إلقام الميثولوجيا حجراً
في مواجهةِ صفِّ النّساءِ الطويلِ، عند مدخلِ الغرفةِ الطّينيّةِ الواطئةِ، ذاتِ الباب المخلوع؛ وقفَ الولدُ ذو السنوات الثلاث عارياً كأنه تجسيدٌ حيٌّ لما يُطلق عليه: (قِلّةُ الأدب). فإذا غالبنا الضحكة الصاخبة التي يمكن تفجُّرُها إزاء مشهدِ كرشهِ الصغير البارز، وذلك الشيء المتكوِّر وسط بطنه كأنه ليمونة دُسّت تحت جلده المشدود؛ فلن نستطيع الفكاك من الضحكة المضاعفة طالما أن مؤشِّره الذكوريّ، بين فينةٍ وأُخرى ينتفض ويرتخي. وربما فوجئنا بمعرفة سبب هذه الوقفة؛ السبب الذي لم يتشكل في ذهنِ أيٍّ من النساءِ المصطفّات للتهنئة بمقْدَمِ مولودةٍ جديدةٍ وفائقة الجمال، وليس كما توقّعت إحدى عماتُها. كان الولد (ابن الخالة)؛ الخالة التي لم تعرف كيف تنجب بنتاً؛ قد ملَّ ركلات إخوته الكبار، على النقيض تماماً حال كونهم إناثاً؛ فالأنثى لا تملُك إلا أن تكون رحيمةً مثل نسمةٍ وأكثر.. أمّا الكلام الذي يبثّه الشيطانُ الصغيرُ في ذهن الولد: أن النّسوة المهنِّئات ما هُنّ إلا قوىً شريرةً تريد أخذ البنت، أو أن يدسُسْنَ في بطنها السِّحر.. وهو لا يريد لها الموت. ثم كيف لزهرةٍ أن تموتَ ولمْ تصِر ثمرة.. يا لله! هل قلت ثمرة؟
إذن.. لا مُناص من ابتداعِ حيلةٍ تقتلع هذا الولد، قليل الأدب (بإجماع صفِّ النساء المهنئات) من عتبةِ الباب اللعين المخلوع. لكن البكاء المفاجئ للطفلةِ الجميلةِ أمسَكَ الولد من ياقةِ الحنان، فانفجرت الضحكة الجماعية المكعبة! راحت يدهُ الصغيرة ترُبت على الزهرةِ اليانعة؛ اللّمسة التي أشاعت الحنان في روحها حتى أنها كشفت عن فمٍ خلاقٍ وخالٍ من أيّة أسنان. غير أن واحدةً من النساء المصطفّات للتهنئة، النساء اللاتي مللت ذكرهن، لم تفلح في اجتياز هذا الخازوق الصغير، الواقف قرب السرير غارزاً عينيه الماكرتين، اللتين لا نستطيع استجلاء ما تخفيان، في كومة اللحم الصغيرة المتوردة؛ لم يفلحن دون تقديم قرابين العبور…!
كانت البنتُ ذات التنّورة القصيرة، بشعرها القصير المجعّدِ القاتلِ الجمال، تفترش الرّمل لاهيةً في ابتناءِ بيتٍ أسِرَّتُه من الطوب، مغطاة بملاءاتٍ ورديةٍ يجلبها الولد (قليل الأدب) مما يتساقط تحت ماكينات الخياطين. قبل يومين أتاها يتأبّط ـ خلف أذنه ـ زهرة برية لها أثر الزيت في الملمس ونكهتها فاحشة الأريج. ثم ها هي الآن تتصاعد في الهواءِ كالعبيرِ تطيرُ مع الفراشة المربوطة من رجلها، بخيطٍ رفيع. ومع ارتفاع نبرة المرح الطفولي، وانشداه الصغار بمشهد البنت ذات التنورة القصيرة، المحلقة مع فراشتها؛ انفَتَحَ بابٌ في الجوارِ أطلّت منه امرأةٌ فزعة المحيّا وشبه عارية. كانت المرأة تقف في آخر صف النساء المهنئات (اللائي أذكرهن للمرة الأخيرة) ويبدو أنها صارت تخاف الولد قليل الأدب؛ لذا فقد خطفت بنتها المنزوية، إذ كانت في كامل انجذابها مع معجزة التحليق.
“يجب إيقاف هذا الولد عند حدِّه”
قالت المرأة ذات الثوب الوحيد (هي نفسها المرأة شبه العارية)، متوعدة والدة البنت (الفتاة التي فاض جسدها عن التنورة القصيرة)، بأنها ستفعل ذلك وتشيل وجه القبح. لكن الأمر الذي تجهله المرأة ذات الثوب الوحيد، أن والدة الفتاة التي فاض جسدها عن التنورة، تريد ذلك. وربما أنها تنتشي بنموِّ بنتها الوحيدة في كيان الولد الموسوم بـ(قلة الأدب)، إلا أنها لا تجد طريقة للبوح بذلك. وبالتأكيد، ليس هنالك ما يبرر هذا الخرس الغبي؛ إلا أن يستشيط زوجها الذي يقولون إنه ـ عندما يحار فيما يفعل ـ يصلب ظله في الناحيةِ المقابلةِ على الجدار؛ إيذاناً بشجارٍ ينتهي، دائماً، مع بزوغ الشمس!
يمكنني رؤية البنت ـ إذ أجلس ضجراً على الإطار الهائلِ نصف المدفون، عند ناصيةِ دكان الرجل الثرثار ـ تخرج البنت (التي أسرَّ لي الرجل الثرثار باسمها للتو)، تسير في خطوٍ يكاد لا يلامس التراب إلا كما يوقظ أحدُهُم حبيبته في الصباح. هي الآن تقترب أكثر.. سيغطي ظلها الخفيفُ جسدي لثانيةٍ واحدةٍ. ومن شارعٍ مفاجئٍ ينبثق الولد الجريء، مادَّاً يده التي سحبها من جيبِ البنطال؛ ثم تشابكت اليدان في عناقٍ لن ينفكَّ إلا قُبيل ولوجها باب المدرسة!
هذه البنت المكثّفة، وقبل أن يرشقني ظلها الخفيف؛ كان عبيرها قد عبق روحي المعذبة. لقد بعثت فيّ شعوري لأول مرةٍ تصاعد فيها الدمُ إلى رأسي، في ذلك الموقف الهزلي، التاريخي، الذي أوهمني بسقوطي، كليةً، في بحيرة الحب. يمكنني بثّ المشهد من قناة التخزين خاصّتي كما هو: ثمة كوبا عصير كانا من اختياري، أي أنها لا تستطيع حتى اختيار عصيرها الخاص. كانت تطوّق الكوب بيديها منكِّسة رأسها فيما كنت أثرثر بكلام ملتوٍ وغير مفهوم (من منظور بعض الأصدقاء؛ الذين افترضوا أن لغتي شديدة الشعرية، كما أنني أحمِّلها فوق ما تحتمل؛ مما يضطر جليسي للفرار؛ خصوصاً إن كانت فتاةٌ صلعاءُ الذهن لا تتذوق الشعر ولا تقرأ أي كتاب).
قلت: “أريد ارتشاف الشِّعر المتدفَّق بين رمشيك الغزيرين”
“وجهي مخيف”
قالتها ثم عادت تنكِّس رأسها فيما يشبه الحياء.
لكنني باغتُّها بما لا يمكن لعاقلٍ أن يتصور: “أُريد أن أخاف”،
فانفجرت ضاحكة كما لا ينبغي لبنتٍ لا تتذوق الشعر ولا تقرأ أي كتاب أن تفعل. بعدها لم تعد تنقر نافذتي أطيار الصباح.
كان الولد الجريء، يفكك، للرجل الثرثار، بعضاً من طلاسم علاقته بالبنت المكثفة. عادة عند اختبائه لتدخين سيجارة الصباح التي تزيل التشويش الصباحي وتعينه على احتمال معلم الفيزياء وحَجَرُه دائمُ الانطلاق: (انطلق حجر.. إلخ) “سمعتُ صراخاً رناناً ينبعث كالموسيقى من بيت خالتك قبل أسبوع” بطريقة تلقائية يجيب الولد الجريء:
“ما لن يدركه هؤلاء الناس أن الله قد حقنني بروح هذه البنت.. هل تفهم؟ أعني، يقيناً، أنها خُلقت لأجلي. يكفي تتطابق فصيلة الدم لأن نمنح أحدهم صورة تذكارية. كان الرجل الذي يتشاجر مع ظله يتلصص على البنت. لا أدري كيف سقطت الصورةُ المخبأة بين طيّاتِ كتابِ الفيزياء. ربما لكزتها يدُ الجاذبيّة. تعرف: هذا الحادث البسيط فعل معي ما لم يستطع إقحامه في رأسي معلم الفيزياء. المهم أنه أبرحها ضرباً وبصق على الصورة لكنه لم يقو على تمزيقها. أنت لا تستطيع تفريغ الكائن من روح تسكنه.
في ذات ليلة الصراخ تسوَّرَ الولد الجريء منزل الخالة والدة البنت الوحيدة. لا بد أنه تألم ـ الألم الذي يعتري أي عاشق ـ لتلك الكدمات على وجه الحبيبة. سيمدد الولد العاشق يده المباركة، وقبل لحظة الملامسة؛ تأخذ الكدمات في الاختفاء من وجه الحبيبة الذي ضجَّ بإشراقٍ ساحرٍ مثل نورٍ إلهي!
مرة قلت، في واحدةٍ من أروع (التجديفات) التي ينحتها عقلي، وكانت عن الضمير:
“الضميرُ كائنٌ زئبقيٌّ ينتعلُ أظافرَ محراثٍ عظيمٍ يقلّب لاوعي البني آدم…”، لذلك أشعر بغصةٍ تعترض انسياب الروح في بدني؛ كلما أذكر، في لحظاتٍ قليلةٍ ومؤلمة، فتاتي تلك التي لا تتذوق الشعر، وكيف أنها أطارت الحمام عن يدي. غير أني أدرك دوامة الحيرة التي تعيش: كيف لم أفقد صوابي!
أعترف بأني تهورت، بل كدت أن أفقد هذا الصواب حينما بترت ظلي وخرجت دونما أودع أحداً وما عرف وجهتي بشر. وهذا، تحديداً، ما أدعوه بالتغيير.. أعني أن المكنسة الكونية التي تجوب العالم، مدفوعة بقدرة الرياح على التحريك؛ لإنتاج زوبعة من الأحداث العبثية التي ستُعَلَّق، لاحقاً، على شماعة الصيرورة التأريخية؛ قد تجلى أثرها على منزل (الرجل الذي يتشاجر مع ظله)؛ حتى إنه لم يكن باستطاعتي كبح ضحكتي المجلجلة؛ إذ رأيت مرحاضه القديم المتهالك وقد شُيِّد مكانه حمَّام أنيق ينتمي لطراز “الهايتك”.
لحظتها فكرت بخبث:
“كانت (البنت التي أسر لي الرجل الثرثار باسمها)، تقضي حاجتها في الخلاء؛ إذ لم يكن الجلوس على تلك الهاوية العظيمة، التي تسمى بـ(المرحاض) أمراً يخطر ببالها مطلقاً. كما أن مصدر جنونها الآخر؛ كان يتمثل في مناوشات الصّرصار ذي القرنين المخيفين؛ حيث كاد أن يخدشها في المرة الأخيرة”،
وها هي ذات ضحكتي المجلجلة، تمسك الرجل الثرثار من ياقة الحنين، قاذفة به في حضني. ويبدو أن المكنسة الكونية قد ساقت إليه بعض المغانم، التي يفصح عن بعضها (المول) المكتظ بالأغذية المعلبة. فلقد أوكل إليه ـ بفضل ثرثرته ـ مسألة جلب الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي ـ كما نعلم ـ لم يفز بها أحد.
كنت أجوس في الأنحاء من تحت نظارتي الطبية؛ ربما رشقتني البنت المكثفة بظلها الخفيف، فيما كان الرجل صاحب المول يدفعني إلى الداخل. طوّقت كوب العصير بيدي (كما فعلت فتاتي ذات الوجه المخيف) في انتظار أن يثلج الرجل فضولي مثلما أثلجت يديَّ:
“لقد صار الولد العاشق صائد خفافيش.. نعم. وأنت بالذّات (رمقني بابتسامٍ خبيث) لا يساورني ريب في أنك اصطدت آلاف الخفافيش وجففتها. لست أدري إن كن ـ الفتيات اللائي أردت إيقاعهن في حبك ـ يقضين حاجتهن في الخلاء أم في أكياس نايلون. لكن ثمة طريقة، دائماً، كنت تنثر بها مسحوق الخفافيش في مكان تبولهن. وكما تعلم: “من أضاع بعيره يفتش بيت الدجاج”. فبعد أن استنفد الولد العاشق الحيَلَ لترويض الفتاة ـ التي لا أدري سبب نعتك إياها بالمكثَّفة؛ إثر انقلابها الكامل والمفاجئ؛ إذ لم تعد تبالي بيده الدافئة المشيعة من جيب البنطال كما في السابق ـ استنجد بتلك الحيلة القديمة والأخيرة”.
وعندما لم يستبنْ أي ارتسام للتأثر كما هو متوقع؛ حيث بدا وجهي مثل مرآة خرساء وأكثر.. كنت أنظر سيل الكلام يهدر من فم الرجل صاحب المول مثلما ينفتح خزان مياه محتجزة:
“هذا الحدث كشف عن غابة الشِّعر المخيفة المخبأة في جوف الولد العاشق. كان يقذف شعراً كأنه حمماً بركانية مهيبة، شعرٌ يستشري كالوباء ويتسلق حوائط الحي كلها، فالأحياء المجاورة إلى أن غرقت المدينة كلها في سيله الشِّعري الجنوني.
وذات ظهيرة قائظة الحر، نزع الولد العاشق المجنون وجهه.. ألصقه في صفحة السماء وأطلق صرخته الرهيبة.. بعدها أخذ جسده النحيل يغوص في جوف الأرض. وعندما اختفى الجسد تماماً؛ تفجر من فوهة الاختفاء، النبع الشعري الذي نَمَتْ على حوافه أزهارٌ غريبة ذات نكهةٍ أخاذةٍ وفاحشة الأريج. ونسبة لكثرة القاصدين؛ تحولت الحديقة الشعرية إلى مزارٍ يقصده العشاق؛ بعد التوسعة وتشييد قبة ضخمة صُمِّمت على شكلِ القلبِ الشهير المخترق بسهم.
*قاص من السودان