ثمار

لحن نشيد الثورة

هادي راضي

تعريفات:
المغني: الذي يؤدي أغاني الروّاد.
المطرب: هو من يختار أغاني رسخت في وجدان الشعب كأعمال خالدة، وبالضرورة تبعث الطرب والبهجة في النفوس لحظة سماعها. لا يهم إن كان لك رأي آخر، مثل أن تقول إن تلك الأغاني لا تهز فيك شعرة. فالمُشَرِّع استنبط معاييره من ذائقة كهنة الاستماع بالإذاعة والتلفاز، خيّالة الإيقاع، حراس الـ(تُم تُم) و(الدليب)، مرابطي الدفوف الشرقية، ومتسلقي السلالم الموسيقية.
المادح: هو الذي يُنقِّب في مآثر الأنبياء والرسل وأولياء الله الصالحين.
الصدّاح: كل من اعتلى خشبة مسرح في حفل تخريج طلاب أو طالبات من إحدى الجامعات.

عتبة:
بينما كنت أحس أن الوقت يمر بطيئاً مثل سلحفاة هرمة، كان الأمر عكس ذلك عند الجمهور المحتشد أمام المسرح متفاعلاً مع المغني ومطالباً بمزيد من الوقت. وكانت لمبات الليزر الملونة تسقط أشعتها على الوجوه والأجساد فتبدو مثل كائنات فضائية.

النص:

1
الساعة تحث الخطى لبلوغ الحادية عشرة ليلاً موعد انتهاء الحفل، حسب التصريح الممنوح من السلطة المختصة والمعنية بالسماح، أو عدم السماح بإقامة الحفلات الجماهيرية. فالحفلات ما عادت تقام متى وأين شاء المرء أو الجهة مثلما كان يحدث في الماضي. صار الأمر أكثر تعقيداً، بدءًا بتسديد رسم التصريح لقسم الترفيه بمبنى المحافظة، مروراً بشرطة المصنفات الفنية لاستخراج شهادة إجازة صوت المغني، أو المطرب، أو المادح، أو الصداح. لكل واحد من هؤلاء توصيف محدد في ديباجة النظام الأساسي للمصنفات كما ورد في التعريفات أعلاه، ولكل واحد منهم رسم معلوم يدفعه  من يريد إقامة حفل. ومن ثم، لا بد من المرور على الشرطة الفنية لتسلم قائمة بالأغاني التي يجب أن يسمعها الجمهور، انتهاءً بلجنة الأمن للاطلاع على ملف المغني. وبحكم منصبي كقائد فرقة موسيقية، تعاملت مع كل الأصناف سوى المداحين.

2
وقّعتُ على استمارة المشاركة باسم الفرقة الموسيقية التي أقودها، وصار لزاماً عليَّ أن أبدع لحناً لنشيد الثورة الذي يتغير لحنه كل عام.. ومنذها وأنا تتقاذفني الهواجس والأفكار، وأتساءل: كيف أؤلف لحناً مغايراً للألحان السائدة والمكررة التي وضعها الملحنون السابقون؟ كانت ألحاناً ممجوجة، صاخبة تارةً، فاترة وضعيفة تارةً أخرى، ألحاناً تخلو من بصمة الملحن الذي وضع اللحن، هي توليفة من ألحان سابقة أنجزها ملحنوها على عجل.
مهرجان عيد الثورة يقام وفقاً للمادة السابعة من دستور البلاد التي أعطت مجلس قيادة الثورة الحق في تنظيم تظاهرة سنوية تخليداً لذكرى أولئك الذين ضحوا بحياتهم من أجل ترسيخ مبادئ الثورة. يُقال – والعهدة على الراوي- إن نائب رئيس مجلس قيادة الثورة الملقب بالنمر ذي النياشين البراقة، هو من اقترح ذلك في العام الثاني من عمر الثورة.
وضع المختصون تصوراً لتلك التظاهرة التي تستمر شهراً كاملاً، ورأوا أن تجسد شعارات الثورة، وتخاطب محاورها كل قطاعات المجتمع، بدءًا بالعمال الذين اختارت منهم اللجان المتخصصة شريحة الحمّالين، فاقتُرِحَتْ جائزة الحمّال النموذجي، وتمنح للحمال الذي يستطيع أن يرتقي سلماً عدد درجاته تساوي عدد سنوات الثورة، واضعاً على ظهره جوال ذرة ليفرغه في جوف طاحونة نُصِبت عند نهاية السلم العليا، وخرطومها يتدلى حتى يصل الأرض، وعلى الحمال أن يفرغ جوال الذرة في بطن الطاحونة وينزل بسرعة حاملاً الجوال الفارغ ليتلقف دقيق الذرة قبل أن يندلق على الأرض.
وجوائز أخرى لمديري ورؤساء المؤسسات بمختلف تخصصاتهم، الفنانين والأدباء، الرياضيين، المزارعين والرعاة، سائقي البصات السفرية واللواري… الخ.
لم يُكتب لنائب رئيس مجلس قيادة الثورة ذي النياشين البراقة، أن يشهد أول مهرجان لعيد الثورة. مات بسكتة قلبية أثناء مخاطبته لحشد جماهيري بمدينة حدودية، فألحق المختصون جائزة القصة ووضعوا لها شرطاً واحداً، هو أن تنقِّب القصة المُشاركة في مآثر الفقيد الراحل ذي النياشين البراقة. وأُضيفت جائزة التَّسفار وكسب ثقافات الأمصار، بتوصية من وزير الثقافة، وتمنح لأكثر الناس سفراً خارج الوطن، وفي دورتها الأولى والدورات التي بعدها كان يفوز بجائزتها خاله، وزير الخارجية، ثم حجبت بعد أن مات إثر تحطم طائرته بينما كان في رحلة تنقيب عن ثقافات الشعوب  الأخرى.

3
الساعة تقترب من الحادية عشرة إلا قليلاً، والمغني على وشك الانتهاء. الجمهور يغلي كالمرجل يطالب بأغنية كان يؤديها في المرحلة الجامعية.. يطالبونه برائعة الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر.
يطلبون منه أن يغني، ولا يدرون أن السلطات منعته من ترديد تلك المقاطع بعد أن صارت شعاراً لمناوئي الثورة خارج البلاد.
أنقذه أحد أفراد لجنة الأمن حين فصل سلك المايكروفون من السماعات لعدة دقائق، هي ما تبقى من زمن الحفل المُصرح به. الحفل الجماهيري الشهري الذي ينتظم بشكل راتب منذ أمد، ولم يكن الغرض من الحفلات هو الترفيه عن الناس، بقدر ما كان تكنيكاً أمنياً لشغل الناس وصرف أنظارهم وتفكيرهم عن قضايا تتعلق بمعاشهم.. فمنذ أن قدّم مكتب متابعة ورصد حركة الجماهير، تقريراً مفاده أن الحفلات الجماهيرية تسهم في استتباب الأمن وخفض معدل الجريمة بنسبة 50%، صارت الحفلات الجماهيرية الشهرية هي الشغل الشاغل للمسؤولين في الدولة. والجريمة في عرف مكتب المتابعة ليست  هي السرقة أو القتل أو النصب والاحتيال، إنما هي حديث الناس عن الثورة، وعن حالات الثراء المفاجئ الذي هبط على بعض الناس. المجرم هو من يحدث الناس عن أن البقال، صهر عضو مجلس قيادة الثورة، صار يملك أسطولاً من الجرارات وناقلات النفط. أو يقول إن الصحفي المبتدئ ابن أخت عمدة العاصمة، صار رئيس تحرير لصحيفة مرموقة، ويملك مطبعة تخصه. ومحكوم الإعدام هو من يقول إن الدواء غير متوافر، والأطفال يموتون كل يوم بالعشرات، وإن بالولاية الكُبرى أكواخاً لا تملك المقدرة على الصمود أمام الرياح والأمطار والفيضانات، مقابل غابات خراسانية باتت تسد الأفق.

4
ما انفك تفكيري يبحث عن جملٍ موسيقية تكون قالباً فنياً للحن توضع فيه كلمات نشيد الثورة في عيدها. منذ أكثر من شهر وأنا أقف كالأبله أمام الجُمل الموسيقية المُتخيّلة وأقيسها على كلمات النشيد، كل القوالب اللحنية التي اقترحتها لا تناسبه، فالنشيد كلماته ركيكة ودلالاتها ضعيفة كنظم شاعر مبتدئ، آثار النفاق ومداهنة الثورة وأعضاء مجلسها واضحة. نشيد تأباه الألحان الجيدة والمتماسكة، تجده يقفز خارج سياق الألحان القوية ويستكين عند الألحان الهزيلة والفارغة من أي محتوى.
كيف أوفق بين المبادئ والتقاليد في وضع الألحان؟ لا بد من الالتزام بعدم التكرار. لا بد لي أن أجد اللحن الذي يتناسب مع النشيد ولا يخل بمبادئي وقناعاتي. منذ أكثر من شهر، أضع ألحاناً، أدونها كنوتات موسيقية ثم أمزقها، مرة أؤلف لحناً يستلهم حضارات كوش ونبتة بطقوسها الغرائبية، لحناً يسمو بمن يسمعه إلى عالم الأساطير القديمة، لحناً بعظمة الملكة أماني شخيتو، وبهاء الكنداكة وطموح بيعانخي.. لكن عندما أقرأ كلمات النشيد أكون مثل الذي أُسقِط من جبل شاهق وهوى إلى السفح فدق عنقه، الكلمات لا ترقى إلى تلك العظمة اللحنية.. والألحان المجيدة تأبى أن تتنزل  إلى حضيض الركاكة.. وبين الأمرين أفقد السيطرة كل مرة على أعصابي، أمزق اللحن.. أعلن الدخول صاغراً إلى عالم اللا وعي، استدعي لفافاتي لكي ترافقني إلى دنيا الأوهام.. أدخن حتى يصيبني الإعياء، أو يدب فيّ الانتشاء.
أعود لأضع لحناً آخر، أستحضر فيه البُعد الصوفي المتجذر في ذاكرة الشعب، استدعِي ليالي الذكر في زريبة المكاشفي، أستلهم وجْد المريدين في ساحة ضريح حمد النيل.. حيث تتحرر الروح من عقال اللحظة الآنية وتسبح في ملكوت بهي ونضر.. تتلاقى الأشواق عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فتغسلها العبرات المنسدلة من مآقي المريدين.. وإيقاع طبل النّوبَة يكاد يقتلع القلوب من تجاويفها، لحناً يستدفئ بعمق التجربة ويجلو غمارها. آخذ الكلمات وأضعها على اللحن فتبدو الشقة بعيدة.

5
سكت المُغني، وصمتت الآلات الموسيقية عند الحادية عشرة تماماً. كعادته عند انتهاء الحفل، ينزل من خشبة المسرح ويختلط بالجمهور، تطوقه الكاميرات والهتافات والتصفيق وعناق المراهقات. يكون محاطاً بالمعجبين والمعجبات من كل الأعمار. إحدى النساء شقت الجموع حتى وقفت أمامه، كانت تحمل طفلاً رضيعاً. قالت:
– سميته باسمك.. رجاءً أريده أن يتصور معك.. للذكرى.
ناولته الرضيع وانسحبت عدة خطوات. أخذه من يدي أمه، حمله بين يديه وظل يداعبه ويقبله.. والكاميرات توثق للّحظة وسط هتافات المعجبين وتصفيقهم.
من المؤكد أنها ستكون مادة دسمة وشائقة لذاك الصحفي المبتدئ.. سينسج قصصاً وحكايات تمجد الفن الثوري والتحامه بالجماهير مُعبراً عن قضاياهم، خاصة اهتمامه بقضايا الأطفال والنساء، ولا بد أن أحد الصحفيين بالحفل، خطط لمانشيت عريض في الصحيفة التي يعمل بها: (مغني الثورة يؤكد اهتمامه بالأطفال). وتصاحب المانشيت صورة المغني والرضيع بين يديه.
وثّق الناس تلك اللحظة بكاميراتهم الرقمية، هواتفهم الذكية وذاكراتهم الآدمية.
حينما خفت بريق تلك اللحظة، تلفت المغني حوله ولم يجد أم الرضيع. جال ببصره بين الحضور لكنه لم يرها. بدت الحيرة تكسو ملامح وجهه. الجمع الذي حوله أحس بورطته، صار كل منهم يلتفت ناحية الآخر. كلٌّ يبحث في الآخر عن أم الرضيع، لكن لا أثر.
سرى الهمس، التكهنات، الشائعات حول الرضيع، ثمة من ذهب بالقول إلى أنه ابن المغني من عشيقته.. وآخر شط في الخيال وقال إن المرأة لم تكن سوى جنية، والرضيع ما هو إلا جني صغير. السلطات قالت إنها مؤامرة من المعارضة لإحراج الثورة عبر مغنيها. تحول المكان إلى سجن مفتوح بعد أن أُغلقت الأبواب. في زمن وجيز حوصر المكان بالدبابات والعربات المصفحة، وثمة عربة مليئة بأفراد من لجنة الأمن بملابسهم المدنية قطعت الطريق الرئيسي القريب من مكان الحفل. بدأت حملات تفتيش العربات والعابرات من النساء، لا أحد منهم رأى أم الرضيع.. لكنهم يقتادون كل من اشتبهوا  فيها إلى داخل المسرح ليتعرف عليها المغني.. عشرات النساء جيء بهن.. نساء بدينات وأخريات نحيفات، جميلات، متوسطات الجمال وقبيحات. المغني يحمل الرضيع بين يديه ويبحلق في النساء اللائي يجيء بهن أفراد الأمن تباعاً ويخرجن، يبحلق في كل واحدة منهن ويهز رأسه بالنفي، صار رأسه مثل بندول الساعة يتحرك يمنة ويسرة بشكل آلي، ولا يستقر أبداً، حتى بعدما توقف أفراد الأمن عن إحضار النساء، استمر المغني في ذات الحركة الآلية.
ثمة امرأة جيء بها تبكي، ترتعد خوفاً وقد بللت ملابسها.. لا تدري لمَ يقتادونها، كانت تصيح وتسأل من بين دموعها ماذا فعلت؟ وحينما وقفت أمام المغني، وقع بصرها على قائد القوة ببزته الرسمية.. سقطت مغشياً عليها، وقبل أن يحملوها إلى خارج المسرح كانت قد لفظت أنفاسها، ولم تكن هي أم الطفل بأية حال من الأحوال.
سكنني القرف. حاولتُ الابتعاد عن هذا الجو الخانق، فاحتميت بظل اللحن الذي أبى أن يتدفق.. رفض الخروج إلى واقع ينضح بالزيف والرياء، وتتأصل فيه قيم الأنانية وحب الذات وإقصاء الآخر. أعوام من القهر والكبت والموت والفقر، أفرزت كائنات آدمية لها مخالب وأسنان ذئاب، تنهش وتعض بعضها بعضاً..
يا له من عالم.. ويا لها من ليلة مؤرقة، مشحونة بالتوتر والإحباط، فمن بين مشاهد النسوة اللائي يأتي بهن الجنود إلى المسرح، وهزة رأس المغني، وصراعي الذي يبدو أنه سيظل أبدياً من أجل إبداع لحن لنشيد الثورة في عيدها.. من بين كل ذلك انسللتُ خارجاً من المسرح وحدي، همتُ في ليل المدينة الغارقة في ظلمة دامسة. دواخلي تشبه ظلمة ذلك الليل. سرتُ بلا هدى في أزقة المدينة الضيقة، وشوارعها الفسيحة.. لم أقابل أحداً، ولم يقابلني سوى شبح – لم أتبينه جيداً – لكنه يبدو ككلب، فر هارباً من أمامي حين فوجئ بظهوري،، ربما لم ير آدمياً يسير في مثل هذه الساعة منذ عشرات السنين، فمنذ سنوات خلت، أُصدر فرمان سُمي (دليل الترفيه للأُسر والأفراد)، حُددت فيه البرامج الليلية للأُسر والأفراد، ينتهي عند الحادية عشرة ليلاً، ولا يُسمح بعد ذلك بالخروج من المنازل إلا للحالات الطارئة، كالمرض وحالات الولادة للنساء، أو الخروج للإدلاء بإفادة مهمة للسلطات، غير ذلك لا يسمح بالخروج قط. صارت الشوارع مرتعاً للكلاب الضالة والقطط والحمير وكل الدواب والهوام. الشبح فر من أمامي ليلتها، بينما أنا هائم في المدينة لا أدري إلى أين ستقودني خطاي. سرتُ طويلاً حتى وجدت نفسي أمام النزل الذي نقيم فيه، يفصل بيني وبين  مدخله بص سفري مخصص لنقل الفرق الموسيقية إلى خارج العاصمة. بص تم تجهيزه بشكل يليق بفرق موسيقية تتبع للثورة، والمضيف المتأنق يمسح زجاج النوافذ، وهو يترنم بلحن أغنية شائعة، تتوسل كلماتها لحبيبة هجرت حبيبها.. ما إن لمحني، حتى توقف عن الغناء. ترك عمله واقترب مني، حياّني بحرارة ثم باغتني بسؤال لم أفهم مراده إلا بعد حين:
– سهرتك كيف يا أستاذ؟
التفت إليه بنصف وعي وأجبته:
– لا أعرف.
– إذن تعال.
جذبني من يدي إلى داخل البص.
ثمة فتاتان ملامحهما تشي بأنهما من دولة مجاورة.. تبتسمان ببلاهة وعهر. شعرت بالغثيان ورغبة في التقيؤ.. وددت لو أتقيأ على وجه المضيف الداعر، لكنني لم أفعلها، ولم أنبس ببنت شفة، نزلتُ وولجتُ مباشرة إلى داخل النزُل.

6
بينما كنتُ أتهيأ للنوم، داهمتني فكرة لحن يليق بتلك الكلمات الركيكة، نفضتُ النعاس، وشرعتُ في دوزنة اللحن.
عندما وضعتُ اللحن بشكله النهائي كانت الشمس قد أشرقت.
في ذات اليوم، أعلنتُ لأعضاء الفرقة أن اللحن جاهز، وعلينا تكثيف البروفات حتى نتقنه جيداً. استمرت التمارين على اللحن زهاء الأسبوع.. من ثم أخبرت المسؤول عن احتفالات عيد الثورة، بأنني صغت اللحن. دعوته للحضور إلى دار الموسيقيين للاستماع.
عزفت الفرقة اللحن. لحنٌ يبدأ بمارش عسكري عنيف وصاخب، يستلهم عنفوانه من قصيدة الشاعر الشابي، يبدأ اللحن مراوغاً، منفلتاً من إسار التقليد والمحاكاة.. يهدأ قليلاً.. يتصاعد، يحمل في طياته الطفل الرضيع وأمه، يمزج الحنين بالرغبة في الموت.. يعود إلى الخفوت مرة أخرى، يغدو جنائزياً حزيناً ليلتقط مناحة المرأة التي ماتت في المسرح خوفاً. يمضي اللحنُ بعدها عنيفاً صاخباً في وتيرة تنم عن احتجاج ورفض، تتخلله لازمات موسيقية تستصحب ليل المدينة وتحوله إلى عواء ونباح ومواء، ليهبط رويداً رويداً، حتى يتلاشى بين أفخاذ الفتاتين الأجنبيتين.. فارداً  أنينه وآهاته في فضاءات لا نهائية.
توقفت الآلات الموسيقية عند نهاية اللحن، عمّ المكان صمت مهيب. الرجل المسؤول عن احتفالات عيد الثورة صامت أيضاً، ونحن في انتظار ملاحظاته ورأيه في لحن نشيد الثورة الجديد.
بعد مدة، وقف الرجل بعد أن كان جالساً على كرسي قبالة الفرقة الموسيقية. نظر إليّ طويلاً ثم قال: “هذا اللحن لن يعجب القائد”. وخرج.

 

* قاص من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى