العِرْفَة في مسرح مجدي النور
وعي وإيمان مجدي النور بالحياة السودانية باختلافها واتفاقها، ببساطتها وتعقيداتها، بفقرها وغناها، هذه العِرفة وهذا الوعي مكناه من أن يكتشف طرائقه ودروبه الخاصة في التعبير المسرحي عما يختزنه وعيه من خبرة حياتية، شكلت جوهر مسرح مجدي النور، وتجلت أكثر في نضجه المبكر اجتماعياً وسياسياً وجمالياً، من ثمّ نضجه الإنساني، الذي مكنه من اكتساب شخصية الفنان/الإنسان، ليصب جل اهتمامه في البحث عن المعرفة المسرحية وفنونها المجاورة، للوصول إلى حقيقة المسرح الذي يتسع لخبرته الحياتية، ليصبح صانعاً لمعرفة مسرحية أسهمت في إظهار وتطور شكل مسرحي يشبه نمط تفكيره الخلاق.
ولأن وعي وإيمان الفنان مجدي النور مرتبطان بحياته اليومية، لذا كان تفكيره المسرحي يطابق سلوكه المسرحي، فاحترامه والتزامه وتقديسه للمسرح، جعل منه شخصية الفنان الذي يمتلك العِرفة والحرفة المسرحية في آن واحد، بالتالي نجده يحظى باحترام واهتمام أقرانه وكثير من مجايليه وممن سبقوه، فشخصية مجدي الفنان، في حقيقتها، شخصية محورية مرجعية لأقرانه وأساتذته وتلاميذه.
الحكاية في مسرح مجدي النور
كان مجدي النور منضبطاً درامياً، بحرفية حياكة القصة وتقديمها على المسرح، فهو ملتزم بالشكل التقليدي للبنية الدرامية للقصة في المسرح، بالتالي يقصها بطريقة تجعلك تعتقد أن ما تشاهده حياة تبدو ظاهرياً عادية ومطابقة لما هو يومي، ولكن سرعان ما يذكرك بأن الذي تشاهده ما هو إلا قصة من الحياة وليست الحياة نفسها. وقدرته الماكرة على نسج الحكاية يجعلها في كثير من الأحيان تكاد تكون أوسع وأكبر من الحياة، ويكمن السحر في الحكي المسرحي عند مجدي النور في أنه دائماً يذكرنا بأن ما نشاهده ما هو إلا لعبة مسرحية، إن كان ذلك من خلال مرجع حركي أو حواري يصنع بصورة مقصودة، أو من خلال تمرد بعض الممثلين على الشخصية التي يؤديها، بالتالي منح الجمهور فرصة للشعور بالاستراحة والمرح خارج سياق العرض، الذي تم التخطيط له بدقة. وهذا الإدراك والانتباه إلى القدرة الحقيقية للمسرح، ودوره في التغيير جعله يذكّر جمهوره بأنه مسؤول عن تواطئه مع الفنان، وانحيازه التام إلى مسرحه، لذا لا يطالب المسرح بأكثر من عرض تتوافر فيه الشروط الفنية للعرض.
في اعتقادي أن مجدي النور وإن استخدم كلمة “تغيير” أو أشار إليها مسرحياً أو فكرياً أو شعرياً، أو حتى في ونسته العامة فهو مدرك تماماً لأدوات التغيير التي توجد خارج المسرح، لذا يكتفي مسرحه بقص الحكاية فقط، فمجدي مؤمن تماماً بقدرة الحكاية السودانية إحداث التنوير، لأن مرجع (الزول) السوداني في الكلام والحكي هو الأمثال والحكم والاستدلال الشعبي بكتاب الله دون الإشارة إلى آية قرآنية بعينها، ولكن بالاكتفاء بأن “القضية هذه مذكورة في القرآن”، دون تناولها بالتحليل والتفكير المنفتح، بحسبان أن هذا التحليل ليس من مسؤوليته بل مسؤولية شيوخ وعلماء وفقهاء، لذلك يكون الاستدلال شعبياً بالكتاب، أي أن المعرفة الدينية المبنية على معرفة آخرين، هي مرجعية في حد ذاتها، وهذه المرجعية التي نعتمد عليها في الكلام جعلت ما نقوله حقيقة ظاهرة لكل صاحب عقل.
مجدي فهم منطقية قص الحكاية في حياتنا السودانية لذا نادراً ما نجده يضع كلامه على أفواه شخصياته المسرحية، بالعكس كثيراً ما يكون هو صوتاً لأناس مكممة أفواههم. ويتجلى ذلك في كل أعماله (مستورة، الرجل الذي صمت، الحلة القامت هسه، عجلة جادين الترزي) إلى آخر أعماله.
فعرض مسرحي كـ(مستورة) بني على المفارقة، إذ أن كلمة (مستورة) من الكلمات الشائعة في محيطنا الاجتماعي، ولفهم مجدي النور لقيمة السترة وأهميتها في تماسك بنى المجتمع وترابطه، استطاع أن يعيد إنتاج السترة كمفهوم قيمي تتسع دلالته حد الصبر، لأنه واع بحركة هذا المفهوم ما بين ما هو ديني/اجتماعي، وما هو سياسي مرتبط بالرأي العام، ولفهمه لطبيعة الإنسان السوداني التنسيقية القائمة على اتخاذ القرارات الفردية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمجموعة، وفهم أن مجتمعاتنا تنسيقية أكثر من كونها قيمية، لأن التنسيق في حد ذاته قيمة.. لكل ذلك كان لابد من أن يطرح مفهوم السترة طرحاً مسرحياً يتسق مع نمط التفكير الجمعي للفرد، لذا تجد العرض في ظاهره يجاري الحياتي ويكاد يطابقه (مستورة/ مستورة خالص/مستورة جداً/مستورة والحمد لله)، فهي عبارة في ظاهرها عادية تكاد تكون خالية من الدراما ولكن في سياقها المسرحي تجدها مشحونة شحناً كثيفاً بالدراما.. الحوارات التي تفضح الشخصيات في هذا العرض حينما تعبر عن حاله فردانية تجدها متسقة مع مفهوم السترة، حتى وإن شكت حالها فهي لا تغفل عن طبيعة الإنسان السوداني الذي يشكو بعبارة مخبأة في الشكر لله، ولكنه كان واعياً تماماً حينما استخدم نفس العبارات لفضح الشخصية الجمعية، فالأمر عنده يتطور مما هو شخصي إلى ما هو موضوعي، لذا يعالج حالة الاحتجاج والرفض والثورة خارج التوقع، بنفس سخرية الشخصي، فيلجأ إلى الحوار الجماعي الذي يستفيد منه في عمل النقلات للأحداث وتطورها الدرامي.
في هذه التجربة أو كل تجاربه، لم يقع مجدي في فخ الهتافية التبعية، والسطحية في تناول القضايا الكبيرة، كالظلم والغبن والفقر والتمييز، الذي يعاني منه كثير من المواطنين، وغياب العدالة الإنسانية التي لم تجد لها مستقراً في هذا الوطن، والتنمية التي تملأ نشرات الأخبار وأفواه الحكام التي تجيد حرفة الكلام. تناول مجدي قضايا كبيرة وأسئلة جوهرية تقع في مجال عمله كباحث وممارس مسرحي، فقط بلغة الناس وتفكيرهم ورؤيتهم الثاقبة لهذه المفاهيم وليس كما اعتاد مسرحنا أن يتناولها: كما تتناولها الكتب. مرجعية مسرحنا لمثل هذه القضايا هي الكتب وليس حياة الناس، بالتالي حينما يتحدث الشخص في المسرح تشعر كأنك تقرأ كتاباً أو تستمع لندوة أو خطبة سياسية، أو تأتي عبارات فضفاضة منفصلة عن طبيعة وبنية العرض. لم يكن مجدي من هذه النوعية التي تنظر إلى الأمور بسطحية. ولم يعفِ الفرد من تحمل المسؤولية تجاه الجماعة. لم يكن مجدي هو من يسمي شخصياته، بل كانت مصائر هذه الشخصيات وأوضاعها العامة وظرفها الاقتصادي وحياتها المبنية على المفارقة هي التي تطلق عليها الأسماء، على سبيل المثال في (الحلة القامت هسه) نلاحظ أن الشخصيات تبدو من أسمائها (سعد، سعيد، سعادة،…الخ) كأنها تدرك مصائرها الاجتماعية وتعري حاجتها ورغبتها الصادقة في أن يتبدل حالها من تعاسة إلى سعادة في حي سكني نبت مؤخراً مستفيداً من جوالات الإغاثة والفحم والدقيق، لبناء البيوت التي تحتمي بهذه العشوائية في التخطيط. استفاد مجدي النور من فوضى الأسماء التي تطلقها الحكومة على المجمعات السكنية (دار السلام، الفردوس، دار النعيم، الإنقاذ…الخ)، هذه المجمعات السكنية المبنية على المفارقة لا هي دار للسلام، ولا هي فردوس، ولا دار للنعيم، فهي مجمعات تشبه المنافي والسجون وساحات الحرب ومكبات للنفايات تعيش حالة البؤس والفقر والأمراض المرتبطة بالجوع، وهي دائماً في تماس مع القانون. وبرغم الإصرار الرسمي على هذه المسميات، إلا أن الإرادة الشعبية الحقيقية التي تعيش في هذه المناطق تعلن سلطتها وأحقيتها في تسمية مكان معيشتها ومماتها (زقلونا، جبرونا، رأس الشيطان، حكومة مافي، خلي بالك، كرور، الجخيس، الانتفاضة…الخ) هذه مناطق جحيمية أخذت اهتمام مجدي، ولم يكن منفصلاً عنها، فهو يعرفها معرفة حقيقية ولم تكن معرفته بالسمع أو القراءة، لم يبحث عنها في المكتبات، بل كان يبحث عنها فيها، يعرف ناسها ويعرفونه، عاش جحيمها لذا حينما يقدم حكاياتها على المسرح يقدمها مشحونة بالأمل بأن يتحول هذا الجحيم إلى نعيم وسلام وفردوس وإنقاذ حقيقي. صناعة الأمل في مسرحه لم تكن صناعة خفيفة أو مزيفة، فهي صناعة أصلية واعية للحالة السودانية على إطلاقها.
* مخرج مسرحي من السودان