ثمار

متاعب التفكير الإبداعي الأدبي على البصري – عثمان سامبين نموذجاً

وجدي كامل

تعد تجربة الروائي والمخرج السينمائي السنغالي عثمان سامبين، في توظيف العلاقة بين الرواية والفيلم، تجربةً غير مسبوقة في المحصلة العامة لتاريخ الفيلم. فالفيلم السينمائي كان قد عرف قبل سامين نزوعاً خاصاً في كتابة المخرجين لنصوص أفلامهم، حيث مثل ذلك جريفت وإيزنشتين ثم شابلن وفون سترو هايم وويلز وفيليني وآخرين مثل كورسادا وأنطونيوني وبرجمان وزافاييني. ولكنَّ مساهمة سامبين قد عملت في درجة أعلى من ذلك، بأن قام الروائي والقصصي السنغالي بتحويل أعماله الأدبية إلى أفلام سينمائية.
ورغبةً في تعميم الدلالة العامة لهذه الورقة، سأتَّبع طريقة وضع الأسئلة أو العناوين الجانبية، حتى نتمكن من التعرف على تأثير الخبرة الفنية في كتابة الرواية، على التعبير اللغوي البصري، والعلاقات الفنيَّة المتبادلة بين فنَّيِّ الرواية والفيلم لدى سامبين، تأسيساً على الفرضية التي تقول بأن الخبرة والسبق الأدبي لسامبين في ممارسة كتابة الرواية والحكاية والقصص القصيرة، قد أعاقت وأخرت إلى درجة ملحوظة، سيطرة سامبين على التعبير البصري.

دوافع الانتقال من تعبير الرواية إلى الأفلام
الدارس أو المضطلع على مساهمة السينمائي السنغالي، والذي سيصبح فيما بعد أباً للسينما الأفريقية جنوب الصحراء، لا بد أن يسترعي انتباهه ومنذ الوهلة الأولى أن التكوين الآيديولوجي والتوجه السياسي، كانا الحافز والمحفز الأساسي في الإنتاج الإبداعي الروائي والسينمائي لسامبين.
عثمان سامبين السنغالي الشاب وقتها، والذي أصدر أولى رواياته (عامل الميناء الأسود) عام 1956، ومن ثم رواية (وطني – شعبي الجميل) عام 1958، و(آلهة الأخشاب) عام 1960؛ لم يُثْنِهِ ذيوع رواياته والشهرة الواسعة ومردود التعليقات والكتابات النقدية الإيجابية النوعية على أعماله الروائية، من روائيين ونقاد فرنسيين أمثال روجيه مارتن دوغارد، ولوي أراغون، وجان بول سارتر؛ فقد واصل الروائي البحث عن وسيط أشد تأثيراً وجماهيريَّة لتعميم الأفكار التي أراد نشرها. وقد صرح بذلك في عدد من الحوارات الصحفية، وخاصة في لقائه مع الناقد السوفيتي سيمن شيرتوك، مؤلف كتاب بدايات السينما الأفريقية (والذي ترجمه السينمائي السوداني سليمان محمد إبراهيم إلى العربية فيما بعد).
يقول سامبين في إجابة عن سؤال السبب أو الدافع الذي جاء به من الرواية إلى السينما: (إن المسألة تكمن في أن 80% من سكان أفريقيا أُميُّون، لذا فإن كتبي تقرأها الصفوة، والتي لا تتجاوز نسبتها الـ5% من النسبة الكلية للسكان)1.
هنا يلاحظ أن الرجل قد وضع القيمة الدعائية والتربوية لأفكاره نصب أعينه في اختياره التعبير الفيلمي. فسامبين العامل السابق الذي شارك في إضراب السكك الحديدية بالسنغال، عام 1948م، والنقابي لاحقاً والذي رأس اتحاد العمال الأفارقة بميناء مرسيليا؛ كان من الواضح أن المحرك الجوهري لتجربته الإبداعية، هو مخزون التجربة الشخصية المادية التي عاشها، وفق المفاهيم السياسية اليسارية العنوان، الماركسية المنهج. فانتقال المخرج من الروائي، لم يتم أو يقع بدوافع البحث والرصد والتأمل الفلسفي الفني في علاقة لغة الرواية بلغة السينما، أو من رغبة التجريب الفني كلعبة قد تستهوي البعض أحياناً، بل بأهداف نشر الأفكار على أوسع نطاق، وإيصالها إلى الجمهور الأفريقي العريض، والذي وبحكم مفاهيمه أشد ما يحتاج إلى مخاطبة تعمل على التنوير والتبصير والتثوير للوعي رغبةً وإمعاناً في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي للواقع الأفريقي، الذي كان يرزح وقتها تحت شروط النير الاستعماري المباشر. الدعاية والتربية والقيام بدور المثقف التنويري هي خلاصة الاختيار الذي كان يتناسب تماماً مع عموم الأدوار التي رأى فيها مثقفو وأدباء تلك المرحلة أنفسهم، في علاقتهم بالأرض والجماهير، وفهموا من خلالها الوظيفة التاريخية لإنتاجاتهم، على الرغم من الإشارة المتكررة التي ظل يبعثها سامبين في العديد من الحوارات بأنه ليس بالسذاجة التي تجعله يعتقد بأن الأفلام بمقدورها إحداث الثورة على الواقع الأفريقي الماثل. ذلك ما كنت قد فصلت فيه ودعمته بأسانيد عدّة في الكتاب. وبالتالي يصبح التكوين الآيديولوجي ليس ببيت القصيد في ورقتنا هذه، وإنما التكوين الأدبي الكتابي للرواية والحكاية والقصص القصيرة.

انعكاس الرؤية من الأدب الروائي والقصصي إلى الأفلام
كانت السينما أو فن الفيلم، هو الوسيط الذي اختاره وسعى إلى تعلم أبجدياته ولغته، عندما سافر سامبين إلى الاتحاد السوفيتي عام 1961، وهو بن الثامنة والثلاثين، ليدرس الإخراج على يد المخرج السوفيتي مارك دونسكوي، ومساعده سيرغي غراسيموف، بإستوديو غوركي، ليعود إلى أفريقيا، ويُخرج أول أفلامه (باروم شاريت) أو (الحوذي). حمل فيلم الحوذي أولى القسمات والملامح ذات المنطلق الفكري التثويري والتحريضي لسامبين من فن الرواية إلى فن السينما. ففيلم الحوذي مثَّل أول أفلامه، عند عودته بعد فشل مشروع فيلميٍّ أوليٍّ كان يخطط لتنفيذه بجمهورية مالي.
نجد أن موضوع المعالجة، قد اتخذ من حوذي بسيط طيب القلب، شخصية محورية يقوم مجموع البناء الفيلمي عليه، ومتابعة حركته اليومية منذ لحظة تجهيزه لحصانه وخروجه من البيت إلى الشارع.
ليبدأ رحلة عمله اليوميِّ في توصيل الجمهور إلى غاياتهم وأغراضهم المكانية إلى أن يستأجره أحد الشباب الحداثويين الرامزين إلى فئة المتعلمين الوطنيِّين، وشريحة الأفندية ذات  الملبس والمظهر المختلف، ويذهب به إلى المنطقة المحرمة والخاصة بمؤسسات الحكم وسكن البرجوازية الوطنية الجديدة التي حلت محل المستعمر الفرنسي، وتتم معاقبة الحوذي بأخذ العربة الخشبية التي كان يجرها الحصان، ويعود الحوذي إلى أعقابه حزيناً خاويَ الجيب ممسكاً بحصانه الذي كأنما كان يشاركه ذات الشعور بالمأساة.
كتب الناقد روبرت أ موتيمر واصفاً هذا الفيلم:
(إن من إيجابيات الإخراج بهذا العمل، أن المخرج تمكن من الاستفادة القصوى من الأمتار القصيرة في تصوير أجواء البؤساء، وعمق تعلقهم بالحياة في الكفاح غير المنقطع الذي يبدونه، رغم خيبات الأمل الكبيرة. فالأغنياء هم الذين يصنعون القانون، فيتضرر منه الفقراء. فالحوذي يعمل المستحيل لإعالة أسرته والمحافظة على زوجته، التي رغم كل ذلك تهجر بيت الزوجية في النهاية. إن من العلاقات المميزة للفيلم، هو ذلك المزاج الذي صنع به: إنه ليس بالمزاج الثوري، ولكنه مزاج حزين يترك انطباعاً حادَّاً وقوياً لدى المشاهد.) 2
الفيلم ورغم التطبيقات الفنية والجمالية التي عمل على استعراضها وتوظيفها عثمان سامبين في مجمل البناء؛ وعلى الرغم من كثافة الرموز والدلالات البصرية والمؤثرات السمعية عبر الموسيقى التي انطوى عليها، وتعليقات النقاد إلى الدرجة التي تم تشبيهه فيها بأفلام الواقعية الجديدة؛ إلا أنه حمل في أفضل عناصره التكوينية جينات الخبرة الأدبية لسامبين، والتي تجلَّت في النفس السردي ولغة المنولوج الموحية المؤثرة، التي استخدمها للتعبير عن العالم الداخلي للحوذي. لقد انعكست فنيات السرد الروائي المكثف هنا، ولكن بتقنيات أخرى جديدة تعبر عن حالة الزواج الماثل بين الصوت والصورة في مثل هذا النوع من الأفلام التمثيلية أو الروائية غير الناطقة.
من الناحية العملية، نتمكّن عبر الملاحظة الآنفة، من الإعلان عن أول علاقة أو حالة تماس تجري بين الرواية والفيلم – إنها السرد أو الحكي.
إن الروائي هو التطور الطبيعي للراوي الشفاهي في المجتمعات التقليدية، باستخدامه فنيات الأداء الصوتي ومفرداته اللغوية في توصيل البناء الحكائي، وحمْله من لحظة البداية حتى النهاية، بحيث يُحدث الطاقة التأثيرية الساحرة على المستمع.
أما في الفضاء البصري الفيلمي – فضاء السرد بواسطة الصورة المتحركة وعناصرها المساعدة من مؤثرات سمعية – فيتحول المخرج كذلك إلى حكواتي (غريو) ولكن بأدوات أخرى مُغايِرة. وليس من الصحيح التعبير عن تلك الأدوات بأنها أدوات بصرية خالصة ومطلقة، بل عدة أجناس تعبيرية، يصبح الأدب أهمها، وخاصة في الفيلم الروائي.
من هنا، من هذا النموذج الفيلمي الأول لسامبين؛ يمكن الإشارة إلى مواطن قوته التعبيرية في الأفلام وبداية ورطاته ومتاعبه في التعبير البصري. إنه وفي المفاهيم النظرية، يؤكد أهمية أن يقوم المخرج الأفريقي بالاستفادة من مخزون التراث الشعبي الأدبي، ولعب دور الحكواتي، ولكن التبسيط الذي عبَّر به سامبين عن رؤيته جعل منها إشكالية فنية وجمالية في مستقبل إنتاجاته الفيلمية، خاصة عندما يعلو موج الأدب من خلال الحوار والتقنية النطقية، ويطغى على حساب بقية المفردات البصرية الجمالية للفيلم.
ذلك  ما عبر عنه واختلف فيه السينمائي الرائد بولين فيرا، ناقداً الآراء التي كان قد اجتمع عليها عدد من النقاد والسينمائيين والمنظرين الأوروبيِّين من أمثال: رينيه غارودي وجان رينيهو بياتريس رولاند الذين وجدوا في فيلم: (نياي) (أسطورة أخلاقية تتشابك عناصرها وتلتحم وبنحو مباشر مع نسق التقاليد الشفاهية الأفريقية.)3. أعاب فيرا على سامبين في هذا الفيلم (رجحان كفة التصوير الأدبي المتصل بثقل نبرة الأسلوب الوعظي الأخلاقي.)4
سامبين في الأفلام التي تلت الحوذي مثل (نياي)، و(سوداء من…؟) يبدو باحثاً عن شكل فني يحرره من صفة الروائي الأدبي، ولكن باستخدامات أوغلت في الرمزية أحياناً، مما أوجد حالة من الاعتقاد لدى عدد من النقاد الأوروبيِّين، بأن كل ما لم يكن مفهموماً عبر الشكل الفني يقع ضمن نسق العلاقات الرمزية المغلقة عليهم، والممنوع فهمها دون تفسير ذي مرجعية ثقافية أفريقية. وقد أحدث جانب استخدام الإيقاع السردي البطيء والممعن في الثقل أحياناً إلى وصف تلك الحالة بطابع بطء الزمن الواقعي الأفريقي.
فيلم الحوالة البريدية 1968، والذي كان في الأصل عبارة عن قصة أدبية  طويلة. شكَّل الفيلم الأكثر نيلاً للضربات النقدية في إطار العلاقات المتداخلة بين التعبير الروائي الأدبي، وخاصة في جانب البناء الحواري، وجانب إستقلالية اللغة السينمائية. فذات العلل في الأفلام السابقة له، قد تكررت وبنحوٍ أشدّ خاصة في بناء المشاهد وترسيم حركة الممثلين أو ما يعرف بالميزانسين وكذلك البطء الإيقاعي.
ففي نطاق التعبير بأحجام اللقطات، مال الفيلم إلى استخدام اللقطات العامة واللقطات الثابتة، دون اهتمام بالتفاصيل واللقطات المتحركة، مما دفع  باتهام نقدي نوعي جديد من قبل الناقدة مارغريت تاريت التي قالت عنه: (عندما نشاهد هذا الفيلم يتضح وبنحوٍ جليٍّ أن مهمته الرئيسية كانت مهمة اجتماعية وليست سينمائية.. هذا الفيلم يظل مغلفاً بالروح المسرحية.)5.
ما الأسباب في عدم استقرار الشكل الفني البصري للفيلم عند سامبين وقتها:
من المعلوم والمفهوم تماماً أن ثمة روابط عميقة تربط بين كافة الأنواع الإبداعية الفنية. وكذلك من المعلوم والمفهوم تماماً، استقلالية كل نوع بلغة خاصة وقوانين فنية ذاتية، لا يجوز تحويلها أو إسقاطها من نوع على نوع آخر. ولكن أكثر من ذلك، فإن ميكانيزم الإبداع الكتابي من شعر وقصة ورواية ومقال وغيره، وبالمقارنة مع ميكانيزم الإبداع البصري؛ نجده يختلف تماماً من لحظة عمل الدماغ على الفكرة حتى لحظة إخراجها والتعبير عنها في قالب فني مختص. فميكانيزم الإبداع الكتابي يعمل على صور الحروف والكلمات ذهنياً، ويلعب على ذخيرتها والطاقات التي تحملها، وتجيز انطلاقها عمليات تكوين الجمل وتوليف تتابعاتها. ومن ثم تأتي الأحكام الفنية والقواعد التعبيرية والمستويات البلاغية. إنها نوع من العمل الذهني المختلف المؤدي لا محالة إلى وضع حالة من التفكير الممكن تسميته بالتفكير الأدبي وليس التفكير اللغوي –(ذاك خطأ شائع كثيراً ما نقع فيه، إذ أن التعبير البصري، هو أيضاً تعبير لغوي، وكنه غير محكي أو مكتوب على الأنساق الأدبية).
عثمان سامبين مثله مثل أدباء روائيين، راكم خبرة هائلة من التفكير الذهني الأدبي، والذي يجيز التصوير بواسطة الكلمات والوصف الأدبي الروائي والقصصي، والتي وعندما تتحول إلى فن القص الفيلمي السينمائي، تتطلب ومنذ البداية تحويل نظام الوصف المقروء أو المسموع إلى نظام المشاهدة؛ أي تحويل الموصوف والمرسل من الأفكار بلغة مكتوبة أو محكية إلى مشاهدة مادية، إلى حياة تسمع وترى وتتحرك في آن واحد. ولذلك ظهر السيناريو كنوع فني وسيط لتحقيق الأفلام، وكذلك المونتاج كنظام للتوليف له ذات قوانين المشاهد في الحياة ومحاولة تجسيد تفاصيلها مرئيّاً.
ولكن تظل عملية كتابة السيناريو في حد ذاتها رحلة شاقة من هضبة الأدب إلى هضبة الصورة والحياة المرئية الناطقة. تعد شريحة الأدباء أو الممارسين لأنواعها من الشرائح التي تواجه صراعاً قاسياً ومضنياً بهدف إحداث الانتقال من الهضبة الأولى إلى الثانية، لما تتطلبه من عتاد مختلف. ولكن قد يحدث ذلك تدريجيا.
في الأفلام التي تلت مثل (خالا) 1971  و(أميتاي وسيدو) يبدأ سامبين في الإفصاح عن مواقع التميز والاستفادة من خبرة الكتابة الروائية والقصصية لصالح التعبير البصري، وبمسافات بائنة عندما يبدأ في السيطرة على الشكل الفني واللغوي للفيلم نسبيّاً، بالمقارنة مع فيلميه الأخيرين (المعسكر) و(مولاد).
كيف حدث ذلك؟
حدث ذلك عندما بدأ سامبين يعي أن السيناريو كجنس إبداعي سينمائي لا يمت بصلة أبداً إلى الرواية، إلا في بنائه الحواري. فالسيناريو لا يكتب لأجل القراءة وجني المتعة الأدبية منه، بانفصالٍ عن الغرض منه، وهو تحويله إلى فيلم مشاهد، إلى عمل بصري يترجم أفعال ووصفات الحركة عبر تكوين الشخوص الذين يتحولون إلى مؤدين، ممثلين. إنه جنس غائي غايته الفيلم، يسعى إلى الفيلم في متنه وكافة هندسته، إنه الفيلم مكتوباً على الورق، وهو بالتالي يتطلب فقط الإيفاء بمتطلبات التعبير والبلاغة الفيلميَّيْن. استطاع سامبين الروائي، أن يعبر إلى سامبين السينمائي بصفة فارقة، منذ فيلم (سيدو). ففي هذا الفيلم يبدأ في الظهور تدريجياً التنوع التعبيري في إدارة سامبين لاستخدام اللقطات والتقنية التصويرية الداعمة لديناميكية الأحداث والمزج بينها وبين الاستخدام الذكي للمؤثرات الموسيقية والطبيعية. على أن فيلم سيدو، ورغم تقدمه النسبي في التعبير البصري، لم ينجُ من الملاحظات النقدية في جانب التعبير السينمائي البصري من بعض النقاد، وخاصة الناقد الأمريكي كولا، والذي كتب: (أسلوب الفيلم قصصي خالٍ من الرمزية المصقولة المتصلة بطرق القص البصري).
لقد أفلح سامبين وعبر فيلمه هذا والأفلام التي سبقته، كما فيلم (خالا) الذي تلاه في خلق دراماتورغيا، تعمل لصالح الرؤية الوصفية الأدبية للأحداث وبناء الشخصيات، متفوِّقا بنحوٍ خاص في صياغاته الحوارية بينها.
فيما بعد تنضج أدوات التعبير البصري لدى سامبين، ويتمكن من إحداث الزواج الخلاق بين القدرات السردية الأدبية، وبين القدرات السردية البصرية، عندما ينتج فيلم (المعسكر) وفيلم (مولاد).

خاتمة
السؤال النظري المهمُّ والذي يتطلب منَّا جميعاً الإجابة عنه، هو سؤال العلاقة بين الرواية والفيلم: هل هي علاقة رفد تاريخي من الرواية لفن الفيلم في لحظة حرجة من تطور الفرجة السينمائية كاد فيها أن يفقد الفيلم جمهوره بعد انقضاء مرحلة المشاهدة برأسمال الدهشة من الآلة الجديدة للعرض والصور المتدفقة في حيز من الظلام، ورفد لاحق لفن الفيلم لفن الرواية في أساليب السرد والإيقاع والانتقالات الزمنية كما يجمع عدد من المنظرين والنقاد والمختصين، أم هي علاقة طبيعية بين نوعين إبداعيَيْن مثلها مثل علاقة الفيلم بالمسرح بالموسيقى والمعمار واللون والتمثيل وغيره؟
في التجربة  المتنوعة، الخصبة لمسار بعض النقاد، كما الروائيين المتحولين إلى كتابة النص السينمائي (السيناريو)؛ نكاد نعثر على آراء متباينة. فالناقد الفرنسي مارسيل مارتن والذي اشتهر برأيه عن عدم توفر الخاصية التسجيلية في الفيلم التسجيلي، طالما كان هنالك مونتاج يتم، يرى أن الفن الأقرب للسينما هو المسرح، وخاصة المسرح القديم مستنداً إلى أن كلا الفنين يعتمدان على ذات الجمهور الضخم والواقع الاجتماعي العظيم، كما أسطورية العرض. ولكن على المستوى السايكولوجي، يقترب الفيلم والعرض السينمائي إلى الرواية، مبيناً أن كلاً منهما ينزع إلى خلق الإنصهار العاطفي بين الشخصية والجمهور.
في وجهة نظري، أن هذه العلاقة علاقة خاصة، معقدة تكتنفها جملة من العلاقات والاشتباكات المتبادلة. السينما تبدو كفضاء مستقل تماماً عن فضاء الرواية، ولكن كليْهما ينطق بفنيات سردية عامة متشابهة وتقاسيم تعمل على توظيف الوصف والأحداث بلغته وأدواته. فالحديث الشائع والرائج أن الفيلم الفلاني أو ذاك الفيلم مقتبس من الرواية الفلانية، هو حديث – في رأيي – تعوزه الدقة، بسبب عدم وجود اقتباس البتة. فتجارب الاقتباس بمعنى النقل الحرفي للروايات للأفلام، مُنيت بسمعة سيئة عبر التاريخ السينمائي كرواية سكوت فتزج ألد ورواية أفرانس نورس (الشبح)، التي حوَّلها المخرج فون ستروهايم إلى فيلم استغرق عرضه عشر ساعات، كما في النسخة الإنتاجية الأمريكية لرواية تلستوي (الحرب والسلام)، والتي عاكستها تماماً معالجة المخرج السوفياتي بندر شوك. ذاك التيار من الأفلام عمل على قاعدة خاطئة، وهي الإبقاء على البناء والمبنى الروائي الأصل، والعمل على إيجاد المعادلات البصرية لكل جملة أو فقرة منه.
الاقتباس يعني النقل الحرفي والترحيل الفيزيائي لجزء من كلٍّ يشكل المرجعية والأصل، مع الاحتفاظ بالملكية والبصمة الخاصة. بينما الذي يجري في (الاقتباسات)، السينمائية هي معالجات تكاد تستقل في الكثير من التجارب عن روح وشكل الرواية المرجع الافتراضي، أي ما يعني أن الفيلم في معالجاته للرواية، يجنح ويذهب صوب إحداث استقلاليته الفنية، أو إقامة مبناه الفني المغاير لمبنى الرواية. فعناصر مبنى الرواية وموادها هنا، يتم الاستغناء عنها تماماً، وتعويضها بعناصر جديدة مادية أخرى، أي وفي كلمة واحدة إخضاع المادة الروائية لقوانين الإحياء والحياة الفيلمية في كافة تفاصيل البناء وكذلك الوصف. ولا غرابة أن نجد مُخرجاً فذاً كأندريه تاركوفسكي، لا يرى علاقةً للسيناريو بالأدب. ولا غرابة عندما يرفض عدد من الروائيين العظام الاعتراف بأفلام عالجت رواياتهم كنجيب محفوظ ووماركيز ومارجريت دورا والن روب جريبة، الذين لم يبقوا ككتاب روائيين، بل تحركوا إلى موقع كتابة النصوص السينمائية، أي السيناريو بحثاً عن عالم أشد تدفقاً بالحياة، وامتثالاً لقوانين فنية مختلفة من الكتابة الغائية للفيلم وليس للأدب، عندما يتعرَّض المؤلف السينمائي للدخول في مغامرة إبداعية تتطلب مغايرة نظام المعالجات في مستويات كالسرد وتسلسل الأحداث والشخصيات والزمن والإيقاع. ولقد شهدت تجارب الإنتاج الفيلمي للعديد من المخرجين الحضور القويَّ لخبرات إبداعية سابقة في أعمالهم السينمائية كالرسم والشعر والمعمار والتمثيل والمسرح والرواية، كما في تجارب ماثلة. وأخيراً دعونا نتأمل في المقولة الثاقبة العميقة للمخرج الفرنسي جان لوك غودار والتي تصلح كوصف جازم لوضع حل للعلاقة بين الفيلم والرواية حين يقول: (الفيلم ينمو في لغة مرئية ويجب أن نتعلم قراءة الصور). نعم يجب أن نتعلم قراءة الصور في مظانها ومرجعياتها البصرية، لا تأويلها وخيانتها بالأدب ونظم التفكير الأدبي العتيقة المؤلمة النتائج في معظم الإنتاج العقلي الشرقي ومنه السوداني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- سيمن شيرتوك- بدايات السينما الأفريقية -1975 ص73
2- مجلة الفن الأفريقي – باريس- 1972 –ص 64
3- مجلة السينما الأفريقية – 1975 ص 161
4-نفس المصدر ص 121
5- مجلة الفن الأفريقي –شتاء 1973–ص 52

 

* مخرج ومنتج سينمائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى