوص إلينا، فإننا لا محالة سنؤوب إلى ما تقدم بالمحددات التي تناولنا سابقاً فنؤكدها، حيث تمت الإشارة إلى عباراتٍ بعينها تتواتر في نصوص السفر.
ومن منحىً آخر فإننا إن توقفنا عند مداخل النصوص فإننا سنلقى ما يؤكد هذا الأمر الذي ذهبنا إليه.
فيتواتر بتلك المداخل التمهيد المدروس بتوتره الشعري العالي للولوج، حيث أنها لم تبعد البتة عن مفاهيمٍ محددةٍ اختطتها لهذا السفر (كأنه كتب كله بزفرةٍ واحِدة)، وعلى الرغم من ذلك نجد الاستعارات والتشبيهات تتباين بين شطر وشطر رغم جلائها في الغموض لأنها أكثرت من الشرح بالمتن، كذلك نلقى الأبعاد متفاوتة وإن هطلت جميعها بذات النهر، وحتى في الخروج إلى مدىً كالأصدقاء والوطن فتحسُّ كأنها جاءت في ثنايا السفر/القصيد كملاذٍ لها، تتلهى به، وتسري بحِماه قليلاً عما بها من لواعِجٍ وشجن إذ سرعان ما تنكسر العبارات وتتكسر فتُلقي بأحمالِها لذات الجهة (جبريل) مجددا.
إنه سفرٌ وبامتيازٍ وإتقانٍ عالٍ – توجب الإشادة به – مضى إلى حيث ابتغى المضي، وقال الكثير بشكلٍ جسورٍ – وإن لم يُعل شأن الشعر فيه وشابه ما شابه من تكرارٍ وبعدٍ عن الاشتغال الشعري المدروس لكل مقاطعه – وسطر أحاسيسَ إنسانيةٍ دافئةٍ بانكساراتها وشكيمتها بوضوحها والتباساتها… الخ.
ولنورد مداخل نصوص السفر في ما يلي حسب ترتيبها بالفهرس:
1/ النّارُ على ضفةِ الغابةْ..
2/ انزع الأشواكَ من أسماكِ قلبي..
3/ تميمةٌ للذاتِ..
رنينُ ظهيرةِ الشجنِ (الرِّهاب):
حبيبى…
4/ هس…
إيشششششت….
لا توقظوا المنايا حين شدوٍ،
5/ جنتي ليستْ من عدنٍ في شيء،
لا أنهُر عَسلٍ ولا نبات يقين..
6/ مطرٌ يعوي..
والرُّوحُ،
لحين تطبقُ السماءُ على عفريتِ الشجنِ،
7/ يأتيني الخريفُ مرةً في العامِ..
8/ تعوينَ يا نارٌ تحتطبُ شوقَ كتاباتي،
9/ إلا على الماءِ بين أصابِعِ الصُّهدِ،
10/ حين تفكُّ اعتصامَ الرَّبكةِ من جبلِ شجوني..
11/ شهوتئذٍ انتصبتْ أمامكَ قامةُ أحلامي..
12/ ينزلقُ من رعشتي،
ويهدرُ بحنانٍ في حُنجرتي..
13/ دمٌ من حروفٍ،
خيولٌ تعوي،
وكلابٌ تصيحُ..
14/ في أولِ همهماتِ انبثاقُ شهوةُ النّارِ،
أدرني ريحاً من انهزام.
فَضُّ بعضَ نوايا النصوصِ
1/ في تمامِ الرغبةِ … إلا اشتعال
تقديم:
تساءلتُ: تُرى كيف تكون الرّغبة في تمامها إن لم تأتِ من اشتعالٍ؟
إذن فالرغبة الأولى وهي في تمامها أتت جراء اشتعال، لكنها لم تبلغ حقيقته/ أنها توطئة للاشتعال الأكمل؟
كأني بها تقول:
بلغتُ تمام الرغبة باشتعالاتِ أدت إلى ذلك، لكني لم أقطف الاشتعال الحقيقي/ الأكمل.
فإذن إن الاشتعال الأول المكتملة أركانه (مجازي) أو لنقل داخلي/مكبوت، يكمله أن يحدث الاشتعال الحقيقي. فجاء الاستثناء ليخبرنا بأنه لم يحدث.
ذا فيما يخص العنوان.
وللتثبت من مكيدة العنوان لابد لنا من طرق النص للتيقنِ مما ذهبنا إليه.
نوايا النص:
انزع الأشواك من أسماك قلبي، هدهد أحزان دمي على صدرِ موجٍ رحيمٍ ـــ لتزهر مرة رغوة الدمع، ينهض رمادها في سهوب التمني، أنواء وأنداء…
مجازاتٌ مُحكمةٌ ومكتملة الشاعرية: فالقلب بحيرة أسماكٍ (والأسماك أظنها تعني الانهزام/ الضحية هنا) وخزتها الأشواكُ (الأشواكُ عادة ما تستخدم بديلاً عن الغدر والخيانة) وتأمره أن ينزعها عنها ويهدهد (والهدهدة أبلغ ما يُهدى للطفل/ القلب حين منتهى حُزنه أو دلاله) أحزان دمها (وكيف يبلغ أحزان دمها؟) بوضع رأسها (رأس أحزانها) على صدرِ موجٍ رحيمٍ (لأن صدر حبيبها كموجٍ تهدأ عليه أحزانها، إذ الموج هنا جاء ليخبرنا بأنه يجرف تلك الأحزان عن دمها، وأتساءل ترى أين يمضي بها؟)،
كُلُّ هذا:
لتزهر مرة رغوة الدمع (تكثف الدمع وبلغ بعد أن ولدته الأحزان مدرارا مرحلة الجفافِ على الأجفانِ كرغوةٍ/ زبدٍ)، فتتعشم أن تزهر (تنساب) ولو لـ (مرة) (رغوة الدمع)، فـ (ينهض رمادها في سهوب التمني)، (أنواء وأنداء)…
لهثٌ يصافحُ عُمقا:
تعالَ إليّ يا حبيبي وقُم بما يتوجب عليك حيال هذا القلب الذي أدمته وخزات الخيانة والغدر، فضمده بصدرِكَ الذي أعلمه كموجٍ يكتسح دمي وينقيه من كل تلك الآثار السلبية، فلا ألقى حينها غير الدمع منسابا رغم أنه كان قد جفّ دون صدرك الرحيم ساعة تعرضتُ لما تعرضتُ له، الآن يمكنني القول بأننا (أي قلبي وأنا) سننهض أقوياء مفعمين بالتمني رغم أنا أوشكنا على التحول رمادا.
هدهدني… ليسكن في الروح هزيع الشجن، رج (رائب) ضجيجي، وسطوة انبثاقي فيك، قبلني عميقاً، ثم أفعمني بعناكب الصمت، اتركني ولا تعدني، كشجرة الميلاد أشهق، ولا يستر نواحي الصقيع.
ولا تقف عند هذا الحد (حد نهوضي مفعمة بالتمني) بل لتتصل هدهدتك (ليسكن في الروح هزيع الشجن) أي ما تبقى من أشجانٍ (واستخدام هزيع هنا غاية في الأناقة)، كذا {رج (رائب) ضجيجي} ورج (حرك) لأن رغبة/ الضجيج – الحياة كانت قد بلغت الحد الذي جعلها تطلق عليها (رائب) أي خدِرة/ مُخدَرةً، لذا فإنها تأمل منه أن يرجها كي تتفاعل وتعود كما كانت عليه، إضافة إلى ذلك ليؤكد لها سطوة انبثاقها/ وجودها متفتحة كوردة بحناياه، وليكتمل ذلك تطلب (قبلني عميقاً)، ثم (أفعمني بعناكب الصمت) فلا يهم بعد ما بذلت أن تلجمني بـ عناكب/ طول الصمت، ولتأكيد ذلك جاء (تأكيدٌ بلاغي جميل) فقالت: اتركني ولا تعدني (فيمكنني المقاومة)، كشجرة الميلاد (لأنه في ما يبدو يجيء في العام مرة)، ولحقت بـ كشجرة الميلاد العبارة: أشهق، التي أراها منفصلة عن شجرة الميلاد، ثم: ولا يستر نواحي الصقيع (إنها تقبل وتدبر، ترى مبتدأها حيث الأشواك فتؤخر وترى الواقع فتقبل على السماح له بالمغادرة)…
لملمة المقطع:
لا تُغادر، لتتصل هدهدتك، ضماناً لسكينة الروح، وهز/حرك رغبتي في الحياة/ضجيجي فأقوى، ويؤكد لي كل ذلك بأني لا أزال فيك ومنك منبثقة كوردةٍ عبِقةٍ، ثم لا مناص أن تغادر لما يتوجب عليك، ودعني أحاول الوقوف شاهقة في وجه الريح العاتية كشجرةِ الميلاد التي تضيء كل عام مرة بوجودك، وتقاوم الشتاء وضوؤك لا يزينها، وأعلم بحاجتي الأكيدة لبقائك، فلن أقوى على الحياةِ دونك، لكنه ما من مهربٍ من الأمر، فغادر ودعني.
انفض السامرون وبقيت وشجو الذاكرة، على جسدي معلقة مزامير، تعزف للنار حامية طبول جسدي، ودمعاتي بكاء الشمع، حراق الليل، وضجيج حكاياتي.
كل ما سبق كان يتقافز من ذاكرتي والأصدقاء حولي يسمرون، فلما أزف أوان الرحيل بقيت أنت بذاكرتي كلحنٍ سرمدي لها، لحن يتفاعل معه جسدي فيضحي كأنه ساح مزامير، يتفاعل حد الاشتعال، حامياً كأنه اتصل بنارٍ أو كأنه النار التي تُحمى الطبول عليها، وتنساب دمعاتي ثقيلة كما الشمع، والليل يحرقني والذكريات.
لمن ترقص حمائم القلب، وقد انفض السامرون، وعلى المسيح صلبت آخر أمنياتي، رقصت يا شجرة الميلاد، يا شاهدة على مشوار الصبر، يا حافظة رفاتي.
ثم إني تعبتُ من تقمصكِ إشراقة..
إلا أنني اشتعلتُ تماماً، وقد لا أكون على صوابٍ في ما ذهبتُ إليه أعلاه، لأن إكمال قراءة النص قد تسلمك كامل مفاتيحه، لكني أحبذ البطء والالتفاف السريع في القراءة وعدم إكمالها، لمحبتي تكوين عالمي خلاله، وعالمي هو ظلال عالم كاتبه أي تلمسي/ تقمصي ما عناه جُملةً جُملة، وترك المجال أرحب لقارئ آخر كي يلغي ما ذهبت إليه ويفض معالم آخر في النص.
واختمُ:
ازدحامٌ طوَّق هذا النص، فرغم اشتغاله على بُعد الرّغبة (المفردة) إلا أنها (رغباتٌ كثيراتٌ)، حيث يلوحُ الحبيبُ والسُّمارُ بما يتبعهم من حيواتٍ وأشياءٍ تحيط بذاكرة اللحظة/ لحظة الخلق.
(أعدتني إلى نص: يتقاطرون – وهي قصيدة عصماء لصديقي الشاعر العراقي المقيم بالسويد: سعد الياسري، وأحسبها قصيدة واضحة حيث تراص من تقاطروا والإشارة إليهم بلغةٍ شاعريةٍ مُبينة-)
وهنا أجدهم (أيّ مجموع من بالذاكرة) مُتدفقين جنباً إلى جنب بل ربما يكون قد تم دمج تدفقهم/ تقاطرهم في ذات الإناء مرات عدة (أو هكذا أظن)…
النص رغم لغته الشعرية لم يخبئ في ثناياه نغماً يلحظ بل جنح إلى التصوير الدقيق مستخدماً الدلالات المتجانسة في الجملة الواحدة التي تتبع ما يليها في وحدة الفكرة لكنها لا تتكامل معها نغماً، بمعنى أن النغم الداخلي للنص خافت أو متباعد ولربما يعزى ذلك إلى التنقل من درب إلى آخر حيث انصب الاهتمام أكثر في المعنى المراد لا غيره.
وكما أسلفتُ رغم الجمل الشعرية المكثفة إلا أني رأيتُ النص تقريرياً يحمل حالات فقد محددة متماسكة.
كذا فإن استخدام الجمل الشعرية بالانهمار الذي بالنص لا يعد له بل عليه لأنه يمسي قتلاً لها في ما يمكن إيصاله بعباراتٍ أقل.
رغم ذلك فإني قرأتُ أبعاداً جميلةً ووثابةً لكني أرى أن تعمدي/ تتجهي إلى تقطيع النص (والنصوص المشابهة) {كما أشرت سابقاً} إلى أجزاءٍ لترينها بوضوحٍ أكبر، وحتى لا تسمحي للتقريرية والاسترسال الذي لا طائل منه ولا شعرية فيه بالطغيان.
2/ صحراء الجسد………جسد الصحراء
تقديم:
حين نلتفت إلى الجسد الجسد، فإنا لا محالة سنغرق في تفاصيل شائكة، لأنها تفاصيل لا تحد، والأكيد بأني لا أعني تفاصيل العيان وإنما الثنايا من اشتعالات وخمود واكتفاء… الخ، تلك التفاصيل الداخلة في الآخر، المنفلتة منه، والضاجة حوله، له وبه وعليه، ولا نقدر على الإمساك بها والغوص، لكننا نندغم في الفعل، فلا نرضى، ونندغم في الشرح، فلا نهتدي… الخ…
“صحراء الجسد…جسد الصحراء”، لعلها محاولة للغوص، أو هي للتذرع بالجسد واستغلاله كدالة تفضي بنا إلى مرامٍ أُخر، أو لعله شيء آخر، فلندلف..
نوايا النص:
يأتيني الخريفُ مرة واحدة في العام..
والخريف ليس أوان الخصب والنضار، لكنه أوان المطر والبلل، وبمفتتحٍ كهذا فإننا أمام تأويل ينفلت منا باتجاهِ البِلادِ التي يأتيها الخريف بتوابعه من مطر وبلل وتباشير خير عميم مرة واحدة في العام، وهذا صحيح، مما قد يجعلنا نؤول صحراء الجسد… جسد الصحراء برمتها إلى البِلادِ فهي الجسد للصحراء وهي الصحراء ذاتها وذا منحى ثان إن سلمنا به.
وتأويلٌ آخر يتجه بنا إلى الجسد الجسد..
ولأنه ضمن إلى (أنثى المزامير) كمجموعة اتجهت كلية لمنحى الهوى ولواعجه ومقتضيات اكتماله فإني أتجه إلى الجسد، الجسد الذي يأتيه الخريف مرة واحدة في العام فيرتوي، والمعني بهذا أحسبه جلياً.
وطمثُ الصحراءِ يبلُّ صُهدَ الأشجارِ العاريةِ..
تبدو (طمث الصحراء) في بدء هذا المقطع المكمل لما سبق بدلالة {واو العطف} كجملة تأكيدية أو إكمالية أو لشرح سابقتها (يأتيني الخريف) إلا أن الفرق بينهما (وذا أمر مربك ملتبس) هي أن الطمث يأتي بشكلٍ شهري بخلاف المطر، مما يدفعنا إلى التساؤل إن كانت الجملة لم تحسب جيداً وأسقطت/أقحمت بالنص وأن النصوص لا تعدو أن تكون جملاً تتساقط تباعاً دونما رابط بينها، أم أن هناك دلالات غائبة أو مغيبة عن المشهد ينبغي علينا اجتذابها من حنايا النص، ورغم أننا بالنظر إليها بتؤدة فإنها جملةٌ لا محالة تأكيدية وإكمالية تشرح ما قبلها في الوقت عينه إلا أن شاعرتنا لم تفلح في اختيار مفتتحها رغم صلة القربى بين الطمث والمطر فكلاهما بلل، ففيما يبتل الجسد بالطمث تبتل الصحراء بالمطر، ويتضح الانقلاب الذي اعتمدته في ربط الصحراء بالطمث وربط الجسد بالمطر.
فإذن يمكننا قراءة هذين المقطعين معاً، بأن هذا البلل للروح والجسد بالهوى يأتي تماماً كما الخريف الذي يغمر الصحراء التي ترقبه فتتشقق {كدلالة على الحاجة والرغبة الجامحة} لتحتوي ماءه فتبتل كما الأشجار الظامئة..
والشتاءُ قارصُ القلبِ/فاتنُ الذّكرياتِ..
يُحرضُني لغِناءِ رجُلٍ مُنتصِبٍ في (فنتازيا) أُنوثتي، يُعريني من أحزاني، وأُعري ذاتي حين هديلٍ..
كُلُّ هذا الاحتياج الذي التقينا به وتمثل في دلالات الصحراء والأشجار، ومن منطلق أن الصحراء الأشد احتياجاً للماء فلا يكفيها البتة ما ينهمر عليها بفصل واحد من العام إذ لا تلبث إلا قليلا حتى تتشقق رغبتها وهي التي لم تبتل أصلاً، ومن منطق أنه حتى في الجهة الأخرى فإن الأشجار (وهي دلالة أخرى تختلف عن معناها الأساس بل وحتى المعنى الذي استخدمت لأجله هنا) التي تعني أنه حتى اللاتي يُكابرن ويتوارين خلف قناع الحياء بالصمت عن حاجاتهن فإنهن بحاجة إلى الماء لتبتل عروقهن عارية الظمأ…
كُلُّ هذا الاحتياج لأن الشتاء (بزمهريره اللافح حتى أقاصي الروح) يزمجر ويقرص القلب ويفتح صنبور ذكرى الأوقات الفاتنة ويحرض على التهام غناء من انتصب بالذاكرة لا يتزحزح وإن تلقفتني المشاغل الجمة إذ هو في تفاصيل أنوثتي الطاغية يعري أحزانها مثلما تتعرى روحي للهديل..
فإذن وفي لهاثٍ لا ينقطع لتثبيت ذات المعنى بالأذهان، فإننا أمام مقاطع متشابكة ومرتبكة الأبعاد وتفضي برمتها لذات المعنى “يأتيني الخريفُ مرة واحِدة في العام، وطمثُ الصحراءِ يبلُّ صهدَ الأشجارِ العاريةِ.. والشتاءُ قارصُ القلبِ/فاتنُ الذّكرياتِ.. يُحرضُني لغِناءِ رجُلٍ مُنتصِبٍ في (فنتازيا) أُنوثتي، يُعريني من أحزاني، وأُعري ذاتي حين هديلٍ.”
كأني بها تستخدم كل هذا الركض الحرفي لقول إن هذا الجسد وقفاً عليك إن زرته مرة في العام “بل وأحسبها تعني: حتى إن مرة في العمر” فإنه سيبقى حِكراً لك، لأنه مثل الصحراء والأشجار يكتفي وإن به كل الظمأ لأنه لا يملك أن يتحرك حيال الماء أو يحرك الماء إليه، فيبقى كالشتاء (رغم أنه أوان القحل) تقرصه الذاكرة (فتمطره بكل الجمال الذي كان) فتتلاشى الأحزان.
يساقطُ توتُ الخطيئةِ، ويضخُ دمُ الهزيمةِ: أناشيد الأعرافِ المدفونةِ في جسدِ الصحراءِ.. وأنتَ هو الخريفُ الذي يأتيني مرةً في العامِ، أفكُّ نصوصَ جسدِكَ، وأنثرُها في الفضاءِ.. فمن أنا يا خريفي الذي يأتيني مرةً في العامِ؟
وذا تأكيد ما سبق، أنهزم بين يديك ويتلاشى كل الكبرياء الذي كنت امتطيه، فحالما تأتي أنت (وأنت هو الخريف الذي يأتيني مرة في العام) تتلاشى كل العُقدِ واحِدة إثر أخرى ويستحيلُ هذا الجسد طيعاً كحروفٍ تصعد إلى السماءِ، فما أنا سواك وإن أتيتني مرة في العام خريفي!!
خاتمة
شكراً لكِ (إشراقة) على كل هذا العنفوان والجموح بروحك، وشكراً لك على كل هذا الدفء والشاعرية والجمال بقلبك، وشكراً لجبريلك (الوحي والرجل) لأنه يستحق الشكر ويستحق هكذا روحا وقلباً.
ودمتم في الهوى إلى المنتهى.
* كاتب من السودان