ثمارشهادات

اقتناص المطلق في العابر: حوار مع الشاعر أنس مصطفى

أنس مصطفى

لا تكتمل النصوص أبداً عند الشاعر أنس مصطفى صاحب كتابي ( نثار حول أبيض) و(سهد الرعاة) الذي يقول: ليسَ بوسعِ نصٍّ ما أن يقولني تماماً، فكمال النًّص عنده يرتبط بكمال الفكر والوجدان. ويقول عن الشعر إنه برق الكتابة التي هي تجريب مستمر وتجربة تتطور ترمم ما تهدم من الحياة؛ ويقول أيضاً: لا زلت معتقداً بأبديَّةِ الشِّعر، ببقائه ما بقي النَّاس على الأرض الشعر الذي سلك دروبه بفعل المحبة.

*لماذا انفتحت عليك دروب الشعر ولم تسلك دروباً أخرى؟ كالرواية مثلاً؟ كيف تشكلت كشاعر؟
أظنُّ أنَّ الإجابةَ الأقربَ للحقيقة هي المحبَّةْ، سلكتُ دروبَ الشِّعرِ بفعلِ المحبَّةْ.في البدايةِ لم يكن الاختيار بوعيٍ كامل، لأنَّ افتتاني بالكتابةِ الشعريةِ جاء مبكَّراً ولم يكن بحوزتي من المعارِفِ والنُّضجِ ما يكفي لأجزمَ بأنَّ الاختيارَ ومنذُ البدءِ كانَ واعياً، لكن بعد ذلك بدا جليَّاً أن الشعرَ هو ما يشغلني أكثر مقارنةً بحقولِ الأدبِ الأخرى، لا أعرف على وجهِ الدقَّةِ ما سيحملهُ المستقبل، هل ستنفتحُ دروبٌ جديدةٌ أم سأبقى وفيَّاً للشَّعرِ وحده،  تبقى الحياةُ مفتوحةَ الأفق لاحتمالاتٍ شتَّى، الأقرب لنفسي بعد الشعر هو الكتابةُ النثرية، أعني نثراً صِرفَاً وليس نثراً شعرياً وأتمنى لو أكتب كتابة عرفانيَّة شبيهة بالمواقفِ والمخاطبات.
حدثَ ذات صبا أن أهدتني صديقة مجموعة من الكتبِ الأدبية، أذكرُ منها (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، الجنوبي، وتشيخوف) كان ذلك في أواسطِ المرحلةِ الثانوية، كنت أعرفُ القليلَ عن الشعر وكانت تعرفُ الكثير، هي من دلَّتني بدءاً، وحاولتُ اللَّحاقَ بها، على هذا النَّحو كانت البداية، ثمَّ مضيت أبعد، مرَّ ربع قرنٍ عليهما معاً، الصِّبا وطعمُ الكتابةِ الأولى. هكذا بدأ تشكُّلي شعريَّاً، ثم بعد ذلك بالقراءات بطبيعةِ الحال، في تلك الأزمنة في الجامعة كانت الأنشطةُ الثقافيَّةٌ محظورةً تماماً، كانت كوَّة الضوءِ وقتها ما نحصلُ عليه من أعدادٍ من فصليَّةِ الكرمل، كانت توفرها دار جامعة الخرطوم للنشر، وعبرَ الكرمل تعرَّفتُ على عقدٍ نضيضٍ من الشُّعراءِ وأشكالٍ مختلفةٍ في الكتابة، كانت تلكَ أوقاتُ الهدهدِ والشَّهوات وغيرها من القصائد المجيدة، أيضاً الكتب التي كنا نتبادلها فيما بيننا، كان ذلك زماناً غير شعري، ندرة وتضييق في كل شيء.

*”كيف النصوص مرهقة بالكنايات ولا تقولنا أبداً؟”. هل هذه محنتك كإنسان، محنة الشاعر لديك؟
وهل تكمُلُ النصوصُ يا مغيرة؟ لم تكمُل عندي أبداً وليسَ بوسعِ نصٍّ ما أن يقولني تماماً، وربما ذلك ليس حصراً على النُّصوصِ فقط بل اللغةُ نفسها لا يسعها قولنا تماماً أو قُل القدر الذي نعرفهُ من اللغة، لا سبيل إلى تجاوز المحنة بالكامل لأنَّ هناك ما لا تستطيعُ العبارةُ اللَّحاقَ بهِ، لكن في الوسع تضييقُ الشُّقةِ باقتناءِ المزيدِ من المعرفةِ اللُّغوية، بالحفرِ فيها، وباجتراح ما ليسَ موجوداً.
يوجدُ إرثٌ كبيرٌ في العربيَّة في ما يخصُّ البيان والمعاني والبديع بكناياتهِ ومجازهِ وما سواهما، ما عنيتهُ بسؤالي في نصِّ (عن الله ونواحي الحبيبة) حولَ: “كيفَ النصوصُ مرهقةٌ بالكنايات ولا تقولنا أبداً..؟” هو أرقُ البحثِ عن كلماتٍ جوهريَّة تنتجُ نصَّاً نقيَّاً، كلمات لا يستقيم النصُّ إلا بها، التخلُّصُ من كلِّ ما هو فائضٌ عن النَّص، أبحثُ عن نصٍّ مكتملِ النَّقاء.
من ناحيةٍ ثانية يرتبط كمال النًّص بكمال الفكر والوجدان، كلما ارتقى الكاتِبُ فكريَّاً ووجدانيَّاً كلَّما ارتقى النصُّ في كمالِه، وهذا سيرٌ سرمدي، وهذه محنتي كإنسانٍ تلقي بظلالها عليَّ كشاعر.

*في مجموعتك الشعرية الأولى (نثار حول أبيض) حاولت الإمساك برمزية ودلالات اللون الأبيض، بشساعته الغامضة ومحمولاته المثقلة، يوتوبيا البياض، تصوفه، حنينه، غيابه، إلخ، ماذا كنت تود القول من خلال إصدارتك الأولى؟
كنتُ أبحثُ عن نورِ الله في الوجود، أتقصَّاهُ في الكائِنَات، في الأشياء والعتمات، أتقصَّى الحقيقةَ في عالمٍ غامض، أبحث عن قطرةِ الضَّوءِ في نهرِ الحياة. بحثت كثيراً عن البيوتِ البيضاءِ والأنفسِ البيضاء، حاولتُ اقتناصِ المطلقِ في العابر، حلمتُ بلحظةٍ مُضيئة، بنورٍ ما في عتمةِ النَّواحي، لا تزال الحياةُ كثيفة، وهي هنا في هذه البلاد الحزينة أكثر كثافة منها في أي مكانٍ آخر، كنتُ أبحثُ عن أملٍ ما وكلُّ شيءٍ كان يَغسِق. التصوُّف البادي في النصوص هو جزءٌ منهذه التجربة، هذا الأبيض هو مشروع (نثار)، ولا يزال مشروعي إلى الآن، كتابُ(سهد الرعاة) ليس مفارقاً لنثار من حيثُ المعنى بل هو بناءٌ على ما سبقَ وقلته في نثار.
الغيابُ والحنين أيضاً من الثيماتِ التي أشتغلُ عليها كثيراً، الغيابُ يهدِمُ الحياة وأنا أحاول ترميم ما تهدَّمَ منها عبر الكتابة، ليس في الوسعِ شيءٌ حيال الغياب، المفارق، المنعطفاتِ والموت، كلُّ ذلك قاسٍ وحتمي.

*الشعر سلسلة كبرى من المجازات المطّرِدة، من المجازفات والألم، هو اللا منطقي أبداً. ما تعريفك الخاص للشعر؟
هو برقُ الكتابة، الذي يخترِق ويجرَح ويُضيءُ ويخطِف، وهو روحها وجوهرها، وهو عندي الكتابةُ الأدبيةُ في أقاصي سَمَاواتِ معانيها، وهو معجزة اللَّغة وأعلى طاقاتها، هذا طرفٌ من الشَّعر. ليسَ لديَّ تعريفٌ خاصٌ بي لماهيَّةِ الشعر، فهذا أمرٌ شائك ولم يصل فيه أحد لقولٍ نهائي لأن الشَّعرَ دائم الانفلاتِ والتجدُّد؛ لذا سيبقى التعريفُ متحركاً ما دامت الكتابةُ الشعريةُ متحركة، يستهويني في الشعر التكثيف اللغوي والكتابةُ المتأمِّلة، الكتابة بدقةٍ وبميزانِ كيميائي.

*لكن الشعر بدوره مهدد بالانقراض و الفناء أمام يأس العالم و تحجره، عنف الواقع الطافر، أمام التكنولوجيا الجافة. ما رأيك؟
ربَّمالم يعد للشَّعرِ جمهورٌ عريضٌ كما كان في السابق، لكن لا أظنّهُ مهدداً بالفناء، فيباسُ العالم يستدعي المزيدَ من الشَّعر، لا زلت معتقداً بأبديَّةِ الشِّعر، ببقائه ما بقي النَّاس على الأرض، سيبقى في كلامِ الناس، في حكاياتهم وأغانيهم ومسارحهم وأديانهم، سيبقى في يأسِهم وأحلامهم، حتى وإن حدثت المعجزة وتركهُ الناس سيحيا في قلوبِ الشعراءِ وفي دفاترهم.

*يدّعي الشاعر أنه خفير الكون: يقف منصوباً على أبواب الجمال الغامضة، أمام الأبدي والمطلق، ما يعرف بالقيم الخيّرة، البساطة وكلّ ما هو مفعم بالإنسانيّة. ألا يكلف الشاعر، بهذا الادعاء، نفسه فوق طاقتها؟ ماهي مهمة الشاعر؟
هذا اختيارٌ فردي، على كلِّ شاعر أن يقوم بتعريف دورهِ بشكلٍ مُنفَرِد، لا أحد يستطيع ادعاء الحصول على غايات مشتركة للشعر/الشاعر، تستطيع أن تكتب شعراً كلاسيكياً في المدح والهجاء والفخر وما إلى ذلك ولن يحرمك أحد من صفة الشاعر، وتستطيع أن تقولَ بلذَّة اللغة وجمالها المحض لا أكثر ولا أقل. أنا مع الشعرِ الذي يكلَّفُ الإنسان فوق طاقته لأن ذلك سيعلو به وبالإنسانية.

*مقارنة مع شعراء آخرين، أنت موفق، حتى الآن، في موضوعة النشر، أصدرت كتابين، حدثني عن النشر وعن كتاب؟ و ماهو القادم في الطريق؟
كنت موفقاً في طباعةِ الكتابِ الأوَّل فقد حدث ذلك في بدايات تجربتي الشعرية وخرج الكتاب بشكل مُرْضٍ بالفعل ودونَ كثير َهَق، ثم لم أوفَّق في الكتابِ الثاني فقد صدر بدءاً باسم (لأن الهدندوة وحدهم) في طبعة لم تكن جيَّدة بسبب الناشر مما اضطرني لإعادة إصدارهِ مرَّة أخرى باسم (سهد الرَّعاة). لا توجد صناعة للكتاب في السودان، فقط محاولات هنا وهناك.
أعمل على إصدارِ كتابٍ شعريٍ ثالث إن شاء الله في النصف الأولِ من العام القادم متى ما عثرت على دار نشر مناسبة، لديَّ أيضاً مشروعٌ مشتركٌ مع الصديق محمد النحاس لإصدار ترجمة لأحد كتب مارك ستراند، أو ربما مختارات من عدةِ كتبٍ له،  توفُّرُ الوقتُ الكافي هو العقبة الدَّائمة أمامي، فأنا أعمل لساعاتٍ طويلة يومياً وأدرس أيضاً، مضافاً لذلك طبيعة الحياة الاجتماعية في السودان، هذا يجعل الوقتَ حلماً عزيز المنال.

*بهذا، هل على الشاعر أن يتفرغ لشعره، أن يحيا في الشعر ومن أجله، أن يكون شاعراً ليس إلا؟
لم أعنِ ذلك بالضبط، العالم ليسَ سهلاً ولن يسمح بذلك إلا لقلةٍ من النَّاس، أعني أن يتفرغ الكاتب لكتابتهِ فقط؛ لكن بالطبع لو توفر للشاعر العمل في مجالٍ ينسجم مع عمله الإبداعي، يضيف له ولا يخصم منه، فسيكون ذلك مفيداً لشعره، على سبيل المثال محمد عبدالحي كان أستاذاً للأدب المقارن وهذا بالطبع أضاف لتجربتهِ الشعريَّة. في حالتي اضطرُّ للانقسامِ بين مناطق لا رابط بينها، أحاولُ اللَّحاقَ هنا وهناك وتفوتني أشياء.

*هل يشكل النقد هاجساً لديك؟ بمن في ذلك القارئ الناقد. الناقد والقارئ معاً، كسلطة؟
في لحظةِ الكتابة لا أفكِّر بالقارئ أو الناقد، أكتب بحريَّة، لكن عندما أهم بنشر نصٍّ ما أو كتابٍ ما أخافُ دوماً من إحباط القارئ الذي يحب كتابتي.

*تزاوج في نصوصك بين التفعيلة والكتابة اللاإيقاعيّة – إن صحَّ التعبير عنها – هل عثرت على شكل نهائي لقصيدتك؟
لا أفكر في البحث عن شكلٍ نهائي، لا أظنُّ بأنَّه يجبُ عليَّ أن أفعلَ ذلك، الشكلُ النهائي قيدٌ للقصيدة، الكتابة تجريبٌ مستمر وتجربة تتطور، المهم أن تكونَ أنتَ أنتَ بصوتك الشعري الذي يخصُّك. أكتب قصيدة النثر الآن أكثر من سواها، لكن التفعيلةَ أيضاً ممتعةٌ جداً بالنسبةِ لي ولا أرى أن قصيدة النثر رغم حقولِ جمالها الفسيحة تستطيع أن تستوعب كلَّ جماليات قصيدة التفعيلة وبالتالي تلغي وجودها، لهذا أحتاجهما معاً.

*يعاني المشهد الشعري السوداني فقراً مدقعاً: تربص السّلطة وهجمتها، قلة المنتديات أو انعدامها، الانكفاء الشُللي، غياب المجلَّة المتخصصة، أجسام وملتقيات شعرية حيّة كبيت الشعر مثلاً، برأيك كيف يؤثر كل هذا الاضطراب في تطور حركة الشعر؟
كل هذا المشهد الفقير الذي تحدثت عنه يؤثر سلباً على الحركة الأدبية في السودان. في حقيقة الأمر تراجعنا كثيراً في كلِّ مناحي الحياة منذ بدايات هذه الحقبة المظلمة في بلادنا وإلى الآن، ما لا يمكن إنكاره أننا نسكنُ الآن وطناً بالغ القتامة وغير صالحٍ للحياة. السلطة تروِّج لثقافة العنف والإقصاء والكراهية، لكن لا حلَّ سوى الرَّحيلِ بشكلٍ نهائي والبحث عن أرضٍ جديدة نسميها وطناً أو في المقاومة بقدر ما نستطيع. المفرحُ أنه لدينا رغم كل ذلك حراك شعري وروائي كبير في السنوات القليلة الماضية، وهذا يبعثُ شيئاً من العافية.

*كيف تكتب؟
كنت قديماً أكتب وأنا أمشِي، أذهبُ في مشاويرَ طويلةٍ بلا وجهةٍ محددة ثم أعودُ منها إلى البيت بسلالٍ الكتابة. كان هذا قديماً، بعد ذلك ارتبطت الكتابة عندي بالسفر، كنت أعِدُّ الكرَّاس والأقلام كلَّما تهيَّأتُ للسفر، كتبتُ كثيراً من النَّصوصِ في طرقاتِ السفرِ حينها، البحرُ أيضاً يدفعني للكتابة، العديد من النصوصِ كتبتها هناك، قربَ بحر، ابتعدت عنه لسنوات، وهذا أضرَّ بي.
غالباً ما أبدأ كتابة النَّص بقلم الرَّصاص، ثمَّ أتحول للقلم الأزرق أو الأحمر أحياناً بلا مقدمات وبلا منطق. أحياناً بعض النصوص لا أستطيع كتابتها إلا على الدفتر وبعضها لا ينكتبُ إلا عبر الكيبورد، ليس لدي تفسير منطقي لكلِّ هذا، والقهوة تبقى قاسماً مشتركاً في كلَّ ذلك.
للمكانِ تأثيرٌ عليَّ أيضاً، في كسلا وبورتسودان أكتبُ بسلاسةٍ وتدفُّق، في الخرطوم أعاني لأكتب، الخرطوم مدينةٌ لا تشبهُ الشِّعرَ أبداً.
أحياناً ينتهي النصُّ في بضعةِ أيّام وأحياناً لا ينتهي إلا بعد شهورٍ أو سنوات، وأحياناً لا أكتب بالمرَّة لبرهةٍ طويلة، الكتابة تأتي وقتما تشاء وتغيبُ وقتما تشاء، وأنا لا أرغمها أبداً.

 

* شاعر من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى