ثمار

في وداعه الجميل

رسم/طلال الناير
رسم/طلال الناير

وأنا في طريقي لثورة وداعه الأسطوري، شعرت بحزن نبيل ممزوج بنسائم برد شتوي لطيف، حزن وبرد، يدثران أحياء الخرطوم الشعبية، كلها، كقبة السماء الصافية، المرتعشة النجوم تلكم الليلة، بنجم أسمر، عرج إليها في الأعالي، كي يحرس ليالي المدينة معها، بوهج أنيس مسموع، نجماً من نجوم السماء المزهرة،  يهتدي به الشباب، في منعرجات ليالي كبدهم، إلى مسرات نفوسهم الحالمة!!.

أتعجب، وأنا أنظر حولي، أهذه ليلة رأس السنة؟ ألم تمر ليلة عيد الميلاد، غرة يناير، قبل أسبوعين حزينة، بلاد بلا جنوب، قضم الجهل نصف قلبها؟ أفي التاسعة مساء تمتلئ الطرقات الفرعية لحي الأزهري الشعبي،  ببنات وشباب ورجال ونساء، في ثياب حداد، في طريقهم لمطار الخرطوم الدولي، صفوف طويلة، على قارعة الطرق، في انتظار «رقشة، أو أمجاد، أو حافلة» حتى العرف الشعبي «ممنوع عبور العتبة بعد التاسعة» للبنات، حطمه المغني الأسمر، وترك، (أهوس الأسر، وأحرصها)، تطلق عنان التجول لهن، في حضرة غيابه/حضوره الأبدي، وساهر القوم، جراه وما اختصموا، حتى مطلع الفجر في طرقات المدينة، رأس سنة أسمر، هي ليلة السابع عشر من يناير، ليلة عيد ميلاده، طفلاً في ملكوت السماء الأبدي.

مضيت اقتفي أثر وداعه، حملت فضولي وقلمي، وقلبي، نحو وداعه الغريب، في ظل نظام إسلاموي، اتسعت حدقتاه لمراسم الوداع، وقد رحل سرب من رموزه، في تشيع باهت، رغم آلة الإعلام الناعقة، والحشر المصنوع للناس، عثرت على بعض أسرار الهيام الأسطوري به، وغابت عني أكثرها، عسى أن تطفو لاحقاً في ذهني، إنها شخصه، قيل إنه بسيط، قيل بأنه «مسكين»، حتى أنه لا يعرف قيمة صوته، وقيل بأنه عاش في بيت بسيط، وليس قصر منيف، كان بمقدوره أن يشيده من دخل حفل واحد من حفلاته الأسطورية، بيته يشبه بيوت الناس، وباب خشبي، يشبه أبوابهم، وحصير في السقف مثلهم، وعاش بين الناس، يمسه ما يمسهم من فقر وهوان، ومن فرح وجمال، فكان صوتهم، وظلهم الأسمر، يقيلون فيه من وعثاء الطريق، وكبده، كان كريم النفس، ندي الكف، الكرم أعظم أغنية تختال في مكارم بني آدم، فعضة الجوع، لا تشبعها أغنية، مهما سمت، ولقمة هنيئة، صغيرة، تسد عضة الجوع الأليمة، وتجعل الجسم يغني بالري، والشبع، يغني ويهب ما يجني، بربك كيف يلتقيان؟ سوى في يسوع أسمر، محمود عبدالعزيز.

سرح طرفي في الفن، وعبقريته، ما أعجبك أيها الفن، تشيع رموزك في كل البلدان بطقس كالأسطورة، مايكل جاكسون، أم كلثوم، حليم، عرس شعبي، فطري، كأن تحت وترك مطوي سر الحياة، الذي يجمع شمل الشعوب، قصباً عن تعنت اللون، والرأي والمعتقد والطبقة، وحدة عضوية ترتعش لها كل الضلوع، فما أحن أفانين الوجدان، وما أجفى  تصورات العقل، ثورة ربيع فني، جرت في العاصمة السمراء، الخرطوم، عند ملتقى النيلين، ختام ليل الخميس، وبدء فجر الجمعة، السابع عشر من يناير2013م.

هل نزل المسيح بعدله، وعرائسه تلكم الليلة؟ كل شيء مجاناً، المواصلات، الأعلام، أكواب الشاي، ما أطيب قلبك الليلة، أيتها المدينة السمراء، اشتراكية فطرية، فضل الظهر، في كل دابة، من أجل وداعه، شارع إفريقيا، الوسيع، ضيقته السيارات المتراصفة عليه من الجانبين، ببشر حجوا له من كل فج، أطول شارع في المدينة، يشقها من أغنى دورها في شمال الطريق، ولأفقرها، في جنوبه، شريان أسود، مثل المغني الراحل، شارع مشى فيه اللاعب بيليه، وناصر، واللص الشهير كارلوس، الذي أربك الإنتربول الدولي، وسار فيه نعش مصطفى سيد أحمد، الحي الأكبر، ونعش نقد العظيم، ونعش الطيب صالح (لم تمت نجومنا خارج سمائنا السمراء؟!!) ها هو نعش محمود، يعود من عاصمة الأردن، واصطف في الطريق آلاف من الأطفال والأمهات، في ذات اليوم الذي رحل فيه الفنان مصطفى سيد أحمد، توأمه في الصوت الجميل وفي الرحيل.

وجوه، وجوه، وجوه حولي، أتفرسهم، في عرس وداعه، تتقهقر خواطري للأمس البعيد، في طفولتي، حيث الأغاني، تجعلني كائناً آخر، شهماً، كريماً، حكيماً، راضياً، أي حفل في قريتي، لخطوبة بنت خال، أو طهارة قرين، أو عرس، أجلس في سرير خشبي بعيداً عن المغني، أو المغنية، تلفح وجهي أضواء الفانوس أو الرتينة، بين فرجات الراقصين والعارضين والغبار، طفل نحيف، أنيس (أثناء الأغنية)، متصالح مع ذاتي، ناسياً ما قد كان، وما سيأتي، وأولد من جديد، أجمل ما أكون، بقابلة الأغنية، ما أعجبك سطوتك أيتها الأغاني!.

جوبا، تبكيه الآن، معجبون كثر في طرقاتها السمراء، «فأين الانفصال يا هؤلاء»، الوجدان لا ينفصم أبداً، رغم جور السياسة، وكيدها،  الفن لا يؤمن بجهالات الحدود، أغاني محمود تخيط فتوق الانفصال، وتضم أنفاس الخرطوم لشهيق جوبا، وكأن كابوس الانفصال لم يكن، تبكي جوبا محموداً، مثل القضارف، والدلنج، وأمضبان، وجدان واحد، تكمن فيه عظمة الفنون، دفء كوني، الأب آدم، والأم حواء، فطرية سوية، ليت السياسة ترى بعين القلب، لنبتت الحكمة في جدبها المريع..

الفن «بطبعه»، ينقلنا لأغوارنا السحيقة، أحسبه حلماً ملموساً، حساً دينياً إنسانياً، يعتري النفس في حال سماعه، كل جامعات الخرطوم، من الحرم الجامعي، إلى شارع إفريقيا، زهور وغصون بأيدهم، حزن عام، الهواتف النقالة رنتها أغانيه، شباب تقرفص على رصيف نادي الضباط، ونادي التنس، وبوابة الحج، ومطاعم أمواج، والكنيسة الحبشية، وتقاطع الجريف، ورصيف شركة أديداس، واجمين، بنات وشباب نائمين على الرصيف، فتيات يتكئن على حجر صديقاتهن، وسرحن في نوم عميق.

اختارت روحه تلكم المناخات الجميلة، كي لا تؤذي معجبيه الكثر، حياتي خيراً لكم، ومماتي خيراً لكم، فوصلت الحنجرة الصامتة في ليل طيب المناخ، حنون النسايم، أغرق الجميع في قبة حانية من الجمال الحزين، الأشعة الكسولة لأعمدة طريق إفريقيا، ترسل أشعتها الذهبية، فتسقي الشارع حساً شاعرياً، غريباً، حزيناً، كأنهم في حلم جماعي،  لا أكثر، مراسم وداع، قل نظيرها في تاريخنا الفني، والسياسي، والاجتماعي، سيتنافس المؤرخون، من هم الأكثر، من شيعوا سيدي علي الميرغني؟، أم المغني محمود؟ ولو لا العجلة في دفنه، وإرسال طائرة حربية، ودفنه بليل، لفار الشعب، فورة لا تخطر بقلب بشر.

بائعة شاي، استغلت الحشد، بطيبة قلب، وليس غريزة تاجر، رفضت أي سعر، ووزعت الشاي بالمجان، وقالت (ده فراش محمود).

فتاة تجلس على صحفية جريدة الدار، تمدد ساقيها، تتكئ بظهرها على فتاة أخرى، حزينة، كربلاء بين ضلوعها، غنى محمود في قلبها، في مسرح ضلوعها، في يوم ما،  حلق بها في سماوات حناياها، أشعرها برقتها، وفتنتها، وجمالها، أميرة على نفسها، غاية، في غاب الوسائل الكالحة، التي توسمها دوماً، في مسارح حفلاته الكثر، تعرج تلكم الجلسة السماعية، بهن لوحدة عضوية لنفوسهن المتعبة بأرق السعي، والتكوين، والرتابة، وسياط التربية السالبة، ويشعرن معه، في مسرات تلكم الومضة اللحنية، بأنس الحياة، وثراء أرواحهن، وهناااك، تدون المحبة له، فتلكم هي خمر الفن الأصيل، تخيط فتوق الروح، وتضمد أنات الوحدة، بحرير الأنس مع النفس، والتصالح مع القدر، وفهم سر القضاء والقدر، أجمل ما يكون، في تلكم الأغوار تولد عاطفة المحبة، في عالم اللاشعور، ثم تندلق كقدر لطيف في الجوارح، من دونما سبب يعرف، سوى بالحدس، ونوره المبارك..

طبت محموداً، ومحبوباً هناك، كما كنت محموداً ومحبوباً، هنا!!

 

* روائي وقاص من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى