صيد الذكريات: حوار مع بيتر كلارك
المستشرق والمترجم والمؤرخ الإنكليزي المعروف، بيتر كلارك، عاش في السودان لسنوات في سبعينيات القرن الماضي؛ يعمل في المجلس البريطاني. تفاعل خلال سنواته تلك مع الحياة والمدن والشخصيات السودانية، وربطته علاقات مع عدد من النُّخب الثقافية والسياسية والأسر السودانية. وجدير بالذكر أن بيتر كلارك يعمل حالياً مستشاراً ثقافياً لعدد من المؤسسات الثقافية، وصاحب فكرة جائزة بوكر العربية للرواية؛ التي أطلقت في العام 2007 بالتعاون مع جائزة بوكر البريطانية الشهيرة، وهو عضو في مجلس أمنائها. خلال هذا الحوار حاولنا أن نستشكف أهم محطات في حياته عندما عمل بالسودان، وما يثار حول الجائزة في العالم العربي، والتعرف إلى أهم ترجماته ومؤلفاته المتعددة في الأدب والشعر والتاريخ.
*التجربة السودانية مثلت محطة مهمة في حياتك المهنية؛ سنوات قضيتها، أماكن كثيرة زرتها، وشخصيات التقيتها علقت بالذاكرة؟
عملت في المجلس البريطاني في السودان من 1971 إلى 1977، لقد كانت سنوات ممتعة، فمن الناحية السياسية حقق الرئيس الأسبق، النميري، سلاماً أدى إلى استقرار مع الجنوب. كما خلالها – السنوات – قام المجلس البريطاني بعمل كبير في مركزه الرئيسي بالخرطوم وفروعه في أم درمان وودمدني والأُبيض والفاشر.
أذكر أنني سافرت كثيراً خلال السنوات الست التي قضيتها نحو الجنوب والغرب، ففي سنة 1971 قمت برحلة عمل عن طريق البر من الخرطوم إلى جوبا عن طريق مدينة الأُبيض وواو، وأمضيت هناك عطلة ريفية؛ كان ذلك قبل انهيار العلاقة بين الشمال والجنوب، ثم أمضيت وزوجتي وابني ذو الخمس سنوات أياماً في فرقان المسيرية الحُمر في أرض الدينكا ببحر الغزال. وأعرف بابو نمر، ذلك الرجل الرائع.. مكثت في أم درمان لمدة عامين وتمتعت بعلاقات جيدة مع الأسر المهدية العريقة، فقد كان مالك مبنى المجلس البريطاني السيد عبد السلام الخليفة، والده خليفة المهدي الذي قتله الإنجليز بعد معركة أم درمان. في تلك الأثناء قمت بترجمة كتاب كرري لمؤلفه عصمت حسن زلفو، ونشرت الكتاب دار فريدرك وارني في لندن 1980.
لقد كنت حقاً محظوظاً، عشقت أراضي السافانا بكردفان، وأمضيت بضعة أيام من سنة 1976 في بارا، حيث التقيت أحد الناجين من معركة أم درمان.
دنقلا كانت جميلة وكذلك النيل شمال عطبرة.. وقد حدث أن قابلت الرئيس الأسبق نميري، الذي كان كثير التجوال في البلاد؛ فسألته عن أحب المناطق إلى نفسه. فأجاب: أبو ركبة في كردفان. ولكني ذكرته بوصفه لمريدي بأنها “عروس السودان”. فقد سافرت مرتين من مريدي إلى ياي على طريق متدرج يمثل الخط الفاصل بين النيل والكنغو، فهناك أنت تنظر لأميال من الشمال إلى الجنوب وتشعر أنك في قلب أفريقيا. في المرة الثانية طلبت من السائق التوقف لساعة ونصف الساعة بينما أنا وزميل سوداني مشينا لمسافة ميلين، لقد كانت من أروع التجارب في حياتي.
كانت لديّ علاقات وطيدة بأصدقاء من الجيل الأول للاستقلال، شخصيات أكاديمية وسياسية مثل جمال محمد أحمد، عبد الله الطيب، محمد عمر بشير، سر الختم الخليفة. كانوا أشخاصاً استثنائيين؛ تغالبني الدموع حينما أفكر فيهم. أحد أصدقائي قال مرة إن السودان حارٌّ كجهنم، جاف كالعظم؛ لكن أهله كانوا أقرب الأشياء إلى البشر على أرض الله! ذكريات لا تحصى من العطف والكرم والمرح في كافة مستويات المجتمع السوداني. أنا واثق بأن هناك ثمة سودانيين سيئين، لكني لم ألتق أياً منهم.
*هل زرت دارفور، وكيف وجدتها؟
نعم ذهبت إلى دارفور وزرت الفاشر ونيالا والجنينة. لقد أثارتني العلاقات الاجتماعية بين سكان دارفور المحليين وموظفي الحكومة والتجار الجلابة. لم أزر جبل مرة، ولكني سافرت باللواري من نيالا إلى الجنينة؛ كان المشهد رائعاً، خاصة الوادي الواسع بالقرب من زالنجي (وادي أزوم).
*لقد ذكرت العلاقات الحميمة التي ربطتك بشخصيات سودانية بارزة، هل نتج عنها أي مشروع مشترك في ما يخص الأدب والكتابة عموماً؟
ساعدني كثيرون في ترجمتي لكتاب كرري، وبشكل خاص يوسف بدري والسيد عبد السلام الخليفة؛ ابن الخليفة عبد الله، وحفيد المهدي السيد الخليفة إسحاق شريف. لقد أفدت كثيراً من الشائعات المهدية بما فيها تلك التي بين أسرتيْ المهدي والخليفة.
*ما أكثر ما شدَّ انتباهك في الشخصية السودانية؟
ليست هناك شخصية سودانية بذاتها، هناك ثلاثون مليوناً! أعجبتني صفات عدة؛ كالمرح تحت الضغط، والكرم الغريزي، وروح الدعابة، والكرامة الحقَّة.
*أبرز أعمالك خلال إقامتك بالسودان عملك الأشهر ترجمة كتاب (كرري) إلى اللغة الإنكليزية، ما هي أعمالك الأخرى المنشورة؟
كرري أول كتاب أقوم بترجمته، ومن ثم ترجمت سبعة كتب أخرى، أحدها تاريخي (صيد اللؤلؤ في الخليج)، وستة أعمال روائية. وترجمت أيضاً عدداً من القصص القصيرة والمسرحيات وبعض الأشعار، إلى جانب ذلك أعمل محرراً مشاركاً في مجلة بانيبال منذ تأسيسها في 1998 وأسهمت بالكتابة كثيراً على صفحاتها. كتبت أيضاً عن مارمادول بكتال الإنكليزي الذي أصبح مسلماً خلال الحرب العالمية الأولى وقام بترجمة القرآن، وكتب روايات شرقية غربية جيدة. لديّ كتاب أيضاً عن ولفريد ثيسغر الذي سافر في الوطن العربي (كان مفتشاً في شمال دارفور وعمل وسط النوير في ثلاثينيات القرن المنصرم، كان يكره العمل المكتبي ويفضل الاستكشاف وصيد الأسود؛ التي كان يعدها حشرات طفيلية). وشاركت في تحرير كتاب عن العراق، وكتبت أيضاً كتاباً سيصدر في نهاية العام في إسطنبول.
* قمت بترجمة كتاب كرري، وهو كتاب يؤرخ لأهم نقطة مفصلية في تاريخ السودان؛ المرحلة التي أعقبت معركة كرري وأدت إلى إعادة استعمار السودان. كبريطاني هل كانت لديك أي حساسية تجاه ذلك؟
ما من حساسية البتة، كمؤرخ كنت أريد معرفة ما حدث ومن ثم كيف حدث ولماذا. فالحكم على المشاركين في الأحداث يأتي عندي في آخر القائمة. قدمت محاضرات في كليرجي هاوس بالخرطوم وكان من بين الحضور ضباط الجيش والبريطانيون المقيمون بالسودان والسيد عبد السلام الخليفة عبد الله، والدكتور حسن الترابي، ولم يستهجن أحد ذلك.
*خلافاً لـ كرري هل قمت بترجمة أي عمل سوداني آخر؟
المحاضرات الخمس التي قدمتها نشرت بوساطة معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم؛ كمعارك ثلاث على التوالي ( شيكان، وحصار الخرطوم 1884-85، ومعركة أم درمان).
*اقتصرت على كتابة وترجمة الأدب غير الأوروبي في مجالي الدراسات الاستشراقية والإنثروبولوجية أكثر منها كقنوات للتبادل الثقافي الحر؟
لا أتفق معك. هناك اتساع هائل في مسار ترجمة الأدب العربي في السنوات العشر الأخيرة في مختلف النصوص، فالترجمة أكبر من التبادل الثقافي الحر. ففي الكتاب الذي قمت بتحريره، والذي أسهمت أنت فيه بشكل بارز كمترجم، يوجد ستة مترجمين، ثلاثة من العرب وثلاثة من غير العرب. الآن هناك مترجمون عرب أكثر مما كان عليه الحال قبل عشر سنوات.
*كمترجم، هل تعتقد أن الترجمة قادرة على لعب دور أكبر في حوار الثقافات؟
كانت دائماً تلعب دوراً كبيراً. معظم الناس يقرأون الأدب العالمي مترجماً، تولستوي وسيرفانتس وشكسبير ودانتي وهومر وغوته، كل هذه الأسماء أوروبية؛ ولكن علينا كأوروبيين – وبالطبع جميعنا في قريتنا العالمية – أن نوسع من آفاقنا. اكتشفنا الأدب الأفريقي في الستينيات والسبعينيات، وفي الثمانينيات اكتشف الأوروبيون أدب أميركا اللاتينية، والآن نكتشف الأدب العربي. فالقائمة القصيرة لجائزة الرواية الأجنبية التي نشرت في الأسبوع الأخير ضمت ستة عشر عنواناً اشتملت على ثلاثة أعمال روائية عربية. الأدب الهندي يحوز على نطاق قراءة أوسع، يجب أن يكثف العمل لنشر المعرفة بالأدبين الياباني والصيني المعاصرين.
*اهتمام الدراسات البريطانية بمجتمعات ما وراء البحار ضعفت منذ أيام ثسغر في القرن الفائت، فهل خبا تأثير الثقافة الإنكليزية غداة زوال الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس؟
أعتقد أن الثقافة الإنكليزية أكثر انتشاراً، بينما الإمبراطورية البريطانية كانت مرحلة عابرة، فموسيقى البوب وكرة القدم كانتا أبرز صادرات الثقافة الإنكليزية. أي مدينة تلك التي لم تسمع بديفيد بيكهام أو فريق البيتلز؟ الموضة والتصاميم، العمارة والأزياء كلها انتشرت دون دعم من الإمبراطورية.
*ما أهمية أن تكون هناك جائزة بوكر عربية؟
تهدف جائزة بوكر للرواية العربية “بوكر العربية” إلى تشجيع وتحفيز والاعتراف ورفع مستوى القراءة، التحفيز والاعتراف بالكتاب الذين يتمتعون بقدرات أدبية بارزة، وكذلك القراءة على مستوى اللغة العربية والترجمة على السواء. تمت دعوة الفائز الأول بالجائزة بهاء طاهر لحضور المهرجانات والسمنارات من إندونيسيا إلى الإمارات العربية المتحدة، إنها جائزة عربية مثلما هي عالمية. حدثني كاتب عربي من الرواد هذا الشهر أن شهرة جائزة بوكر العربية تأتي في المرتبة الثانية بعد جائزة نوبل للأدب. ففي غضون 24 ساعة من إعلان الفائز لهذا العام (2010) قامت دار نشر بريطانية مرموقة بالاتصال بالفائز عبده خال لترتيب ونشر العمل الفائز.
*عقدتم ندوة مؤخراً في أبو ظبي وأقمتم ورشة للكتاب العرب الشباب، ما هي نتائج تلك الورشة؟
ثمانية من الكتاب الشباب يمثلون سبعة بلدان عربية التقوا معاً، خلقوا علاقات وصداقات، وثمرة عملهم في الندوة مجلد أصوات عربية جديدة رقم (١)، الذي ستقوم بنشره دار الساقي في نهاية هذا العام باللغتين العربية والإنكليزية.
*لماذا برأيك الضجة التي أُثيرت حول جائزة البوكر العربية في العالم العربي؟
لقد دُهشت لبعض التعليقات السلبية عن الجائزة، ولكنهم عدلوا عن ذلك بمزيد من المناقشات المطلعة – فالناس يتأثرون بدرجة كبيرة بالأدب – وهذا بدوره جيّد والناس أيضاً لديهم ولاء للكتاب. فعندما تُسلم مائة وعشرين كتاباً للمعاينة، ومن ثم تقلص إلى قائمة طويلة من ستة عشر كتاباً، وبعدها القائمة القصيرة من ستة أعمال وفي النهاية فائز واحد، عليه من المحتمل أن يكون هناك ثمة إحباط. بوكر العربية ليست استثناءً كانت هناك خلافات حادة مع أخواتها بين بوكر الأصل وبوكر الروسية، ومن الغريب أن أختها الأفريقية (جائزة كاين) للأدب لم ينتج عنها أي خلاف حاد.
*هل لا زالت مقولة الشاعر الإنكليزي كبلنج: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) حاضرة؟
لقد كان كبلنج مخطئاً، فالشرق والغرب يلتقيان، ودائماً كانا كذلك. فاليوم الناس من أفريقيا وآسيا يطمحون للعمل والدراسة والعيش معاً في أوروبا والولايات المتحدة. هناك استثمارات بترليونات الدولارات من العالم العربي والإسلامي في بريطانيا وحدها. قارتا آسيا وأفريقيا تزداد أهميتهما السياحية بالنسبة للأوروبيين؛ ولقرون عدة كان تأثير آسيا الفني على أوربا من الأشكال المعمارية إلى المطبخ والزخرفة الصينية.
*إذا أُتيحت لك الفرصة هل ترغب في زيارة السودان؟
كنت محظوظاً بشكل كبير ومتميز لقضاء ست سنوات في السودان في سبعينيات القرن الماضي، حينها كنت في الثلاثينيات من العمر، ولم أعد إلى هناك منذ 1983 عندما كنت أمشي راجلاً من الخرطوم إلى العيلفون وأم ضوابان.. نعم أريد أن أزور السودان مرة ثانية إذا ما دعيت.
ـــــــــــــــــــــ
نشر بـ “الوطن” السودانية – 25 مارس 2010