ثمارشهادات

حرب صغيرة: حوار مع رشا حبال

رشا حبال حوار

تتداخل في هذا الحوار – الذي أجراه الشاعر المغيرة حسين حربية مع الكاتبة والشاعرة السورية رشا حبال – محاور الحرب السورية والسلطة والجسد والهجرة والكتابة والموت. تقول رشا عن نفسها إنها “امرأة تنشر هويتها، صوتها، هدوء قلبها، جسدها، صراخها على حبال العالم، كما لو كانت تنشر غسيلها على حبال شرفتها”.. وعن الحرب: “البراري لا يملكها أسد… والحرب لا يشعلها سوى الحمقى، لكنها تُحرق الجميع”ـ وأيضاً: “إن لم تستطع أن تهرب من حرب لا دخل لك بها؟ اصنع لك حرباً صغيرة”.

المحرر

* كيف تشكل الشعر لديك؟
أظنه كان صباح يوم جمعة، ففي أيام الجمعة فقط كنا نعيش صباحاً عائلياً كاملاً، يومها قال لي أبي: اسمعي جيداً هذه الكلمات، وابتعدي عن اللحن قليلاً. كانت فيروز تغني (لا تسألوني ما اسمه حبيبي، أخاف عليكم ضوعة الطيوب)، صدمتني اللغة حينها، وشعرت بسذاجة الترديد دون وعي، وتلك كانت أولى لحظات وقوفي عند الشعر.
حتى الآن أشعر أن لقب شاعرة فضفاض جداً عليّ. ما رأيك أن تسألني كيف تشكلت كامرأة تنشر هويتها، صوتها، هدوء قلبها، جسدها، صراخها على حبال العالم، كما لو كانت تنشر غسيلها على حبال شرفتها.
للحياة يدان قاسيتان على رقبتي، ولهذا كنت أراوغها. أنا أكتب وهي تركض ورائي، لتمحو أثري فتفك يديها عني.. الكتابة تمنحني فرصة لالتقاط أنفاسي.

* المرأة الشاعرة في مجموعتك الأولى (قليل منك.. كثير من الملح)، أكثر مغامرة وجرأة وتمرداً ضد كل التابوهات. إنها تنطلق من الوعي بذاتها المحضة. هل كان ذلك بمثابة بيان أول للخروج عن كل سلطة، عن سلطة الرجل، الرجل الذي أشعل الحرب في الداخل السوري، الداخل الذي تتمسكين بالبقاء فيه ولم تغادريه حتى الآن؟
ما هو ارتفاع سقف التابوهات؟ من وضع هذه الأسقف فوق رأسي؟ من يحاول أن يضع طريقاً واحداً لكل هذه الخيول التي تركض فيّ. هل سمعت عن برية لها سقف؟
(قليل منك.. كثير من الملح) هو الصورة الأوضح لي، والتي لطالما أردت أن يراني الجميع من خلالها.
هل هو خروج عن السلطة؟ البراري لا يملكها أسد.. البراري ملك ذاتها.
الداخل السوري ورجاله.. الحرب لا يشعلها سوى الحمقى، لكنها تُحرق الجميع. وحين تصبح بلادك ساحة حرب طويلة، لن تبقى على حالها في قلبك، ستؤلمك لكنك لن تحتملها طويلاً.

* أنت قارئة نهمة للرواية، ولديك قدراتك الذاتية الساردة لتفاصيل حياتك وعلاقتك بالمكان والتاريخ، إذن لماذا الشعر وليس الرواية؟
كلنا نكتب رواية كل يوم. كم مرة انتبهت لنفسك، وأنت تحدِّث شخصاً آخر في خيالك؟ هل انتبهت لما كنتَ تقوله أو تفعله؟ تسترجع كل يوم آلاف الصور وتنبشها من تحت طبقات رماد حتى تكاد أن لا تتعرف عليك تلك الصور المستيقظة من نومها فجأة. وأيضاً ترسم آلاف الصور بكل ما أوتيت من قدرة على التخيُّل أو تقمص الحالة، تلك هي رواياتنا اليومية، والتي نقوم بسرد بعض منها أحياناً.
لماذا الشعر وليس الرواية؟ أخاف أن أضيع بين الشخوص، فأنا لا يمكن أن أعود من مكان أذهب إليه بقدمي روحي، وعلاوة على ذلك وربما هو السبب الأول أنني صاحبة نفس قصير لا طاقة لي على الركض وراء كل تلك الأصوات، ولا احتمال جدال هذه الشخوص في رأسي، أما الشعر هو صوتي وحدي.

* قصائد المجموعة جاءت قصيرة وناجزة، كطلقات في حرب محكمة، هل تُشعلين عبر الكتابة حرباً أخرى متزامنة مع الحرب الجارية في بلدك؟
إن لم تستطع أن تهرب من حرب لا دخل لك بها اصنع لك حرباً صغيرة، وانشغل عن تلك الكبيرة، دعها تأكلك، فهي حتى وإن أكلتك ستكون رحيمة على روحك، وربما تتركك بسلام، على خلاف تلك الحرب الغريبة عنك؛
فالغرباء لا يمكن أن يتركوك بسلام
في الحرب. في أية حرب لن يكون عندك وقت طويل، لتقول لهذا اختصر قدر الإمكان واهرب، قبل أن تشبَّ النار في قدميك.
* ]على شهقة الجسد المطفأ / يهطل العتم برؤس أصابعه / يبسط وجهاً خلع ملامحه[ سؤال الجسد؟
أنا أرقص بروحي وبجسدي، أقول بكليْهما، أنتفض بكليْهما، وأحب بكليْهما، الجسد مفتاح الروح والعكس صحيح،
لهذا لا يمكن أن تُطلق الروح وتأسر الجسد. لا يمكننا الطيران بجناح واحد.

* ما إن تبدع امرأة حتى يخوض البعض في المغالطة حول (جندرة الأدب) إن صح ما هو بين مزدوجين برأيك، هل هناك شعر أنثوي وآخر ذكوري – أدب من خلال النوع؟ هل تقبلين بهكذا تصنيف لكتابتك الإبداعية؟

ليس هناك في الشعر سوى الشعر. ما يهم القارئ هو الشعر وانعكاساته في داخله وليس من كتبه، نعم هناك نصوص بمجرد قراءتها تدرك أن كاتبتها امرأة أو العكس، وهناك نصوص تلتبس عليك، ولهذا من غير المهم من كتب النص. الشكل العام للأدب لا يمكن فصله بين (حرملك وزلملك) بالتأكيد نصي خارج هذه التصنيفات حتى لو صنفوها كذلك.

* صفي لي المشهد الثقافي السوري. ماذا فعلت الحرب بهذا المشهد الأنيق؟ هل سيتغير خطاب الإبداع السوري بالضرورة لخطابات أخرى أكثر حدَّةً وعنفاً أم سينجو من هذه الهوّة؟
على العكس تماماً أرى المشهد السوري، وإن كان مبعثراً الآن، فهو متَّقدٌ جداً، أصوات كثيرة في السنوات الأربع الأخيرة ظهرت في الساحة بقوة، وسقطت أسماء كثيرة أيضاً من المشهد الساخن.
رغم أن رحى الحرب الفتَّاكة، تسلَّلت للنص بقوَّة، لكنها في النهاية أصبحت جزءاً من الحقيقة التي لا يمكن تنفصل عنها..
الأدب بكلِّ أشكاله هو سيرة تاريخية لكاتبه.

* [ قبيل الحرب بقليل/ أفترش زند بندقيته/ ونامت الشراشف دون عراك] سؤال الحب في زمن الحرب؟
ما هي مهمة الحرب برأيك؟
الحرب لا تفعل شيئاً سوى رمي أصص الحياة من على الشرفات، ولهذا منحني الحب أرجلاً قويةً للركض، قبل أن يسقط أصيص كبير فوق رأسي فأموت بركام الحياة.
في الحب دائماً أنت تنتظر أن تفي بوعودك للمحبوب (لن أموت، سنكون معاً، سنضحك طويلاً من هذه الحرب ومن دموعنا المالحة)، الحب يغرقك بالأمل، ولهذا رغم كل هذا الموت والبشاعة تبقى متفتحاً كزهرة في الثلج.

* الشعر محكوم، في أشكاله كلها، بسقوفات واطئة وصلدة، بالتشابه والتكرار. كيف ترفعين سقف نصّك الشعري للأبعد، كيف تغربلينه من شوائب الأصوات الأخرى؟
كل نص هو بصمة كاتبه، ولا يمكن للبصمات أن تتشابه أبداً. الكتابة ليست مهنة أو مهمة يجب عليك أن تقوم بها،
أنا أترك نفسي حرَّةً تماماً أمام الحالة التي تعتريني لحظة الكتابة، أي محاولات للكتابة خارح التلقائية هو اغتصاب سافر للنص، ولأنك لا تمر بذات الحالة كل مرة، فلا يمكن أن تتشابه نصوصك.
فقط فقط يجب أن نبتعد عن اغتصاب النص والنفس.

* ثمة هجرات واسعة لمبدعين سوريين حول العالم، وأظن أن هذه التغريبات قد ساهمت بحضورهم وشهرتهم بشكل كبير، هل تراودك الهجرة؟
تروادني الهجرة جداً في الفترة الأخيرة، وبالتأكيد ليس بسبب الرغبة بالشهرة أو بالحضور في الأوساط المختلفة. كل ما أرغب به حقيقة، هو أن يرى أطفالي وجهاً آخر للحياة بعيداً عن الحرب، أن يتعلموا الحب والغناء وأن ينسوا شكل الرصاصة والإطارات المحروقة، وأن لا تكون كل ألعابهم العفوية متاريس وأسلحةً وجثثاً.

* كيف تشعرين بخذلان العالم لسوريا والسوريين؟
منذ أيام قليلة سمعت ابني الكبير (10سنوات) يردد كما تعلم في المدرسة (أمة عربية واحدة)، فقلت له سريعاً: ليست واحدة، حتى وإن بدت كذلك من خلال التعاطف الشعبي، كل شعب مشغول بحروبه الخاصة فأساسات الشعوب هشة وعلاقاتنا مع ما حُشِيَ في رؤوسنا مغلوطة
دائماً، التاريخ يكتبه الأقوى، والأقوى ليس دائما على حق, الأقوى وضع الجغرافيا والتاريخ والدين، تحت تصرف مصالحه، ولهذا تجدنا نتخبط في ما نشعر به وما نقوم به. الخذلان العربي كان السكين القاتلة على رقبة السوريين، وإذا كان إخوتك في الدم هم من يقتلونك، فلِمَ تطلب من بقية العالم أن يكون بجانبك؟
المصالح الثروات والموقع الجغرافي، هو من يحرك الحرب السورية، وحين تتكلم المصالح الجميع يخرس.

* [ولأن الموت يتربع على الباب/ دسست وصيّتي في جيبه/ البعيد من القلب/ القريب من الموت..] سؤال الموت؟
حقيقةً لم أعد أكترث لأمر الموت، حين لا تتوازن كفتك مع كفة الموت فمن الحمق أن تفكر بأنك ستفوز دائماً، الحياة ليست مسلسلاً كرتونياً يفوز فيه الخير في النهاية، ويصيح الشر وهو يهرب، سنتقابل في جولة جديدة،
الموت في الحرب غدار غدار، وأنت لا تملك مرآة أمامك لتراقب السكاكين التي تتسلل لظهرك، ستعرف الموت حين تنغرس السكين في الظهر، ويمر شريط ذكرياتك بسرعة.
الحرب تعلمك كيف تتعايش وتتحايل على الموت، وإن صحَّ التعبير، فالحرب تجبرك على أن تصادق الموت بطريقة ما، وتمضي حياتك وكأنَّ هذا الصديق الجديد لن يخونك.

 

*شاعر وقاص وروائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى