ثمار

صورة

ماجد عليش

منذ الصغر، لازمتني هذه العادة: أضرب بقدمي كل ما أجده أمامي و(أشوته)، ولما كبرت صرت أستتر في فعلها، وأجالدها فتجالدني، وأفلت منها حيناً وتفلت مني أحياناً أخرى؛ سهوة رجل اختلط الأسود في شعره وشاربه بالأبيض.
في الشارع الطويل الذي على جانبيه المحلات التجارية، التي أمامها الأولاد، الذين يبيعون ويشترون؛ كنت أمشي. كان الوقت مبكراً، والخلق يحاولون مواصلة معاشهم، ومثلهم كنتُ: مرتدياً بنطلوناً وقميصاً وحزاماً يضبطهما معاً، مع حذاء لونه أسود، وعلى يدي حقيبة. وجهتي الخرطوم، عبر الكوبري الوحيد الذي يسلكه الكل ليصلوا إلى العمل، كنت مثلهم أسلك الطريق، وعندما أصل إلى الخرطوم أظل أدور وأتجول وأتوقف أمام واجهات المحلات، وأدخل المكتبات، وأصعد سلالم عمارات، ثم أهبط، حتى ينتصف النهار فأسلك طريق العودة.
ضربت بقدمي صندوق سجائر ملقى على الأرض، فتألمت بشدة. انفتح الصندوق وتناثر منه زلط أسمنتي، كان قد امتلأ به. جرح أصبع قدمي، ورشَّ منه الدم، فتوقفت وتلفتُّ.
أغمضت عيني من الألم الذي اجتاحني، وأحنى قامتي ورأسي. أنظر إلى الدم وأفكر في كيفية إيقافه، حتى يسترجع أصبعي حالته العادية، وأعود مثلي مثل باقي الناس الذين يتحركون مسرعين، خلافاً لحركتي التي صارت في غاية البطء.
في نهاية الطريق رأيت صيدلية، ورحت أقترب منها، ولما هممت بالدخول، رأيتها عبر الباب الزجاجي المغلق. نعم كانت هي.. نظرة واحدة تكفي لتأكيد معرفتها، بقصرها الشاذ، ووزنها الذي لا يزيد أبداً عن الأربعين كيلوجراماً، ورأيت يدها الصغيرة تمتد وتتناول من يد الصيدلانية لفة قطن طبي، رأيتها تدخلها بسرعة في حقيبة يد سوداء.
استدرت مبتعداً ووقفت خلف العمود الأسمنتي الكبير بحيث لا تراني، مشت بذات خطواتها العجلى وعلى أطراف أصابعها، مثلما كانت تمشي بالضبط أيام الكلية. ولحظت أن وجهها قد صار أسود اللون أكثر مما كان، وقلت إن السبب هو الملاريا، وهي منذ تلك السنين تشكو من مداومة الملاريا. الملاريا لم تكن تسمح لها بأن تعيش حياتها مثل الآخرين من تلك المجموعة من صديقاتها وأصدقائها. لم أكن أعرفهم تماماً لكنني كنت أعرف فيم يفكرون وبمَ يحلمون، وكنت كلما رأيتها وسطهم منذ ذلك الزمان ينتابني هم.. إذ كنت موقناً بأن الأمر سينتهي النهاية المعروفة المتكررة، فهي أبداً لن تتزوج، لأن الرجال مهما صادقوا النساء، وتوهموا معهن اعتناق أجمل الأفكار، عند لحظة الزواج لا يتزوجون البنات النحيفات، ولا البنات سوداوات البشرة. الرجال فيهم ضعف أمام البشرة البيضاء والجسد الممتلئ، وشديد الدماغ منهم لا يفكر في مجازفة المعيشة مع امرأة صدرها صغير أو لحمها قليل، هي فكرة مثل الأفكار الكثيرة التي تظل تلاحق الإنسان ويخايله سرابها، الذي يظل يتسع ويتسع مثل هذا الاتساع الذي حدث للدنيا التي صارت تدور بسرعة مؤلمة غاية الألم.
تناولت من الصيدلانية لفة قطن طبي، وقالت لي ويدها تمد (مضاد حيوي):
“احسن لك حتى لا يتعفن الجرح”
“لا شكراً، سآخذ دواء من صيدلية المكتب”.
وخرجت أدور ببطء مفكراً أنه كان خطأً منذ البداية أن أمد قدمي إلى ما لا أعرف مجاهله ونهايته، وتذكرتها.. مفكراً في ما تفعله في كل هذا الوقت الذي لا ينتهي أبداً، وما فعلته في كل ساعات الليل الطويلة عبر كل تلك السنين.

 

* قاص وروائي وكاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى