الحياة بمجملها بحر من السلطات لدى الفنان التشكيلي معمر مكي عمر -خريج كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في العام 1996 – والذي يواصل مجيباً: “نعم الإطار سلطة”. وعن واقع الفنانين التشكيليين في السودان يضيف: “لا زالت شهادة التخرج من كلية الفنون لا تعني شيئاً في الدولاب العام للدولة، فلقد فشلت كل المحاولات لإدراجها كتخصص مهني يتطور ليؤسس مؤسساته المستقلة والفاعلة في المشهد الثقافي”.
شارك معمر مكي في عدد من المعارض الجماعية والثنائية والورش منذ منتصف التسعينيات حتى الآن، كان آخرها معرض ثنائي بينه والفنان التشكيلي محمد موردة، بصالة عرض المركز الثقافي الفرنسي. عمل مصمِّماً في إنشاءات الشركة الإيطالية للسياحة (كريمة)، وفي عدد من الصحف اليومية، ومصمماً قرافيكياً بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي والآن يعمل مصمماً قرافيكياً بمركز الفيصل الثقافي.
نلتَ إجازة التخرِّج في كلية الفنون، منتصف تسعينيات القرن الماضي، وها أنت أخيراً تُقيم معرضك الأول، لماذا تأخرت لنحو عشرين عاماً؟
لم يكن هذا أول معرض لي، فلقد قمت بثلاث تجارب عرض جماعية، وهذا المعرض القائم الآن ثنائي. نعم لم أقِمْ معرضاً فردياً حتى الآن، وربما فشلت في إقامة معرضي الشخصي بمفهوم الطرح الفني المستقل، وذلك يرتبط بعدة عوامل ذاتية تمثلت في الفهم العام للإنتاج التشكيلي الذي أفترض أنه مستمر، وأن أي عمل يقوم به الفنان في أي مساحة ما، هو عرض بحدِّ ذاته، بمعنى أن الحالة التشكيلية غير مشروطة بتقليد العرض المعروف، ولكن يتم تثوير للتجربة وتجويدها في عرضها وفق هذا التقليد، الذي هو دعوة خاصة للمتلقي للاستئناس والتبصر في العمل الفني، باعتباره حقاً وضرورةً. وليس ببعيد عن السؤال، فإن حالة العرض والحق والضرورة، هذه ظلت عصية لسنوات، فالممارسة في ذاتها أضحت صعبة وعصية وشائهة نسبة للعقبات الكثيرة المرتبطة بالفنان عموماً، بدءاً من تقييم الدولة لدوره واحتمالها لهذا الدور. وللمعلومية لا زالت شهادة التخرج من كلية الفنون لا تعني شيئاً في الدولاب العام للدولة، فلقد فشلت كل المحاولات لإدراجها كتخصص مهني يتطور ليؤسس مؤسساته المستقلة والفاعلة في المشهد الثقافي، والخذلانات في ذلك كثيرة ومنهجية، بمعنى أن (وجود) إرادة تشكيلية حرة وواعية، يُفسد للمؤسسات الرجعية والسلفية مواصلة تغييب الآخر، وهو ما تعيه – تلك المؤسسات – تماماً أكثر من التشكيليِّين أنفسهم، فمثل هذا النشاط يقوم ويدفع بأدوات التفكير والنقد، ويطور من الرغبة في التغيير المستمر للواقع المعطى قسراً. تبعاً لذلك الواقع، فإن معاناة التشكيليين في الممارسة المجوّدة والمساحات المحدودة للعرض، والمشروطة إن وجدت. قامت بهذا الدور المنوط بالدولة المراكز الأوروبية، واحتفت بالتشكيليِّين السودانيِّين وبالثقافة السودانية بالمجمل، بشكل يُحوَّل مقصد كل مبدع إلى هذه المراكز التي توفر شروط عرض ممتازة، أهمها حرية الطرح، وبالنسبة لهم أيضاً اكتشاف عوالم مدهشة وجديدة في الثقافة لأي مدىً لا أعلم. واعتقادي بضرورة الرعاية لا ينفي تكتيكات الفنان للتمرد، وإيجاد أساليب عرض مختلفة وأشكال وصول جديدة. وأن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً.
انطوى معرضك على مجازفة استخدام اللونيْن الأسود والأبيض، هل من دلالة ما لاستخدامهما؟
لم أُسمِّ معرضي (أبيض وأسود)، ولم أكن حريصاً في الأصل على استخدام ألوان بعينها. تعلمنا في قسم التلوين في كلية الفنون، أن تستخرج الدرجات اللونية من اللون الواحد، وأن تستطيع التحكم في خلق عمق من ذلك، والإحساس بأبعاد الأشكال، وهي تقنية معروفة. تعتبر هذه التقنية من أصعب التقنيات في الرسم، وهي تظهر براعة الفنان في التعامل مع هذه الدرجات، وهذا ما اجتهدت لعكسه من خلال الرسم بالحبر، وقصدت تماماً إقحام ألوان مائية لكسر مفهوم (أبيض وأسود) الذي لازم عدداً من المعارض، وأصبح قاعدة فنية غير صحيحة، ولانطواء الفكرة نفسها على معنى تقسيمي وتصنيفي قصد منه تأكيد اختلافات توحي على سبيل المثال (أعلى أدنى)، وهي تسويق غير واعٍ لفكرة أخرى. الحبر الأسود عندي درجات مختلفة من الألوان، واللعب على المساحة التي تُسمَّى بيضاء يخلق مساحة غير محدودة للتعبير والإيحاء. وإن كانت ثمة مجازفة هي القدرة على التصميم المتماسك للشكل، وعلاقته الموضوعية بالمحتوى، إذ لا دلالة محددة فقط، هو قدرة التحرك بين أقصى درجات اللون الواحد.
الإطار سلطة صارمة، اللون سلطة هو الآخر، كيف حرَّرت لوحاتك، ومنحتنا قابلية التمرد على السائد والمعتاد؟
الحياة بمجملها بحر من السلطات بهذا المفهوم. قميصك الذي ترتديه سلطة، وحذاؤك سلطة، والشارع الذي تسير عليه سلطة، والكتاب الذي تقرأه سلطة. نعم الإطار سلطة، بمعنى الحدود التي يعطيها للتخلق، وهذا يقودنا لنقاش مطول حول بروز فكرة الإطار تاريخياً من الرسم في الكهوف إلى لوحة الحامل، والتقاليد التشكيليَّة المتنوعة للمجموعات الثقافية والحضارية. وتبقى حرية الفنان في مساحات خلقه التشكيلي وتمرده على المساحة والخامة وغيرها من الموجودات المادية. والفنون الحديثة تعطينا أفضل مثال لهذا النوع من الثورات، على مستوى إطارنا المعطى والمعروف والأكثر تداولاً؛ فعملية التخلق لا نهائية وليست محدودة حتى الآن، كما إن الإطار ليس عائقاً للتشكيل إذا استطعنا التمرد على أطر المعرفة السلفية.
ما هو مستقبل اللوحة التشكيلية عقب الاجتياح الضاري للقطة الفوتغرافية الرقمية لحياتنا؟
اللوحة التشكيلية ليست معادلاً للقطة الفوتغرافية، وليست نشاطاً تسجيلياً فقط، فاللوحة اعتمال فكري واقتراحات بصرية لا محدودة.. اللوحة مجموعة هائلة من الطبقات الفكرية، نتاج معرفة تجريبيَّة طويلة للإنسان، بدايةً بعهده بأول أثر تشكيلي، وهي نشاط ذهني ونفسي خاص ومختلف. أما اللقطة الفوتوغرافية، فتظل معطىً تسجيلياً مرتبطاً بتطور تقني حادث لاصطياد اللحظة.
كيف ترى الحركة التشكيلية في السودان؟ هل ثمة مشهد ماثل؟
الحركة التشكيلية ليست بمعزل عن الحركة الثقافية عموماً، وما أصاب الحركة الثقافية حالة من التكميم غير المسبوق، وحالة من الاحتقان أدت لتشوهات عميقة، أقصاها هروب المبدعين للخارج، وضياعهم ووأدهم في الداخل، إضافة لتكسير المؤسسات الإبداعية الحرة وتهميش أدوارها في النشاط العام؛ كل ذلك أدى لخواء وتخلف إبداعي ظاهر. والحقيقة حسب اعتقادي، لا مشهد ماثل الآن، ولا في القريب العاجل في وجود محاكم التفتيش الجديدة. ولعل قوة الوجدان السوداني وصموده طوال هذه السنوات، أفرزت تجارب ونجاحاتٍ فردية في الخارج تم الاحتفاء بها واحتضانها عالمياً.. لذلك أضحت أشواق المبدعين تتجه نحو الخارج ولا وجود في رأيي لحراك حقيقي وواضح للتشكيل في السودان بمعناه التفاعلي. هي حالة من الغربة الداخلية والغياب القسري.
تعطي اللوحة أحياناً إمكانية للتأويل لقراءتها من زوايا عدة، ماذا تريد أن تقول أنت من خلال ما ترسم؟
لو أستطيع أن أقول ما أرسم لما رسمت يا صديقي.
لحظة الرسم؟
هي لحظات وساعات وأيام تمتد وتقصر حسب نجاح النتائج.. وهي ليست لحظات إلهامية مقدسة وغير طبيعية.. هي انسجام فكري ومادي، قد يتوفر لأي شخص يستكشف وجوده في اللحظة.
* شاعر وكاتب من السودان