عام على رحيل بهنس.. في غفلة الوطن
خارج الوطن، وحيدا، مشرّدا، في حالة نفسية مزرية، عاريا من الدفء، وفي غفلة من المسؤولية الرسمية والمجتمعية؛ رحل محمد حسين بهنس؛ طعنة أخرى في ضمير الوعي الجمعي السوداني، مخلِّفا إنتاجا فنيا وأدبيا، متميزا ومتنوعا وغزيرا، متناثرا ومتفرقا بين العائلة والأصدقاء وبأماكن عدَة.
قلتُ لصديق لي “صوتها يشبه البحر” في إشارة لصوت فتاة أطربنا، قبلها بليلة، أثناء حديثها في فعالية ثقافية نظمتها السفارة الأمريكية بالخرطوم، كان يجلس وحده على طاولة قريبة، التفتَ وقال لي وكأنّه يصحّحني “صوتها يرقد قرب البحر”، وعاد إلى نظرته الساهمة، وفي أقل من ثانية أردف “وعلى مخدّة من الرمل”. لم نكن على علاقة صداقة، ولحظتها أشك أنّه كان يعرف اسمي حتى، لكنه تمتع بحس مدهش في التقاط الجمال وتكوينه. بعدها بأسابيع رأيته متوترا يحمل إحدى لوحات نحته على الخشب، حرّضني الفضول فبادرته بالسلام، جاء وأخبرنا أنه باع هذه اللوحة قبل يومين إلا أنّه وجد عليها آثار تغيير بعض تفاصيل النحت، فاستردها رغما عنه ووعده بإرجاع المال، وكان متوترا لتصرف مشتري اللوحة ولأنه صرف المال. كانت الواقعتان في معهد جوته بالخرطوم وهما من بين ثلاث كنت قد تبادلت أثناءها حوارا مقتضبا معه، لكنها كمنت في الذاكرة، بعدها التقيته مرارا لكننا تبادلنا السلام فقط، ثم اكتشفت بعد موته، جوانب مهمة عنه لم أعرفها قبلا، على الرغم من كثرة أصدقائنا المشتركين.
في ميدان العتبة بالعاصمة المصرية القاهرة، أحد أماكن تجمع وملتقيات الثوار المصريين، وفي ليلة باردة، 12 ديسمبر/كانون الأول 2013، لفظ أنفاسه الأخيرة، ليجدوا جسده بلا حياة مستلقيا على أحد المصاطب هناك، بعد رحلة تشرد استمرت قرابة العامين إثر إفلاسه وتدهور حالته النفسية، في القاهرة التي جاء إليها لإقامة معرض تشكيلي.
امتلك محمد بهنس مواهب فنية مختلفة، كان تشكيليا حاذقا يقدم أعمالا في التلوين والنحت على الخشب والرسم بالضوء، وقد أقام وشارك في معارض عدّة منذ العام 1999 منها؛ معرض بمعهد جوته في الخرطوم، ومعرض “مدرسة الفن” بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ومعرض في العاصمة الفرنسية باريس، ومعرض في مدينة بون الألمانية، كما أقتنى قصر الإليزيه الفرنسي عددا من لوحاته. وهو قاص وروائي وقد نشر روايته “راحيل” على نطاق محدود إلا أنها وجدت احتفاءً مقدرا ممن قرؤوها. ومشهود له بقدرته الشعرية الفذّة وبفرادة قاموسه اللغوي، وأشهر قصائده وأكثرها انتشارا تغنّى بها علاء الدين سنهوري:
بهديك الفوضى
شجار طفلين.. في ساحة روضة
بهديك الغربة..
هتاف الموتى، وصمت التربة
بهديك حزنك
ستّات الفول أثناء الخمشة
بعد إذنك
بهديك إحباطي
حديث عابر
في مركبة عامة.. بصوت واطي
وكان بهنس عازفا ماهرا على آلة الجيتار، وشارك طوال فعاليات مجموعة “سودان يونايت” التي قامت لدعم وحدة السودان في العام 2009، شارك بالعزف ورسم الجداريات على واجهات مختلفة في الخرطوم، ولعل صورته الشهيرة وهو يرتدي طاقية من السعف وفرشة ألوان كانت ضمن نشاطات “سودان يونيت”. واحترف الرسم بالضوء في السنوات الأخيرة استعدادا لتقديم مشروع فني يجمع بين الرسم والرقص والموسيقى، وأشار إلى أنه استطاع أن يستجمع رؤاه في مشروع فني عبر فنان ياباني، حيث قال “من أساتذتي مجازا، فنان ياباني يدعى ساوبور تشيفاوارا، وهو راقص ومخرج وصاحب ألاعيب عجيبة في إضاءة الخشبة، وصاحب نوع فريد من الرقص، مثل فلسفة وحكاية وقصيدة، رقصه يعتمد على التراث العريض لفنون القتال اليابانية، وللباليه، وهو أسرع الراقصين حركة في العالم ولكنه آية في أسلوب الثبات الحركي أو السكون”.
ولد بهنس بأم درمان في العام 1972، التحق بالجامعة الأهلية مطلع التسعينات لعام واحد ثم تركها، ونشط في النحت والتلوين، ثم سافر إلى فرنسا في العام 2000، وأقام هناك كفنان تشكيلي محترف، وكان قد تزوج من فرنسية، طلقها لاحقا، وقامت الحكومة الفرنسية بترحيله إلى السودان في العام 2006، ليجد أن والدته توفيت قبلها بأعوام دون أن يخبره أحد، وبحسب أصدقاء فإن حادثة انفصاله عن زوجته وموت أمه، أثّرا فيه نفسيا، وكانت حالته تتدهور ثم تتحسن، حتى رحيله إلى القاهرة في العام 2011، لمعرض له هناك ثم ليقيم فيها. ثم فاجعة موته التي هزّت الأوساط الثقافية العربية، خاصة أن تقرير الطبيب الشرعي أشار إلى وجود جروح غير ملتئمة في الرأس، مما دفع البعض إلى التشكيك أنه مات نتيجة تلقيه ضربة في الرأس وليس بسبب البرد، كما تم تأخير تسليم جثمانه أكثر من أسبوع، تسلمته بعدها السفارة السودانية بمصر ليتم ترحيله إلى السودان ودفنه وسط جمع غفير من المثقفين والنشطاء بمقابر أحمد شرفي بأمدرمان في 21 ديسمبر 2013.
* كاتب وصحفي من السودان